كتب د. أحمد يوسف:الشهيد د. فتحي الشقاقي في ذكراه: ويبقى النهج والأثر  

الساعة 01:19 م|26 أكتوبر 2019

فلسطين اليوم

في مثل هذا اليوم وقبل أربع وعشرين عاماً ارتقى د. فتحي الشقاقي إلى ربه شهيداً، بعدما اغتالته يد الموساد الإسرائيلي في جزيرة مالطا عام 1995، بينما كان في طريق عودته من ليبيا إلى سوريا. كان د. الشقاقي (رحمه الله) هو المؤسس والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي.  

تعود سنوات معرفتي بالدكتور فتحي الشقاقي إلى عام 1968، حيث جمعتنا جِيرة المخيم ومقاعد الدراسة في مدرسة "بئر السبع الثانوية" بمدينة رفح، ثم كان التزامنا الإسلامي بفكر الإخوان المسلمين، بعد أن شعرنا بأن الفكر الناصري الذي تعلقنا به قد خذلنا، وفشلت أطروحته في تحقيق الوحدة العربية وهزيمة إسرائيل.

كنا شباباً ممتلئين حماسة ووطنية، وكانت هزيمة 67 انتكاسة موجعة لكل ما حِلمنا به وانتظرناه من قرب مجيء يوم النصر الموعود، وتجليات العودة إلى أرضنا وديارنا،التي اغتصبتها العصابات الصهيونية عام 1948، وأقامت عليها دولةً مارقةً عسكرتها بالأسلاك والجنود.

مع أولى سنوات الاحتلال، بدأنا إعادة هيكلية قناعاتنا الوطنية، من خلال النقاش والتفكير بصوت مسموعٍ - أحياناً - في ساحة المدرسة، للإجابة على الأسئلة الصعبة: ما العمل؟ وماذا يمكننا أن نفعل؟ وما هي الإمكانيات المتاحة بأيدينا للقيام بعمليات عسكرية محدودة أو احتجاجات طلابية لمضايقة جيش الاحتلال، وإيصال رسالة قوية بأننا نرفض التسليم بالهزيمة، واستعداداتنا عالية للتضحية من أجل رحيله عنَّا.

كانت مدرسة "بئر السبع الثانوية" هي الحاضنة الوطنية للحشد والتعبئة، وخاصة للمجموعات الأولى التي باشرت توجيه الجدل القائم بين الطلاب حول قيمة التعليم تحت الاحتلال، حيث خرجت شعارات تطالب بإغلاق المدارس، بدعوى: "لا تعليم تحت الاحتلال"!! ثم تطورت الرؤية بالقيام بإضرابات، وخروج الطلاب من المدارس للشوارع، وتعمد التحرش والاحتكاك العنفي بالحجارة مع جنود الاحتلال من حين لآخر.

الشقاقي: من الناصرية إلى الفكر الإسلامي

في نهاية الستينيات، ظهر الشيخ الداعية الأستاذ أحمد ياسين في أحد مساجد رفح (مسجد الهدى)، وكان يتحدث إلينا بلغة لا تبرر الهزيمة، بل تتناول أسبابها، تلك الهزيمة التي لحقت بسبعة جيوش عربية، وأضاعت ما تبقى من أرضنا وأراضي دول عربية أخرى كمصر وسوريا والأردن ولبنان!! ويقدم لنا رؤية تشكل لشعبنا الترياق وطوق الخلاص من الاحتلال، حيث رسم لنا مشهداً أعاد فيه بعث سيرة القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي، الذي حمل لواء النصر والتمكين للأمة بعد أن كانت تعيش تحت أحذية الصليبيين لتسعة عقود من الزمن، إلا أنه كان يشدد بأن النصر على إسرائيل كي يتحقق فإن ذلك يتطلب أن نجدد العهد مع الله بالتزام حدوده، وإعداد الجيل القرآني الفريد الذي سيخوض كرأس حربة المعركة الفاصلة لأمتنا مع الصهاينة، التي تنهي الاحتلال وتعيد الأرض إلى أهلها الشرعيين.

في الحقيقة؛ كان خطاب الشيخ أحمد ياسين (رحمه الله)هو الذي فتح عيوننا باتجاه ضرورة تأطير أنفسنا وطنياً، ولكن برؤية إسلامية كانت غائبة ومحاربة داخل قطاع غزة، الذي كان خاضعاُ للإدارة المدنية والأمنية المصرية لأكثر من أحد عشر عاماً.

بدأنا في التناجي حول هذا الخطاب الجديد، وأخذنا هذا الحوار من ساحة المدرسة والمسجد إلى بيت الحاج محمود محسن (رحمه الله). كان الحاج محمود هو أحد رجالات الإخوان المسلمين من جيل الخمسينيات، وكانت أول لقاءاتنا بالشيخ أحمد ياسين تنعقد في منزله داخل مخيم الشابورة بمدينة رفح.. كان الشيخ أحمد ياسين هو صاحب الفكرة والحركة، التي عملت على تجنيد ما لدينا من طاقات وحشدها، بُغية تحقيق طموحات شعبنا في التحرير والعودة، وفي إطار مشروعنا الوطني بسياقه الإسلامي العالمي.

