أشادت فصائل المقاومة الفلسطينية في بياناتها وتصريحات قادتها بالفريق الشهيد قاسم سليماني بعد اغتياله على يد الأمريكان، لما قدمه من دعم بالمال والسلاح والخبرات للمقاومة الفلسطينية من خلال موقعه كقائد لفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني المُكلّف من الدولة الإيرانية بدعم المقاومة ضد الكيان الصهيوني، وأُطلق عليه وصف شهيد القدس اعترافاً بهذا الدور وتجسيداً لقيمة الوفاء للفريق سليماني، وتطبيقاً لمبدأ الاقتراب من الآخرين بقدر اقترابهم من فلسطين. ولكن هذا الموقف الصادق لم يُعجب آخرون من الذين فرحوا بمقعدهم خلف أمريكا و(إسرائيل)، وكرهوا أن يكتموا فرحهم ويكتبوا سرورهم في صدورهم، فأظهروا فرحهم وسرورهم باغتياله، وأفتى آخرون بوجوب الفرح وإظهار المرح باغتياله، وتجاوز بعضهم مرحلة الفرح إلى الشكر، فشكروا أمريكا على وقفتها الرجولية لله والحق والخير كما شكروها أول مرة في سوريا ومن قبلها ليبيا. وبين هذين الموقفين تبقى حقيقة واضحة رغم غياب سليماني بعد جريمة الاغتيال فقد بقيت فلسطين حاضرة في قلب إيران.
فلسطين حاضرة في قلب إيران الثورة، ولكن قبل الثورة كانت (إسرائيل) هي الحاضرة في إيران، فقد كانت إيران الملكية في عهد الشاه محمد رضا بهلوي ثاني دولة إسلامية تعترف بـ(اسرائيل) عام 1950 بعد تركيا الاتاتوركية، وشكلت الدول الثلاث تحالفاً يدور في فلك أمريكا ضد نفوذ الاتحاد السوفيتي في الشرق الأوسط، وضد المد القومي الثوري في عهد الزعيم جمال عبدالناصر. ونشأت علاقات استراتيجية بين إيران الملكية و(إسرائيل) الصهيونية في مختلف المجالات أهم ملامحه تزويد إيران للكيان الصهيوني بالنفط، وتزويد إيران بخبرات وأدوات القمع الإسرائيلية ضد المعارضة الثورية الإيرانية، والتبادل التجاري لصالح الاقتصاد الإسرائيلي، وسمحت أمريكا لإيران الشاه بلعب دور الشرطي في الخليج العربي لإبقاء حكام الخليج في بيت الطاعة الأمريكي، ولم يستدعِ أحدٌ آنذاك الصراع القومي بين الفرس والعرب، ولم يُخرج أحدٌ من القمقم مارد الفتنة المذهبية بين السنة والشيعة.
حضور (إسرائيل) في قلب إيران الملكية قبل الثورة الإسلامية، قابله حضور فلسطين في قلب قائد الثورة ومفكرها الأول السيد الخميني – رحمه الله – الذي ظهر وكأنه رصاصة انطلقت من القرن السابع الميلادي (الأول الهجري) إلى صدر القرن العشرين- حسب وصف محمد حسنين هيكل- ليقود الثورة ضد النظام الحاكم مُتخذاً من دعم نظام الشاه محمد رضا بهلوي للكيان الصهيوني وتوفيره النفط له وتصريف بضائعه في إيران وتحالفه الاستراتيجي معه مدخلاً لنزع شرعية النظام الحاكم، ومعتبراً أن أحد أهم أسباب الثورة ضد النظام الحاكم هو علاقته الوطيدة بالكيان الصهيوني، وعدم تأييده للحق الفلسطيني. وحضور فلسطين في فكر الثورة قبل انتصارها تجسّد من خلال مواقف مفكرها وقائدها الذي أفتى بوجوب دعم المجاهدين الفلسطينيين بالمال المخصص للزكاة والصدقات، ووجوب مقاطعة (إسرائيل) وتحريم التعامل معها والاعتراف بها، واعتبر محاربتها وإزالتها من الوجود واجب ديني وأخلاقي وإنساني.
