المفكر الشقاقي: المحبّ الثائر.. بقلم: محمد أديب ياسرجي

الساعة 04:14 م|31 أكتوبر 2019

فلسطين اليوم

يتوقف الشهيد الشقاقي عند مقومات المشروع التحريري الذي يتصوره، قائلًا: (إنّ فعالية القوى الإسلامية الناهضة.. ضد المشروع الصهيوني ليست بسبب الإمكان الماديّ كما قد يتبادر للبعض، بل إننا ننطلق أحيانًا من الجوع ومن الصفر. إنّ... مشروعهم الحقيقي في إطلاق الطاقة الكامنة داخل كل فرد وداخل الشعب ضد ضغط الأمر الواقع، وضد ضغط موازين القوى. إنَّ مشروعنا يكمن في إقامة التوازن والتزاوج بين العقيدة الدينية والموروث الديني وبين الواجب الوطني، الذي يصبح فورًا واجبًا مقدسًا).

يركّز الشقاقي في بناء الإنسان على مقوّمات أخرى للشخصية، لأنّه يسعى إلى تكوين الإنسان الشاهد، وفق المفهوم القرآني للشهادة. ومن أهمّ هذه المقوّمات:

1- المبدأ الإنساني التامّ:

انطلق الشقاقي من القرآن الكريم باعتباره رسالة إلهية إلى الإنسان، ومن هنا كان الحضور المركزي للقرآن في بناء الشخصية الثورية لدى الشقاقي وأمثاله من القادة، لأنه منحهم النواة المتماسكة لرؤيتهم الإصلاحية ورسالتهم الإنسانية الكونيّة، ومن حول هذاالنواة نسج كلُّ واحد منهم تجربته وبنى مشروعه، وبالعُدَّة التي منحه إياها القرآن حدّد منطلقاتِه وآلياتِ عمله ومجالَه وأهدافه.

لقد كان الإسلام في كتابه الذي هو القرآن، ونموذجه الأعلى الذي هو رسول (ص)؛ كان هذا الإسلام هو المبدأ الحاضر في وعي الشقاقي، ومن هذا الوعي انطلق في رحلته ومشروعه لفهم العالم، والعمل من أجل فلسطين: (إنَّ الوحدة على فلسطين هي وحدة الوعي بأن بقاء الكيان الصهيوني يعني إفشال كل مشاريع النهضة، وأن الوحدة حول فلسطين هي وحدة التاريخ مع القرآن، وهي إعادة صياغة للجغرافية السياسية باتجاه الأقصى الشريف، وهي وحدة الملايين المتقدمة نحو قدَرها.. هي وحدة مشروع النهضة كله.. وفي القدسِ جوهرِ ومركز الصراع الكوني.

اليوم تتحدد ملامح المعركة الفاصلة.. إن سرًا ما يمكن تقصّيه في القرآن والتاريخ والواقع، يجعل من بيت المقدس والجهاد في أكنافه مركزًا للمشروع الاستعماري متجسدًا أيضًا وموحدًا في فلسطين عبر الحالة الإسرائيلية).

2- الالتزام الذاتي:

عن سعد بن هشام أنَّه أتى عائشة (رض) يسألها عن بعض المسائل، فقال: (يَا أُمَّ المُؤمِنِينَ! أَنبئِينِي عَن خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ (ص) ؟ قَالَت: أَلَستَ تَقرَأُ القُرآنَ ؟ قُلتُ : بَلَى. قَالَت : فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ كَانَ القُرآنَ). قال النووي: (معناه: العملُ به، والوقوفُ عند حدوده، والتأدّبُ بآدابه، والاعتبارُ بأمثاله وقصصه، وتدبرُّه).

وإذا كان الشهيد القائد الدكتور فتحي الشقاقي لم يتناول الأبحاث السلوكية نظريًا إلا لمامًا، وذلك طبيعي بحكم مجال دراسته الرياضية والطبّية، فإنّ كلَّ من عرف الشهيد الشقاقي يعلم، وكذلك كلُّ من قرأ إنتاجه الفكري وتأمل في أفكاره، أنَّه كان رجلًا عصاميًا، أخذ نفسه بالتزكية، واتّخذ القرآن الكريم نوراً ورسولَ الله (ص) هادياً، فأخرج لنا شخصية رائدة في الالتزام والانضباط، لا تقلّ في الميدان السلوكي عن مراتب العارفين الكبار.

يقول الشيخ نافذ عزام: (الدكتور القائد فتحي الشقاقي رضوان الله عليه تأكيد حقيقي للتواصل مع النماذج المضيئة في تاريخنا منذ حراء وصدر الإسلام الأول، ربطًا بكل المحطات والمشاهد، وكان طوال مراحل حياته أمينًا مع هذا التراث العظيم وحريصاً على البناء عليه، ومحافظًا على الملامح التي شكلها القرآن والتاريخ في الإنسان. ومع ترسخ خياره، واتساع دائرة أتباعه ومحبيه، كان رضوان الله عليه يزداد تواضعًا، وكان يقول لنا أنه ليس من المستحيل وجود النموذج المتكامل الذي بشّر به الوحي، ووجد فعلًا في لحظة زمنية سابقة).

