استراتيجيات إرهاق الخصم: نظرية التقرب العسكري.. بقلم: كامل العربي

الساعة 02:49 م|26 ديسمبر 2019

فلسطين اليوم

في لغة التكتيك العسكري تتواجد الاستراتيجية المباشرة “الحروب” والاستراتيجية غير المباشرة أو اللامركزية وهي التي تتحاشي الدخول في مواجهات ومجابهات مباشرة مع الخصم العسكري وذلك انتظاراً لظروف تكون أكثر ملاءمة بحيث يمكن التفوق عليه سواء كان تفوقاً كاملاً وبدرجة يمكن معها تدمير العدو والقضاء عليه كليا أو جزئيا، لذلك يعتمد أسلوب هذه الاستراتيجية على توريط الخصم في معارك جانبية – عسكرية –  اقتصادية – إعلامية – تستنزف موارده وترهق معنوياته وتنال من صلابته وتماسكه، فكل ذلك يضعف من إمكانات الخصم العسكرية وقدراته في معارك المواجهة الرئيسية . لذا ففي المجال الثوري فإن أهم درس يجب أن يتم تعلمه والتركيز عليه هو ألا تدع الخصم يستريح مطلقا، وعليه فإن استراتيجيات قلقلة الخصم هي الاستراتيجية المطلوبة .

فالاستراتيجية غير المباشرة عسكريا المقصود بها أمرين إما استخدام أساليب متنوعة لإرهاق الخصم العسكري “استهداف عسكري، استهداف اعلامي، استهداف اجتماعي، استهداف نفسي، ترويج وشائعات …إلخ. أو استخدام أساليب عسكرية مباغته للخصم لم يكن يتوقعها.

أولاً: فن الاستراتيجيات غير المباشرة:

يعتبر الشيوعيون من أوائل من طبقوا هذه الاستراتيجية وذلك على النطاق الدولي، والأكثر تطبيقاً لهذه الاستراتيجية في ظروف الصراعات الدولية التي يخوضونها ضد خصومهم. فقد لجأ الشيوعيون إلى تطبيق هذه الاستراتيجية عندما كانوا يثبتون دعائم الحكم الشيوعي بعد الثورة البلشفية حيث كانت الدول الرأسمالية ضاربة ضغوط الحصار حول روسيا في ذلك الوقت. فالقيادة السوفيتية اعتبرت أن عدم التدخل والتورط في صراعات ومجابهات مباشرة ضد خصومهم وخاصة الرأسماليين هي الطريقة المثلي المناسبة للقوى الثورية والمنهكة للقوى الرأسمالية .

وقد اعتبرت استراتيجية التقارب العسكري غير المباشرة قاعدة أساسية في معركة البقاء والاستمرار فقد استمر الشيوعيون السوفيت في تطبيق هذه الاستراتيجية في الثلاثينات بهدف تجنب الدخول في مجابهات مباشرة مع أعدائهم لا يكونوا مستعدين لها. فلجأوا إلى تأزيم العلاقات داخل المعسكر الرأسمالي وتوريطه في صراعات وحروب استنزاف بين دول المعسكر الرأسمالي بعضها مع بعض. وبعد أن تراكمت الخبرات لدي الشيوعيون السوفيت في استخدام استراتيجيات القلقة  جاء نجاحهم العظيم عظيماً في تدمير الخطر النازي على حدودهم فترة الحرب العالمية الثانية.

ثانياً: تجارب تاريخية على الاستراتيجية غير المباشرة

ربما تعد تحركات قائد قرطاجة (هانيبال) عام 218 ق.م من أجل احتلال روما باستخدام أسطول من جيوش الفيلة. عبر قمم جبال الألب (وهي سلسلة جبلية بها مسالك وممرات في غاية التعقيد) بمثابة حركة برية غير مباشرة تُعد في عداد الاستراتيجية غير المباشرة . والتي تتمثل في أن هذه الخطة لم تكن تتوقع لدي الخصم وهي ان يأتي هانيبال بجيش من الفيلة عبر الجبال، ومن الأمثلة على هذه الاستراتيجية في التاريخ العربي :

1- خالد بن الوليد كان من أعظم قادة الهجوم غير المباشر قبل وبعد إسلامه في معركتي أحد ومؤتة . وتعد دراسة تفاصيل معركة مؤتة من أهم المعارك التي تشرح مفاهيم الاستراتيجيات غير المباشرة، والتي تفصل أسلوب لا يزال معمول به في استراتيجيات الانسحاب. علما أن معركة مؤتة تدرس في عدد من الكليات العسكرية في يوغسلافيا والولايات المتحدة الامريكية.

