كان عبدالله السلال- الرئيس اليمني الأول بعد الاطاحة بالإمامة الزيدية- يُعالج بمستشفى المواساة بالإسكندرية، وكان إسماعيل ياسين- الممثل الكوميدي المشهور- يُسافر إليه يومياً في الليل من القاهرة بعد أن يفرغ من العمل المسرحي بسيارة وأمر المخابرات المصرية بعلم الرئيس جمال عبدالناصر؛ ليحكي له بعض النكت من أجل الترفيه عليه ومساعدته في الشفاء، وفي آخر هذه التجربة القاسية جداً- كما وصفها اسماعيل ياسين- وآخر جلسة ترفيه مع المُشير السلال بحضور جمع من كبار أعوانه روى له هذه النكتة "واحد اعتاد أن يجلس على المقهى، وينشر الصحيفة أمامه ثم يبصق عليها ويُلقي بها على الأرض، فجاءه أحد روّاد المقهى وقال له: لا مؤاخذة يا أستاذ أنا لم أعرف قارئاً أغرب منك، أنت بالضبط ماذا تقرأ في الصحيفة وبسرعة تُلقي بها على الأرض وتدوسها بالجزمة، لقد راقبتك أسبوعين!، فقال الرجل: إنني أقرأ صفحة الوفيات.. ولكن صفحة الوفيات في الداخل.. أعرف ولكن اللي في بالي لن يموت إلاّ في الصفحة الأولى!."
هذه القصة سجلها عن إسماعيل ياسين الكاتب المصري الكبير أنيس منصور في كتابه (الكبار يضحكون أيضاً)، والنكتة في داخل القصة تنتمي إلى النكتة السياسية المعروفة بالكوميديا السوداء، وفيها سخرية من تمسك الرؤساء العرب بالرئاسة والسلطة مدى الحياة، بحيث لا يبعدهم عنها إلاّ الموت الطبيعي أو القتل غير الطبيعي، وإلاّ الخلع بالثورة الشعبية أو الانقلاب العسكري، فلا يُغادرون قصور الرئاسة والمُلك إلاّ إلى القبر أو السجن أو المنفى، فعبد الله السلال الذي رويت له النكتة ذهب إلى المنفى بعد انقلاب عسكري عليه، وجمال عبدالناصر الذي رويت بأمره النكتة ذهب إلى القبر بعد وفاة طبيعية، وهكذا كل الرؤساء والملوك العرب - إلاّ من رحم الله - فلم يكتسب أحدٌ منهم لقب الرئيس السابق وفضلوا عليه الرئيس المخلوع أو الرئيس المرحوم - وربما المجحوم - بعد أن عمّروا بالسلطة عشرات السنين، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلّوا نهجهم في التمسك بالسلطة تبديلا، ومقابل هذا المشهد الكئيب اجتمع قبل عامين في الولايات المتحدة الأمريكية خمسة رؤساء سابقين أحياء في حفل خيري قضوا مع رئيس سادس متوفي اثنين وثلاثين عاماً في الحكم هي نفس المدة الزمنية تقريباً التي قضاها سبعة رؤساء عرب ومثلهم من الملوك، لم يكتب أحد منهم لقب رئيس سابق.
واذا أردنا معرفة سبب تمسك الرؤساء العرب بالسلطة، فنذهب إلى النفس البشرية والطبيعة الانسانية المغروس في أعماقها حب الرئاسة والسلطة، والمزروع في أغوارها حب الخلود والمُلك، وقد عرف الشيطان ذلك عن الانسان، فدخل للإنسان الأول- آدم عليه السلام- من هذا الباب ليغريه بالمعصية ويُرديه في التهلكة "فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ" فحب البقاء والخلود تساوي عند الانسان حب التملك والسيطرة. هذا في النفس البشرية عامة، وهو في العرب خاصة حسب رأي عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته لكتاب العبر " فهم متنافسون في الرئاسة وقلَّ من يُسلّم أحدٌ منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلاّ الأقل وعلى كره من أجل الحياء"، وربما كلام ابن خلدون يجد مصداقاً له في عصرنا" وقلَّ من يُسلّم أحدٌ منهم الأمر لغيره" فلا يوجد تداول للسلطة إلاّ بالعنف عن طريق القتل أو الثورة أو الانقلاب،" ولو كان أباه أو أخاه" وربما انقلاب قابوس بن سعيد على أبيه وحمد بن خليفة على أبيه يؤكد ذلك، أما عند إزاحة الإخوة والأشقاء عن ولاية العهد لتولية الأبناء في الأنظمة الملكية، وتصفية الزملاء والرفاق للاستئثار بالحكم في الأنظمة الجمهورية فحّدث ولا حرج.
