خبر الفلسطينيون وسياسة «سد الذرائع» مع إسرائيل ..خالد الحروب

الساعة 10:23 ص|08 فبراير 2009

ـ الحياة 8/2/2009

انقضت جولة الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة، والتي ما كان بالإمكان خلالها إلا الوقوف بالصوت العالي ضد تلك الوحشية. والآن وبعد انتهاء تلك الجولة هناك سجال يقول إن الوقت مناسب لتحميل «حماس» وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية مسؤولية الحرب الإسرائيلية، لأنها وفرت الذريعة لإسرائيل للقيام بتلك الحرب المجنونة. هناك اختلالات عدة في سياسات «حماس»، وفي الكثير من قراراتها، وكذلك في دقة موازنة علاقاتها الإقليمية، لكن إسرائيل هي من يتحمل مسؤولية الحرب، ومسألة «الذريعة» تحتاج إلى وقفة تأمل تستحقها.

ابتداء يجدر التذكير بأن «حماس» وكل الفصائل الفلسطينية كانت مستعدة لتجديد التهدئة وأكدت ذلك قبيل انتهائها بأيام، لكن إسرائيل لم تكن مستعدة لذلك التجديد، بل كانت قد استعدت من شهور لشن حرب كما رأينا جميعاً. الحرب لم تكن وليدة قرار اتخذ خلال أيام ونتج عن امتناع «حماس» عن الاستمرار في تهدئة لم تكن موجودة أصلاً، بل كانت نتيجة قرار مُخطط له سلفاً ولذا فإن عدم قبول إسرائيل بتجديد التهدئة كان منسجماً مع خطة عسكرية وسياسية مسبقة وليس مفاجئاً. وإسرائيل وبكونها القوة الاحتلالية المسيطرة فإنها تتمتع بالقدرة على التحكم في مجرى الحرب والتهدئة كما تشاء، وسياسيوها يستخدمون الملف الفلسطيني بتفاصيله المختلفة لغايات مختلفة بحسب الظرف الزمني والتنافسي، منها غايات انتهازية داخلية، وأخرى تصارعية حزبية، وثالثة انتخابية موسمية.

سيقول قائل، محقاً وبحسن نية، ولكن على «حماس» والفلسطينيين دوماً أن يسحبوا كل المسوغات التي تظهرهم أمام الرأي العالمي وكأنهم متسببون في هذا التدهور أو ذاك, سواء أكان ذلك حرباً، أو انتفاضة، أو مزيداً من الإنسداد السياسي في «العملية السلمية». وهناك الآن ودوماً جزء لا يُستهان به من المتابعين للشأن الشرق أوسطي يستمعون بإنصات إلى مبررات إسرائيل التي تقول إنه ليس هناك «شريك فلسطيني» مؤهل للسلام، وأن الفلسطينيين منقسمون وأنهم والحال هذه يستحيل المضي في أي مفاوضات معهم، وسوى ذلك من ادعاءات. الرد على هذا المنطق يأتي من خلال التجربة العملية الممتدة على مدار العقدين الماضيين، وتحديداً من تاريخ إعلان منظمة التحرير الفلسطينية «وثيقة الاستقلال» سنة 1988، والتي بموجبها أقرت القيادة الفلسطينية بمبدأ حل الدولتين والاعتراف بإسرائيل. بعدها جاءت مدريد 1991 ثم أوسلو 1993 واستمرت «العملية السلمية» سنوات طويلة بعد ذلك. خلال كل تلك السنوات تواجدت قيادة فلسطينية قوية ومعروفة للعالم ولم يكن هناك انقسام حاد في الشرعية الفلسطينية، فماذا حدث وما الذي كان يحدث خلال كل تلك الحقبة المريرة، وفي غياب المبررات التي تسوقها إسرائيل هذه الأيام إزاء الانقسام الفلسطيني؟ آنذاك كانت هناك قوائم أخرى من المبررات، وكما في كل آن فإن تلك القوائم لا تنتهي. وهذا بالطبع لا يعني إعفاء الفلسطينيين من المسؤولية الكبرى بضرورة التوافق الوطني هنا وقطع الطريق ليس فقط على إسرائيل بل وعلى كثير من الأطراف الغربية التي تقف الآن في مربع المسوغ الإسرائيلي وترى في الانقسام الفلسطيني العقبة الكبرى والرئيسية أمام «إحلال السلام». فكثير من المواقف الرسمية الغربية، الأميركية والأوروبية، وليس كلها بالطبع، ما زالت تنسج على منوال المواقف الإسرائيلية وتعيد إنتاجها بشكل غريزي فاضح يتجاوز الانحياز ويقترب أكثر وأكثر من العنصرية. لكن الجوهر الأساسي في هذه المسألة أن الطرف الإسرائيلي هو الذي لا يريد السلام، وهو الذي يبحث عن مسوغات ومبررات لتحميل الفلسطينيين كل المسؤوليات.

والتأكيد هنا على الفضيحة الوطنية عند الجانب الفلسطيني في الفشل في الوصول إلى توافق وطني (بين «فتح» و «حماس» على وجه الخصوص) لإنهاء سلسلة المسوغات التي تستخدمها إسرائيل، لا يعني أن سياسة ملاحقة كل مسوغ ترفعه إسرائيل هي السياسة الحكيمة. فالواقع والتجربة التاريخية يشيران إلى أن أي طرف فلسطيني أو عربي ينزلق في محاولة تفنيد كل ذريعة سياسية ترفعها إسرائيل لتتنصل من مسؤولياتها كطرف احتلالي، فإنه يتورط في «تكتيك» ليس له نهاية، لأنه مع سد كل ذريعة معينة تتناسل ذرائع أخرى. والتجربة الفلسطينية على وجه الخصوص بالغة المرارة في هذا الصدد بخاصة خلال سنوات أوسلو العجاف ما بعد 1994، إذ كانت إسرائيل تتذرع بعدم تنفيذ ما كانت تفرضه عليها اتفاقات أوسلو، على محدوديتها وتواضعها، بأن الفلسطينيين لم يقوموا بتنفيذ قائمة من الاشتراطات المعينة. وما أن يسارع الفلسطينيون إلى تنفيذ ما يُطلب منهم وحال انتهائهم من ذلك يكتشفون أن قائمة جديدة من «الذرائع» تنتظرهم وعليهم تطبيقها وتنفيذها بحذافيرها.