هذا الحضور لفلسطين في فكر الثورة الإسلامية قبل انتصارها، تحوّل إلى واقع فعلي ونهج ثابت وسياسة دائمة لإيران بعد انتصار الثورة عام 1979 وإنشاء الجمهورية الإسلامية، ودخلت فلسطين في صلب مشروعية الثورة الإسلامية، ومن مرتكزات شرعية النظام الثوري، وأحد مكونات هوية الجمهورية الإسلامية في إيران، وأصبحت محوراً ثابتاً ومُحدِداً أساسياً في سياسة إيران الخارجية ومشاركتها في المحافل الدولية. ودعمت المقاومة الفلسطينية. وعملياً بعد اسبوع واحد من النصر أغلقت السفارة الإسرائيلية في طهران وسلمت مفاتيحها لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكان أول ضيف أجنبي زار ايران الراحل ياسر عرفات ليلتقي بقائدها وبجماهير الثورة التي استقبلته بشعار ( اليوم إيران وغداً فلسطين)، وأُعلن عن يوم القدس العالمي كيوم للتضامن مع القدس وفلسطين وتأكيد الالتزام بتحريرها، وأُعلن عن تشكيل فيلق القدس لتكون أهم مهماته دعم المقاومة... وظلت إيران تسير على نفس النهج والسياسة في عهد المرشد الأعلى الثاني لإيران السيد علي الخامنئي.
حضور فلسطين في قلب ايران الثورة والدولة تخلله الكثير من المتشابهات التي طغت على سطح العلاقات الإيرانية الفلسطينية على مدار أربعة عقود من عمر الثورة والجمهورية، كان أولها الحرب العراقية الإيرانية، فبعد فشل الشهيد ياسر عرفات في التوسط لوقف الحرب اصطف إلى جانب العراق، فكان ذلك سبباً للتوتر بين إيران والمنظمة وأدى ذلك إلى تشكيك المنظمة بموقف إيران من القضية الفلسطينية، كما أن توّجه المنظمة لمسار ( الحل السلمي) ساهم في استمرار التشويه والتشكيك المتبادل بين الطرفين، وزاد طين التوتر بلة وتعقيداً اتهام المنظمة لإيران بدعم الانقسام الفلسطيني من خلال دعمها لحركات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. وفي الجانب العربي من الأمور المتشابهة التي اُستغلت لتشويه موقف ايران من القضية الفلسطينية ما حدث في ثورات الربيع العربي من صراع اقليمي اتخذ في بعض جوانبه الطابع المذهبي ووجود إيران في قلب هذا الصراع فاتهمت بتوظيف القضية الفلسطينية لخدمة أهدافها الاقليمية.
خلاصة المقال يُمكن القول أن حضور فلسطين في قلب إيران الثورة والدولة هو سبب غياب الفريق قاسم سليماني بجريمة الاغتيال الصهيوأمريكية، باعتباره رمزاً لحضور فلسطين في قلب إيران. ورغم كل ما قيل عن دوره في الصراع الاقليمي والمذهبي في المنطقة تبقى حقيقة واحدة لا يمكن إغفالها وهي أن اغتياله جاء بسبب مكانته كقائد لفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني المُكلف من قيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية بدعم المقاومة ضد (إسرائيل) بالمال والسلاح والخبرات، وبسبب دوره في ترجمة هذا التكليف على أرض الواقع فعلاً جهادياً يؤذي (إسرائيل) ويُهدد أمنها ووجودها، فيغيظ أمريكا التي تعتبر حفظ أمن ووجود (إسرائيل) أهم ركائز أهدافها وسياستها في المنطقة، فمن اسخطها فله السخط الأمريكي ومن بعده العقوبات والموت، ومن أرضاها فله الرضا الأمريكي، ولا يعفيه ذلك من دفع الجزية ومن ثم (الخاوة) لأمريكا. أما الراقصون طرباً وفرحاً على أنغام موسيقى الموت الأمريكية فنصيبهم الصغار والعار في الحياة الدنيا، ولعذاب الخنوع والخضوع أكبر لو كانوا يدركون.