واذا كان حب الرئاسة والمُلك مغروس في النفس البشرية، ومن صفات العرب خاصة- حسب رأي ابن خلدون- فالبقاء في الحكم مدى الحياة موجود أيضاً في جذور التاريخ العربي الإسلامي- وكذلك التاريخ الإنساني- فمنذ عهد الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين وحتى العثمانيين، كان الخليفة يُبايع في الحكم مدى الحياة، ولم يكن العالم يعرف تقليداً آخر يُحدد مدة الحكم، فهو واقع تاريخي وعُرف سياسي تسير عليه البشرية جمعاء فيما مضى من الدهر قبل العصر الحالي باستثناء حالات شاذة من تجارب الشعوب، ثم جاء دور العلماء والفقهاء لإعطاء غطاء شرعي وتبرير ديني لهذا الواقع التاريخي، ومنهم الفقيه الشافعي أبو الحسن الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) بقوله "إن بيعة الإمام دائمة لا تنقطع إلاّ إذا مات أو طرأ عليه سبب يوحى بالعزل من نقص في الدين أو نقص في البدن"، وسار على نفس المنوال، وأعاد ذات المّوال، الكثير من علماء وفقهاء وأحزاب عصرنا، ومنهم حزب التحرير الاسلامي القائل في إحدى نظرياته: "يجب أن يوّفى عقد البيعة للخليفة ما دام قائماً بالحكم في الإسلام دون أي شرط متعلق بالمدة". والحقيقة كما ذكر بعض العلماء المعاصرين أن الشريعة الإسلامية لم يرد فيها نص ديني قطعي بتحديد أو عدم تحديد مدة الرئاسة والحكم، فادرجوها في باب المصالح المُرسلة التي يُباح العمل بها خاصة إذا ثبت أنها تصون الحكم من الاستبداد والفساد وتحقق العدل ومقاصد الحكم الصالح. لا سيما وأن الإسلام قد وضع مبادئ عامة وقواعد كلية للحكم كالشورى والعدل والعقد وترك آليات تطبيقها مفتوحاً لكل عصر.
خلاصة الرأي أن البقاء في الرئاسة والحكم مدى الحياة فيه مفسدة كبيرة، جوهرها الاستبداد والفساد، وتحديد مدة الرئاسة والحكم لفترة من الحياة فيه مصلحة عظيمة، جوهرها الحرية والصلاح، وفي التقييد والتحديد صيانة للحكم من الطغيان والانحراف، وحماية النظام من الجمود والركود، ووقاية الدولة من الهبوط والسقوط، وضمانة للمجتمع من التجمّد والتبلّد. والتحديد جزء من آليات تقييد سلطة الحاكم وتحقق مقصد الدين ومصالح الشعب، فالتداول السلمي للسلطة يُسهم في استقرار النظام السياسي والدولة والمجتمع، ويسمح بالحراك السياسي الصاعد وضخ دماء جديدة من القادة، فتدفق الأفكار الجديدة والتغييرات المفيدة، وتُقلّص قدرة الحاكم واعوانه على استغلال نفوذهم في مؤسسات الدولة لصالحهم، وتشجيعهم على الانجاز لكسب ثقة الشعب لإعادة انتخابهم... وهذا ما أدركته الشعوب العربية الثائرة على حكامها لا سيما في كل من تونس والجزائر، بانتخابهم رئيسين جديدين هما: قيس بن سعيد، وعبدالمجيد تبون، وفق دستور جديد يحدد فترة الرئاسة بفترتين رئاسيتين غير قابلتين للتجديد لمرة ثالثة، فهل سيصبح للعرب رؤساء سابقون؟!، وإن لم يحدث ذلك فسيظل لكل واحدٍ منا في باله شخص ينتظر موته في الصفحة الأولى من الصحيفة.