مشكلة سياسة «سد الذرائع» تكمن في أكثر من جانب. الجانب الأول في أنها تورط الطرف الضعيف في سلسلة من التنازلات التي لا تنتهي وتتجاوز ما كان قد اتفق عليه سلفاً، وذلك في غياب أي تدخل دولي ومراقبة حازمة تلجم عنجهية الطرف القوي. فالسعي المستمر للاستجابة لما تريده إسرائيل، بسياسييها المتنافسين، وحكوماتها التي تتصيد الأصوات المتطرفة وتزايد على بعضها البعض بالتطرف والخطاب العصابي، يقود إلى طريق لا نهاية له. لكن الجانب الثاني يتمثل في الإضعاف المتوازي والمستمر لشرعية أي طرف فلسطيني يتورط في هذه السياسة لفترات زمنية طويلة وقاتلة. وفي الواقع فإن محاولة الاستجابة الفلسطينية لقوائم المطالبات الإسرائيلية التي لا تنتهي والتي استمرت على مدار العقدين السابقين، قوضت شرعية منظمة التحرير الفلسطينية، وشرعية حركة «فتح»، وشرعية السلطة الفلسطينية المتكونة بعد اتفاق أوسلو.

ليست هناك حاجة كبيرة للتذكير بأن أي حزب سياسي ينافس للفوز بالقيادة وأية حركة شعبية واسعة تريد على الدوام اتباع سياسة تحافظ على السند الشعبي والانتخابي، في حال أقدمت على اتخاذ قرارات حاسمة ومفصلية وخلافية. وتكون المغامرة التي تقوم بها الحركة المعنية على أساس أن تحقيق بعض المكاسب الملموسة على الأرض جراء اتباع تلك السياسة الخلافية سيكون كفيلاً بتعويض الخسارة الشعبية والانتخابية الموقتة. بيد أن ما حدث في التجربة الفلسطينية في حقبة أوسلو وما بعده كان مراكمة المقامرات من دون تحقيق أي أرباح حقيقية على الأرض تحملها منظمة التحرير و «فتح» إلى الشعب الفلسطيني لتبرير الاتجاهات والقرارات الجديدة. الفشل في تحقيق ذلك وبالتوازي مع تواصل غطرسة إسرائيل ومشروعها الاحتلالي الاستيطاني الالتهامي، ومع تفاقم أوجه الفساد المالي فلسطينياً، لم يقد إلى إنفضاض الفلسطينيين عن مشروع السلطة وحركة «فتح» وحسب، بل الى تواصل صعود وقوة «حماس» إلى أن فازت بالانتخابات.

والآن وخلال السنوات الثلاث الماضية، أي حقبة فوز «حماس» في الانتخابات، ثم سيطرتها العسكرية على قطاع غزة, شهدنا عودة قوية للاستراتيجية الإسرائيلية المتمثلة في استخدام الذرائع وإلقاء اللوم على الفلسطينيين. ونجحت إسرائيل مرة أخرى في حشد المواقف الرسمية الغربية وحتى بعض المواقف العربية وراء هذه الاستراتيجية، وتمثل ذلك في وضع قائمة من الشروط في وجه «حماس» عليها تنفيذها إذا أرادت أن يتم الاعتراف بها كطرف يمكن التباحث معه، أو إذا أرادت أن يتم فك الحصار المالي عن فلسطين والفلسطينيين. اشتملت أولاً تلك الاشتراطات ما فرضته إسرائيل عبر «الرباعية» من شروط الإعتراف بها، والتوقف عن العنف، والإقرار بالاتفاقات السابقة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. لكن وفي ضوء رفض «حماس» لهذه الشروط تولدت قوائم أخرى من الإشتراطات تضمنت عملياً، وبحسب بنود التهدئة، عدم القيام بأي نشاط مسلح من قطاع غزة مع القبول بما تقوم به إسرائيل من ضربات عسكرية بين الحين والآخر ضد القطاع وضد «حماس». وعندما التزمت «حماس» بالتهدئة، وألزمت الفصائل الأخرى بها، بشكل أثار إعجاب بعض قادة الجيش الإسرائيلي، فإن «حماس» كانت تقترب من الخط الأحمر الذي تواجه عنده معضلة تقوض الشرعية مقابل ملاحقة ما يتناسل من ذرائع إسرائيلية تطالب الفلسطينيين بتحقيقها.

وكما وضعت إسرائيل منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية في خيارات شبه مستحيلة تكون نهاياتها إطلاق آليات التحلل الداخلي وتقوض الشرعية، فإنها وضعت «حماس» وما تزال تريد أن تضعها في الخيارات نفسها: إما مواصلة الاستجابة لمسلسل لا ينتهي من الاشتراطات الإسرائيلية وبالتالي تفقد «حماس» قوتها وشرعيتها التنظيمية وشعبيتها، وإما ترفض تلك الاستجابة وتدفع هي والفلسطينيون معها ثمناً باهظاً كما حدث في حرب غزة.