2- الإغارات العربية هي نوع من الكر والفر فقد اشتهرت القبائل العربية استخدام هذه الاستراتيجية. إلا أنه في الماضي كانوا لا يفرقون بين الاستراتيجية والتكتيك، وتمرس العرب في حرب العصابات فهم صانعوا مجد لورانس في حرب الصحراء لجانب الحلفاء وهم أصحاب تلك التكتيكات .

3ـ في الحرب العالمية الثانية حين كان الحلفاء يفكرون ويحضرون لهذه الحرب كان القادة الألمان يعملون على شل عدوهم استراتيجياً وذلك باستخدام غير مباشر فضربوا أعداءهم بالقاذفات وأنزلوا المظليين الذين عملوا على قطع طرق المواصلات عند عدوهم فزادت الفوضى عند عدوهم فكانت النتيجة التي حققها الألمان ممتازة من جميع النواحي .

فقد هزم هتلر جميع أعدائه بواسطة الحرب الآلية بطريقة غير مباشرة لأن الهتلريون النازيون الألمان أتقنوا فن استخدام هذه الحرب ولجأوا بها بطريقة غير مباشرة مع العلم أن الجبهات الحقيقية لهذه الدول بقيت سليمة تماماً . إلا أن النصر الاستراتيجي في القيادة الأوروبية بقي غير حاسم على مستوى الاستراتيجية الكبرى. والسبب في ذلك هو السماح للقوات الفرنسية والبريطانية بالانسحاب من جزيرة (دنكرك). الأمر الذي أتاح لبريطانيا الفرصة في تقوية دفاعاتها عن الجزيرة بواسطة القوات المنسحبة.

ومن الأساليب التي اتبعها هتلر ضمن إطار الاستراتيجية القتالية غير المباشرة هو استخدام الحرب النفسية لشل الجهاز العصبي لأعدائه لأن هذا الأسلوب أقل كلفة من تدمير العدو وتحطيمه . وذلك عبر نشر الشائعات. فقد أعطى هتلر أبعاداً جديدة على الصعيدين الإداري والنفسي وفي المجالين المدني والعسكري فمعظم العمليات التي قام بها بين عامي 1933م و1939م كانت على مستوى الاستراتيجية “ألا تسفك فيها الدماء ” فلذلك احتل وضعاً استراتيجياً أفضل من وضعه عند بدء المعركة .

4ـ كما استخدمت “إسرائيل” الاستراتيجية غير المباشرة في الحرب العربية “الإسرائيلية” سنة 1948م، فهجوم “إسرائيل” على منطقة الجليل كان من نوع التقرب غير المباشر. فقد استخدمت في هجومها على محور (صفد ميرون) مدرعاتها في منطقة مليئة بالألغام ويصعب في هذه المنطقة السير فيها فحققت أغراضها عن طريق منطقة غير متوقعة .

وقد كان موقع “إسرائيل” المتوسط بين الجيوش العربية أثناء المعركة مهماً في التقرب المباشر. فقد منح هذا الموقع المتوسط ونتيجة لعدم وحدة هذه الجيوش في المعركة.  بقيام إسرائيل بهجوم مباشر ضد واحد من الجيوش العربية وهجوم غير مباشر على الجيوش الأخرى. مصحوبة بالشائعات جعل الجيوش العربية التي تعرضت للاستراتيجية غير المباشرة  أن تفر من المعركة خشية من ان تلقى مصير القوات العربية والتي تعرضت لضربات مباشرة. وهذا يرجع الى قلة الخبرة لدي القوات العربية وعدم مقدرتهم من التمييز بين الضرب المباشر والضرب غير المباشر.

ثالثاً: الاستراتيجية غير المباشرة في النموذج العسكري

هي استراتيجية تتطلب صبر وطموح تسعى الى إخلال توازن وزعزعة وإزعاج الخصم وتفتيته مادياً ومعنوياً والاقتراب من الخصم من اتجاهات لا يتوقعها قبل الإجهاز عليه إجهازاً تاماً . ولفهم الاستراتيجية غير المباشرة يجب علينا معرفة أن هذه الاستراتيجية غير خالية من القتال، بل تمزج في القتال بين مجموعة من التظاهرات والمراوغات والعمليات ضد مواصلات وشئون العدو الإدارية وغيرها من الشئون الأخرى. فالهدف من هذه الاستراتيجية هو تفكيك العدو وتفتيته قبل الإجهاز عليه، وإعطاؤه إحساس الفريسة المطاردة .

