دراسة : تحولات اجتماعية مهمة في القدس

الساعة 10:59 ص|11 يناير 2020

فلسطين اليوم

تظهر دراسة فلسطينية جديدة أن الحركات الاجتماعية في القدس المحتلة انتقلت من الكفاح الوطني العام إلى النضال التنموي المحلي وبناء السيادة من أسفل. وتقدم سلة توصيات لاستعادة الروح الأهلية النابضة والفعالة.

ويوضح الباحث المقدسي الدكتور وليد سالم أن دراسته حول الحركات الاجتماعية في المدينة تهدف الى تشخيص وتحليل حالة الحركات الاجتماعية في الشطر الشرقي من المدينة في إطار مثلث استيطاني استعماري احتلالي أبرتهايدي، فصل عنصري والتحولات التي طرأت على هذا الكفاح بين مرحلتين: الكفاح الوطني العام ( 1967-2001) ثم الانتقال الى الكفاح المحلي من عام 2001 وحتى اليوم.

في جانبه النظري يشمل البحث استعراضا مكثفا لمفهوم وتعريف الحركات الاجتماعية بأنواعها السياسية والتنموية والمجتمعية، ودورها في تطوير السيادة وبنائها. كما يتضمن تحليل البيئة الاستيطانية الاستعمارية التي تعمل في إطارها  الحركات الاجتماعية في القدس الشرقية  والردود الفلسطينية الرسمية عليها.

ويتطرق البحث بعد ذلك إلى مراحل العمل الوطني الفلسطيني في القدس وأدوار الحركات الاجتماعية  في بناء السيادة على القدس من أسفل أو بالتكامل مع أعلى  منذ عام1967.

وفي الختام يعرض البحث دروساً مستفادة وأسئلة وخلاصات حول مغزى تحول الحركات الاجتماعية في شرق القدس من العمل الوطني الكفاحي العام إلى العمل التنموي المجتمعي المحلي. كما يشتمل القسم على مقترحات عمل للمستقبل فلسطينيا وعربيا ودوليا بشأن إمكانية  اعتماد الحركات الاجتماعية كرافعة لبناء السيادة الفلسطينية على القدس من أسفل ولاستعادة مركزيتها على كافة المستويات.

يشار إلى أن القدس التي سيتطرق اليها البحث هي شرق القدس المحتلة عام 1967، وليس كل القدس بشطريها، حيث تحتاج الحقوق الفلسطينية في القدس الغربية بكل مكوناتها وتعقيداتها إلى بحث خاص كمل ينوه الباحث.

كما تبين من البحث، فقد نشأت الحركات الاجتماعية في القدس منذ سنوات الاحتلال الاولى من القرن الماضي على شكل اتحادات معلمين ولجان عمل تطوعي، وفي أواخر الستينيات والسبعينيات اقتصر العمل على المحور الوطني الكفاحي بشكل أساس. وتم ذلك من خلال افعال اجتماعية كفاحية قادتها مؤسسات مثل كفاح الاوقاف الإسلامية والمسيحية للحفاظ على استقلاليتهما من تدخلات الاحتلال، وكفاح المعلمين كمؤسسة تمثيلية المبكر في نهاية الستينيات من القرن الماضي لمنع فرض المنهاج الاسرائيلي على مدارس القدس، وتشكل الجبهة الوطنية ولجنة التوجيه الوطني في القدس، إضافة الى لجان العمل التطوعي التي يمكن اعتبارها أساسا للحركات الاجتماعية التي نشأت بعد ذلك.

وحسب الدراسة تم في هذه الفترة بناء السيادة بدرجتها الأدنى في شرق القدس أي كتثبيت للوجود الوطني الفلسطيني ومؤسساته في المدينة.

وتقول الدراسة إنه في الثمانينيات من القرن الماضي نشأت الحركات الاجتماعية، وذلك على شكل اتحادات جماهيرية تابعة للفصائل الفلسطينية، حيث شكل كل فصيل حركاته النسوية والعمالية والطلابية والشبابية. ونشطت هذه الحركات بشكل تنافسي وكان لكل منها عضوية وهدف.