ويتحدث الشهيد الشقاقي نفسه عن الحكمة من التحديات التي تواجه الإنسان في سعيه لأداء مهمة البناء والتعمير: (والتي تُجابه دومًا جنودًا للشيطان يحولون بين جنود الحق وما يريدون، من هنا يبدأ التحدي، ومن هنا يبدأ المحك الحقيقي لإثبات المصداقية، وبالتالي يبدأ التمحيص والتمييز الذي لابدَّ منه: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾،.. إننا لا نعرف قيمة أنفسنا ولا نهتدي لما في الإيمان والعمل الصالح من متعة وقيمة معنوية ومادية إلا بالتجربة والابتلاء، لكنَّ البشر دائمًا يحتاجون لمن يقودهم نحو أهدافهم، ويختصر عليهم الوقت والعذاب ويحقق لهم ما لا يمكن تحقيقه).

3- الالتزام بالمجتمع والأمة والإنسانية:

عندما نتأمل آثار الشقاقي التي يذكر فيها الشخصية النبوية، نجد العديد من الملامح التي يركز عليها عند تناوله للأمثلة والشواهد من السيرة النبوية؛ فبالإضافة إلى المبدئية، والالتزام السلوكي الشخصي في أعلى صوره، يتابع القادة المصلحون النظر دوماً إلى معالم أخرى في شخصية النبي الأكرم (ص)، موطّنين أنفسهم على الأخذ بها، وداعين غيرهم إلى الانتباه إليها، ومن تلك المعالم: الإحساس المسؤولية، والتضحية والفداء، والعالمية الكونية.

ينقل د.خضر محمود عباس عن الشهيد الشقاقي أنّه يعتبر: (إنَّ دور القيادة إمّا هداية الجماهير، وإما حمايتها.. وإلا فعلى الجماهير أن تعيد النظر فيها. فالحياة ليست وجوداً فقط، بل هي سَير باتجاه اللانهاية، باتجاه الكمال المطلق، باتجاه الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾، والحياة ضرورة مستمرة للتكامل الإنساني، وهي هجرة دائمة من حيث نحن إلى ما شاء الله أن نكون. والحياة رحلةٌ عبرها يتمُّ اكتشاف وإطلاق كافة الاستعدادات والقدرات والملكات المودعة في فطرة الإنسان، لغرض إقامة العدل وإحقاق الحق، وبالتالي إسعاد الناس في دنياهم ورفع الضيق والحرج والعنت عنهم، من خلال المنهج أو الطريقة القائمة على السَّلام مع الله ومع الغير ومع الطبيعة، وبالتالي هدايتهم لسبيل الفوز والنجاة بالآخرة. وهذا كله لا يتجلّى إلا عبر القيام بمهمة البناء والتعمير).

4- الحبّ الإلهي:

يقول  د.خضر عبّاس: (صفة العشق "منتهى الحب" قد شكلت المعلم الثابت والخاصية الأساس للدكتور الشقاقي، الذي كان يرى الكون والحياة والإنسان من خلالها.. حتى أن البعض كان ينظر مندهشاً في أن يردد هذه الكلمة مفكر، أو سياسي، أو قيادي، في مجال العمل الإسلامي الحركي.. عاش عاشقاً للحياة، وعاشقاً للموت الجميل، ومات في أجمل ما يكون الموت.. كان يجبل حتى محاضراته الفكرية الخالصة بنوع من الشوق والحنين والمحبة.. يبحث عن معشوقه.. يفتش عنه في يقظته وأحلامه.. وما زال يفتش عنه دون كلل ولا ملل، لأنه الحقيقة الساطعة التي تملأ كيانه وتجوب وجدانه وتسكن عقله، وإن امتد به العشق سنين وسنين؛.

وهو لا يصل بَعْدُ لمحبوبه ومعشوقه، ولم يتمكن بَعْدُ أن يلمسه، ولكنه يلمس ملامحه في كل ما حوله.. والذي شاهد سلوك الدكتور عن قرب، يدرك أنه كان عاشقًا ذاب في عشق كل ما هو جميل، وهذا ما ميّز قيادته وأعطاها نكهة جديدة، لم توجد لدى كثير من القيادات بمختلف أنواعها وأنمطتها.. وقد شكلت هذه الصفة، مفتاحَ شخصيته، باعتبار أن الصفة التي تغطي أكبر مساحة من كينونة الشخص، هي الصفة المفتاحية للشخص).

سيبقى القائد الدكتور فتحي الشقاقي أنموذجاً للثائر الذي انطلق من ثورته من المسؤولية، القائمة على الحبّ، والمعززة بالفهم والوعي والبصيرة، والساعية إلى بسط العدل والخير، مهما كانت الأثمان، وفي سبيل ذلك كلّه كانت شهادته العظيمة، ووفق نهجه الصافي لابد من أن يمضي مشروع تحرير فلسطين.

كلمات دلالية