ومن الأمثلة على هذه النظرية استخدام هتلر للاستراتيجية غير المباشرة في غزوه لفرنسا فمجموعة جيوش (فون بوك) هي الجهاز الرئيسي للجيش الهتلري والتي تحركت هذه الجيوش في اتجاهات مختلفة في أرض معقدة التضاريس وسط الغابات، وعند اختراقها (سيدان) غيرت اتجاهها حيث حيرت الفرنسيين إلى أي اتجاه ستذهب؟ فقد كانت حركة وسير الجيوش الألمانية في استراتيجية غير مباشرة وبتكتيك عسكري سياسي لتجنب الانقضاض على العدو وقد كان الجيش الألماني يبحث باستمرار عن نقاط الضعف عند عدوه ليتسرب منها ويحقق فوزه على عدوه. ويعتبر هذا المثال هو أصدق تمثيل للاستراتيجية غير المباشرة ونظرية التقرب غير المباشر .

ويعتبر الكاتب العسكري البريطاني ليدل هارت نظرية التقرب غير المباشر من أفضل الاستراتيجيات وتتضمن هذه النظرية عدم التقرب في مجابهة الخصم تقريباً مباشراً لاختبار القوة بل زعزعة وإخلال توازن الخصم وإزعاجه بتقرب غير متوقع من قبل .

إن مناورة التقرب غير المباشرة وسيلة تفرض نفسها على أحد الطرفين المتنازعين إذا كان أحد الطرفين لا يثق بنفسه أنه على قدر كاف من القوة بحيث يستطيع النصر على خصمه في أرض الطرف الثاني، ونتيجة لذلك لا يستطيع أي طرف الدخول في حرب مباشرة إلا عن طريق مناورة التقرب غير المباشر حتى لو أحس أحد الطرفين أنه أقوى من خصمه فإن التدخل المباشر يكلف هذا الطرف مبالغ باهظة وفقدان بعض الضباط والجنود. فالفكرة الرئيسة في مناورة التقرب غير المباشر هي قلب ميزان القوى المتجابهة قبل اختبار المعركة بمناورة التقرب غير المباشر لا بالقتال . لذا يجب ألا يجابه العدو من البداية مجابهة مباشرة بل يفضل الاستعانة بلعبة دقيقة تهدف إلى التعويض الموجود في أنفسنا بالنسبة لقوات العدو .

رابعاً: أنواع الهجوم غير المباشر

يقسم الكاتب البريطاني العسكري (ليدل هارت) الهجوم الاستراتيجي غير المباشر لقسمين أحدهما مادي يستهدف القوات المعادية، والآخر معنوي موجه نحو مركز تفكير العدو وجهازه العصبي، وذلك لشل عمله ومنعه من التفكير والتخطيط والتعزيز. ويرى (ليدل هارت) من خلال تحليله التاريخي للمعارك الحاسمة أن الهجوم غير المباشر يتمثل في الأمور التالية:

1. احتلال موطئ قدم يعمل على تهديد جوانب الخصم مادياً، والتأثير عليه معنوياً، كما فعل تنظيم الدولة في الموصل 2017.

2. الالتفاف حول الخصم وعدم المواجهة المباشرة معه وهو ما شعرت به القوات العراقية في الموصل بالساعات الاولي عند سيطرة تنظيم الدولة.

3. العمل على ضرب الحالة النفسية والاجتماعية للعسكري الخصم، من خلال اشغاله اليومي بالتفكير بالحياة ولقاء ذويه.

4. البحث عن الثغرات الحساسة واستهدافها فلا يوجد مقر أمنى او تحرك عسكري او قيادي بلا أخطاء المهم نظرة عسكرية امنية معمقة لا أكثر.

5. عدم توجيه أي ضربة للعدو الا إذا كان الضارب واثقا من قوته ونجاح مهمته.

ومن النماذج الأخرى على الاستراتيجية غير المباشرة المناورة بالإجهاد فهي مناورة أكثر تعقيداً من مناورة التقرب غير المباشر والهدف من مناورة الإجهاد هو إزعاج العدو بصورة مستمرة ومتواصلة وأن يبقى في حالة نشاط دائم وبشكل يهدد فيه أهداف العدو الحيوية ونقاط ضعفه.

فقد استخدمت المقاومة الفلسطينية في بداياتها الأولى استراتيجية وضع أشكال تشبه العبوات الناسفة ولكن هي في الحقيقية ” لا شيء” مما كان يستدعي فريق خبراء المتفجرات الإسرائيلي والياته لتفكيها ليفاجئ بانها لا شيء فعلا. استخدام هذه الاستراتيجية مكلفة ماديا ومرهقا ذهنيا ونفسيا لجنود العدو، مما يولد استمرار استخدامها حالة من التكاسل في تعامل العدو مع العبوات الناسفة الأخرى والتي يكون بعضها حقيقيا مما توقع خسائر كبيرة في صفوف العدو.