وساهمت هذه الحركات في الانتفاضة الأولى، التي شهدت القدس المحتلة خلالها بعض التعاون بين أسفل (الحركات الجماهيرية) وبين أعلاها (ممثلا ببيت الشرق بقيادة فيصل الحسيني) لبناء السيادة معا في القدس من خلال اعمال كفاحية شارك فيها الجميع ضد الاحتلال على طريق الاستقلال الوطني كدرجة ثانية لبناء السيادة على القدس الشرقية. وتنوه الدراسة الى أنه قبل ذلك كانت الفعاليات من أجل حفظ السيادة قطاعية نخبوية فقط (كالأوقاف والمعلمين مثلا)، كما طلبة المدارس في كفاحات عفوية.

وكانت فترة الانتفاضة الأولى هي الفترة الوحيدة للتعاون بين أعلى وأسفل، حيث اجتمعت قيادة القدس في الميدان مع فئات القدس (كالشباب مثلا) وقطاعات القدس (كالصحة والسياحة والتعليم والأوقاف وغيرها)، ولجان مختلف المجتمعات المحلية المقدسية معا. كل هؤلاء اجتمعوا في الميدان للكفاح ضد الاحتلال من جهة، ولتحقيق التنمية من أسفل من أجل تعزيز البقاء والصمود للإنسان المقدسي على أرضه. أي تم الجمع بين الكفاح الوطني وبين تنمية المجتمع المحلي كأساسين لبناء السيادة على الأرض. على أن هذا الجانب لبناء السيادة الفلسطينية  في القدس بالتعاون بين أسفل وأعلى، قد اصطدم في حينه بعدة عوامل أدت إلى انهياره: تعود أولى هذه العوامل الى انسحاب مركز القيادة الوطني بشأن القدس تدريجيا من القدس الى رام الله. أما ثاني هذه العوامل فيتعلق بالتخطيط للقدس على أنها تتمثل بالقطاعات فقط، وليس القطاعات والمجتمعات المحلية التي تعاني من الاستهداف المباشر على أشكال مصادرة للأراضي، وهدم للبيوت وتهجير للسكان.

وبرأي الدراسة فقد أدى ذلك إلى خلق فجوة بدأت تتسع بين القيادة وبين المجتمعات المحلية المقدسية، وبين هذه الأخيرة وبين القطاعات التي صارت تحصل على فرص التمويل العربي والدولي لوحدها دون المجتمعات المحلية.

وثالث العوامل تمثل في تحول الحركات الاجتماعية إلى المهنية والمأسسة، مما أدى إلى تطورها إلى مؤسسات معتمدة على المنح الخارجية، وتعمل وفق أجندة المانحين، وبالتالي انفصالها عن قواعدها الاجتماعية السابقة وتحولها إلى الخدمات.

وتقول الدراسة إنه من المفارقة أن هذه المؤسسات الناشئة سمت ما فعلته بأنه تعزيز للمجتمع المدني الفلسطيني، ولكن ما فعلته في الواقع لم يكن سوى تجويف للمجتمع المدني حيث جردته من قاعدته الجماهيرية، كما افقدته بعده السياسي الكفاحي وطنيا ومجتمعيا في ظل انتقال التركيز الى البرامج المهنية البحتة.

ورابع هذه العوامل هو تقلص التمويل للقدس في ضوء تأجيل موضوع القدس للمفاوضات النهائية، وتوجه التمويل الضئيل الى القطاعات المهنية فقط درء للصدام من قبل المانحين مع الاحتلال فيما لو تم تمويل برامج لدعم السيادة الفلسطينية من أسفل.

وتشير الدراسة الى أن مرحلة ما بعد توقيع اتفاق أوسلو أيضا شهدت إعداد خطط رسمية  للقدس، وكان حظ هذه الخطط محدودا تطبيقيا، وذلك بسبب تردد المانحين عن اغضاب إسرائيل، وكذلك بسبب عدم إشراك المجتمعات المحلية في التخطيط والتنفيذ لهذه الخطط.

وتضيف « فوق ذلك شهدت مرحلة ما بعد أوسلو إنشاء مرجعيات رسمية لمتابعة الوضع المقدسي وذلك وفق أسلوب التعيين».

ورغم كل ما تقدم تقول الدراسة إن المرحلة منذ الانتفاضة الثانية عام 2000، ورحيل فيصل الحسيني عام 2000، وما تلاه من إغلاق لبيت الشرق و 13 مؤسسة فلسطينية أخرى تابعة لمنظمة التحرير في القدس الشرقية  شهدت انتقال الحركات الاجتماعية إلى المحلية، وذلك كتعويض عن تفككها واندثارها على المستويين الوطني العام والمقدسي العام أيضا.