كانت الجلسات الأولى يجتمع فيها من عشرة إلى خمسة عشر شاباً ممن تميزوا بالمستوى التعليمي المتفوق، وبالحس الوطني العالي، وكان من بين هؤلاء الشباب موسى أبو مرزوق وفتحي الشقاقي وجمال أبو هاشم وإبراهيم أبو مر وحمودة جروان وخميس أبو ندا، وإبراهيم أبو معمر وآخرون.

كان الشيخ أحمد ياسين والأستاذ محمد الغرابلي والأستاذ عبد الفتاح دخان يشاركون أحياناً في حضور تلك الجلسات وتوجيه النقاش فيها بكل ما يعزز حديث الشيخ الشهيد أحمد ياسين.

بدأنا كطلاب في الثانوية، نبحث عن مكان يمكن أن تدور فيه حواراتنا الشبابية بأمان وسرية، لإدراكنا لأهمية أن تشكل مجموعتنا أول نواة تنظيمية للحراك الإسلامي،الذي يقوم على فكر الإخوان المسلمين، فكان بيت عائلة فتحي الشقاقي هو بمثابة "دار الأرقم ابن أبي الأرقم"، حيث كنا نتسلل إليه فرادى، كي لا يرانا أحد العملاء ويوشي بنا لأجهزة أمن الاحتلال (الشاباك). أخذت هذه اللقاءات المتكررة تسهم في تطوير وعينا الديني وحسَّنا الحركي، وتدفعنا لبذل الكثير من الجهد والعمل لكسب المزيد من الطلاب للفكرة التي صرنا نؤمن بها ونعيش من أجلها.

مع نهاية 68، كانت التنظيم الإخواني الفلسطيني قد تشكل في العديد من مخيمات ومدن قطاع غزة، وبدأنا نلتقي مع الشباب في المناطق الأخرى من القطاع، وذلك ضمن أنشطة شبابية رياضية أو ترفيهية على شاطئ البحر، حيث كان الشيخ أحمد ياسين هو ضيف اللقاء الأول، إذ كان يعزز من ثقتنا بأنفسنا وبالمشروع الإسلامي الذي وضع قضية تحرير فلسطين على رأس أولوياته؛ باعتبارها القضية المركزية للأمتين العربية والإسلامية.

كان د. فتحي الشقاقي هو دينامو مجموعتنا في رفح، كما كان خيار الشيخ أحمد ياسين لتولي أمر قياد عناصر التنظيم الذين ذهبوا للدراسة في الضفة الغربية..لاعتبارات لا قيمة لذكرها الآن، انجرحت الثقة بين الشيخ أحمد ياسين والشقاقي، وأثَّرت على مكانته القيادية عندما انتقلنا للدراسة الجامعية في جمهورية مصر العربية.

الثورة الإسلامية في إيران: الشقاقي وقلم المفكر

في مطلع السبعينيات، كانت الصحوة الإسلامية تعم أرجاء القطر المصري، بعدما أطلق الرئيس أنور السادات سراح الإخوان المسلمين من السجون عام 73، وانتعشت الحالة الإسلامية التي حركتها أنشطة الإخوان في الشوارع والجامعات.

ثم كانت التظاهرات الإسلامية العارمة في إيران، وانتصار الإمام الخميني على الشاه رضا بهلوي، والنظام الملكي الذي كان يدور في فلك السياسة الأمريكي.

أبدع د. الشقاقي في كتاباته عن تلك الحالة الثورية الإسلامية، وكانت مقالاته تجد قبولاً وتصدراً في مجلة "المختار الإسلامي"؛ أحد أصوات الاعلام الإسلامي في مصر، وقد نجح في خلق أجواء إيجابية تجاه الثورة الإسلامية، وكان التجلي في كتابه "الخميني: الحل الإسلامي والبديل"، والذي كان بمثابة دعوة لتحريك جموع الإسلاميين للثورة ضد أنظمة الحكم المستبدة، بهدف تحقيق التغيير والإصلاح الذي تنتظره الجماهير.

أربك هذا الكتاب - برغم صغر حجمه - عملنا السري في مصر، حيث قامت الأجهزة الأمنية المصرية بحملات مداهمة واعتقال لعدد من كوادر التنظيم في القاهرة والزقازيق، وهروب البعض إلى الأردن وقطاع غزة.

كان د. الشقاقي معجباً بالثورتين الجزائرية والإيرانية، وهذا ما شكَّل قناعته بضرورة التحرك ضد الاحتلال وعدم انتظار نضج الشارع، والذي كان يراهن عليه موقف الاخوان المسلمين.

كان د. الشقاقي يردد مقولة العربي بن مهيدي: القِ بالثورة إلى الشارع يلحق بك الشارع.