خامساً: مميزات الاستراتيجية غير المباشرة

1: تقوم على انتظار حلول الحسم بوسائط غير عسكرية ولا يكمن معرفة الفرق الأساسي في الاستراتيجية غير المباشرة وبين التقرب غير المباشر في الطابع الجغرافي فحسب بل التقرب غير المباشر هدفه إحراز النصر العسكري وتحضيراته غير مباشرة لكن الاستراتيجية غير المباشرة لا تسعى لإحراز النصر العسكري بالسلاح بل بطرق عديدة غير السلاح .

2: تكمن في الطابع الخاص الذي تتخذه فيها حرية العمل. وقد كانت هذه الميزة مستعملة قبل ظهور السلاح النووي فلا يمكن أن يجري أي صراع إلا داخل هامش حرية من العمل محدد بصورة جيدة بسبب الانعكاسات التي قد يسببها تطوره على الوضع الدولي .

فدول البلقان سنة 1912م امتنعت عن الذهاب للقسطنطينية خوفاً من تمركز الروس فيها. فكلما ضاقت حرية العمل كلما أصبحت مهمة. لأن حرية العمل هي التي تسمح بمجابهة الوضع القائم الذي يدعى الردع النووي محافظته عليه. وكذلك كلما ازدادت حرية العمل تماسكاً من أبناء الدولة المستعملة لها كلما أصبحت وسائل استثمارها دقيقة وملتوية .

3: المحصلة الحتمية للتطور التاريخي لاستراتيجية القلقلة العسكرية بأنها الاستخدام البارع بغض النظر عن مستوى القوة المقابلة، فكثير من المقاتلين يرفض القتال لأنه ينظر للمعارك من منظور إمكانيات العسكرية، إلا أن الخطط في العلوم العسكرية تحتل المرتبة الاولي في أي عمل عسكري.

ففي عصرنا هذا العصر التكنولوجي والنووي والذي تبدو لنا الاستراتيجية غير المباشرة على أنها فن معرفة الا انها لا تزال أفضل استخدام لهامش حرية العمل التي نجت من الإفلات من الردع .

سادساً: وسائل الاستراتيجية غير المباشرة

من الوسائل التي ركزت عليها الاستراتيجية غير المباشرة وطبقتها:

1: أسلوب التحديات المرحلية أو التدريجية: وهذا الأسلوب يقوم على تفجير صراعات محدودة في منطق مختلفة.

2: أسلوب حرب العصابات في مناطق المجابهة غير المباشرة: وهذا الأسلوب يقوم على استقطاب مشاعر الولاء لبعض الفئات في أوساط المدنيين المختلفة بمختلف وسائل الإغراء والترهيب والإقناع فاتخاذ هذا الأسلوب كقوة يرتكز عليها العمل العسكري الذي يستهدف من وراء ذلك تحطيم معنويات وإرباك واستنزاف الخصم وتشتيت قواه العسكرية في ظروف من عدم التأكد وفقدان القدرة على تحديد اتجاه الخصم بل وجعل كل هذه الظروف تعمل ضده حتى تأتي اللحظة التي يستسلم فيها الخصم وتنهار قواه. ومن أمثلة ذلك نجاح هذا الأسلوب في الحرب غير النظامية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في منطقة الهند الصينية .

3: المتطوعين: فهذا الأسلوب يهيئ إمكانية التأثير الفعال في مجرى الصراع الناشب بين المتطوعين والدولة، فهذا الأسلوب يحمي وجه هذه الاستراتيجية من التدخل المباشر. فتدخل المتطوعين يعطيهم مزايا دعائية كبيرة منها أن الإدعاء بأن هذا التطوع يحدث دفاعاً عن الحرية أو الاستقلال أو العدالة. فأول تطبيق لهذا الأسلوب كان في الحرب الأهلية الإسبانية (1936م 1939م) .

خلاصة

إن الاستراتيجية غير المباشرة هي من الاستراتيجيات المهمة في الحفاظ على الأمن القومي للدولة بكافة أبعاده فهذه الاستراتيجية لا تعتمد على الدخول في مجابهات مباشرة مع الخصم بل تتحين الفرص لتحقيق أهدافها السلمية والعدوانية فهي تتحاشى الدخول في اشتباكات عسكرية مباشرة وإنما تعمل على إبقاء العدو في حالة ارتباك وتيقظ شديدين. فهذه الاستراتيجية ترهق معنويات العدو وتكلفه مبالغ باهظة في حفاظه على سلامته . لهذه فأن هذه الاستراتيجية تحتاج لإعداد وتخطيط على مستوى عال من الذكاء فتحتاج لذكاء عقلي وتخطيط ودراسة علمية في آن واحد.

كلمات دلالية