وتضيف «وإذ يمثل هذا الانكفاء نحو المحلية  نكسة على حساب البعد الوطني العام في جانبه السلبي، إلا أنه يمكن استثماره لتعزيز المشاركة في صنع القرارات وفي بناء السيادة الفلسطينية في القدس المحتلة من أسفل وبالتعاون مع أعلى. لتحقيق ذلك تقترح هذه الورقة التمسك بنتائج بحث ميداني أجراه الباحث عام 2016 ونشره العام الماضي حول أمانة القدس، حيث خلص البحث إلى أن أفضل صيغة لبناء السيادة الفلسطينية في القدس في ظل موانع الاحتلال، يمكنها أن تتم من خلال انتخاب / أو فرز (وذلك حسب خصوصيات كل موقع) لجان مجتمعية فاعلة تنبثق عن الحركات الاجتماعية وممثلي القطاعات والفئات والمجتمعات، منوها أن ذلك يتم في كل مجتمع محلي مقدسي على حدة،  ثم تجتمع هذه اللجان التمثيلية في شبكة واحدة تحدد احتياجاتها التنموية كما وتشكل منها أمانة جديدة للقدس تعمل تحت إشراف منظمة التحرير، تتولى تلقي الاحتياجات المقدسية لكل المجتمعات المحلية بجوانبها: التنموية لبناء الصمود وتثبيت الوجود ، والكفاحية في سبيل استمرار النضال من أجل استقلال القدس كعاصمة لفلسطين.

وحسب الدراسة تقوم الأمانة الجديدة المقترحة بالاعتماد على الجهود والمساهمات المحلية وتنسيق دعم منظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينية ووزاراتها للقدس، كما تقوم بالتوأمة الفعالة لمجتمعات القدس المحلية مع نظيراتها في مدن العالم.

وترى أنه بهذه الطريقة ينشأ أعلى (أي أمانة القدس) بالمشاركة من المجتمعات المحلية من أدنى، ويعمل معها بشكل متضافر لتحديد احتياجاتها ولتلبيتها من المصادر المحلية والعربية والدولية ، كما يشحذ استعداداتها لمواجهة إجراءات الاحتلال ومستوطنيه الاستعماريين على كافة المستويات القانونية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية والتنموية والكفاحية الميدانية.

وترى الدراسة أن هذه الفكرة تتيح إعادة بناء وتفعيل الحركات الاجتماعية ودورها لإعادة بناء القدس، واستعادة مركزيتها لفلسطين التي فقدتها منذ مطلع الألفية الثانية، وبهذا يمكن إعادة دمج الخصوصية المقدسية في إطار فلسطيني شامل قائم على التنوع وذلك بديلا عن الخصوصيات المتشرذمة. كما ترى أنه من الواجب ان يتبنى المجتمع  العربي والإسلامي والدولي توجهات أخرى ترمي الى دعم وبناء الوجود الفلسطيني في مدينة القدس، ومكافحة توسع الاستيطان الاستعماري الاسرائيلي فيها، ودعم المقاومة اللاعنفية الفلسطينية للاحتلال وذلك كخطوات على طريق تحقيق استقلال المدينة كعاصمة لدولة فلسطين، سيما بعد أن اعترفت الولايات المتحدة بالقدس كعاصمة لـ»إسرائيل» في نهاية عام 2017.

يشار أن الباحث وليد سالم حائز على شهادة الدكتوراة في العلاقات الدولية/ جامعة الشرق الأدنى – شمال قبرص، ومحاضر جامعي سابق لمدة 6 سنوات في جامعة القدس في قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة وحل النزاعات. وهو مؤلف ومحرر لما يزيد عن ثلاثين كتابا وعشرات الأوراق في القضايا نفسها. وهو أيضا كاتب عمود صحافي دوري، وناشط في الحركات الاجتماعية  ومنظمات المجتمع المدني والسياسي في القدس على مدى الأربعين سنة الماضية، ومدرب لثلاثين ألف فلسطيني ضمن مجالات تخصصه.

 

كلمات دلالية