كانت رؤية الاخوان المسلمين قائمة على فكرة "دولة التمكين" لتحقيق مفهوم الخلاص من الاحتلال، وإنجاز أحلام التحرير والعودة.

انشغل الطرفان في الدفاع عن فكرتيهما، والتي تمحورت حول التساؤل التالي: هل ننطلق بالمقاومة المسلحة قبل تحقيق دولة التمكين أو أن يستمر الاعداد حتى قيامها؟!.

تصاعد الخلاف، وأخذت أطرافه بالتباعد إلى أن جسَّد د. الشقاقي فكرته عملاً مسلحاً، بإنشاء تنظيم مستقل باسم "حركة الجهاد الإسلامي"، فيما بقي الإخوان متمسكين بقناعتهم بانتظار "دولة التمكين".

جاءت الانتفاضة في ديسمبر 1987، ومعها انتهت حالة الجدل الصاخب بين الإسلاميين، حيث دخل الجميع على خط المواجهة مع الاحتلال، وتأسست حركة حماس، منتهجة لأسلوب المقاومة المسلحة، وأبدعت مع حركة الجهاد في العمليات العسكرية، مما فتح الباب مجدداً لحوارات موسعة في الداخل والخارج لتوحيد الصف والعمل وفق عنوان وطني واحد، إلا أن ذلك لم يتحقق بالأمل المطلوب، وإن كانت المحاولات والجهود لم تذهب سدى، إذا صار التنسيق بين ديدن الطرفين، وتقاربت خطوط التحرك السياسي والعسكري بينهما.

اليوم، ونحن نتذاكر سيرة د. فتحي الشقاقي ومسيرته، أسجل كرفيق درب بعض النقاط حول مواقف جمعتني به:

- د. فتحي الشقاقي ظلمناه، عندما قمنا بإطالة فترة عقابه التنظيمي مطلع السبعينيات على موقف شكلي ما كان يستوجب مثل ذلك العقاب.

- التزم د. الشقاقي بالقرار الحركي، ولكن المبالغة في التهميش، جعلته يتجاوز حالة الهجر والعزلة في الزقازيق، ويطور رؤيته كمفكر ومنظِّر إسلامي وصاحب مشروع وطني.

- كان د. الشقاقي سابقاً لزمانه، حيث كانت قدراته على إمعان النظر وإعمال الفكر والتحليل وإقامة العلاقات متجاوزة لتعقيدات التنظيم والعمل السري.. أتذكر هنا واحدة من النقاشات التي دارت بينه وبين د. موسى أبو مرزوق؛ مسؤول التنظيم الفلسطيني في مصر خلال منتصف السبعينيات، حول ضرورة التحرك للتعجيل بالمشروع الجهادي، حيث كان موقف د. أبو مرزوق يأن المرحلة لا تزال مبكرة أمام العمل العسكري، الذي يتطلب الكثير من الجهد في الإعداد والاستعداد، والعمل للارتقاء بوعي الشارع والتنظيم لمستوى المواجهة، وبأننا نحتاج لمزيد من الوقت؛ لأن كوادر الحركة وجماهيرها ليست بوعي الشقاقي وحماسته.

وأضاف: أنت أخي فتحي مثل فارس يقطع الصحراء وهو يمتطي ظهر حصان، وخلفه أتباعه محمولين على عربة كارو يجرها حمار، وهذا يوجب عليك أن تتحرك بسرعتهم، لتجدهم إلى جانبك إن فاجأك من يتربصون بك من الأعداء. كان د. أبو مرزوق يتفهم كل ما يدور بخَلد د. الشقاقي، وقد عمل على أن يظل تفكيره في دائرة التنظيم الإخواني، إلا أن انتقال د. أبو مرزوق للعمل في الإمارات بعد تخرجه قد باعد بين د. الشقاقي وقيادة الحركة الجديدة لتنظيم بلاد الشام، الذي تأسس عام 1978.

كان د. فتحي يمتلك كل ما يأسر به القلوب، الفكر والوعي الثقافي والسياسي، ومهارات الحوار والانفتاح وسعة الصدر، مع حالة من النبوغ والشجاعة والإقدام، إضافة إلى إمكانياته المتقدمة في كتابة الشعر والأدب، والحديث باللغتين العربية والإنجليزية، مع إبداعات القدرة على طرح المبادرات والمرونة في التعامل مع الآخرين، وتجنب سياسة الاقصاء والتشدد، ودعوته التي شكلت شعاراً "الوحدة من خلال التعدد"، والانفتاح على فصائل العمل الوطني؛ باعتبار أن القضية تحتاج إلى جهد جميع القوى السياسية والنضالية الفلسطينية لتحقيق تطلعات شعبنا بحقه في العودة وتقرير المصير.

كان د. الشقاقي في شبابه "زين الشباب"، وكان في حركته الدعوية وسلوكياته الأخلاقية ووعيه القادر بامتياز على تقريب القلوب، وكسبها لصالح فكرته واتجاهاته النضالية.

في الحقيقة، عاشت كلماته بيننا كالبذور التي تحتضنها تربة خصبة، حتى جاء استشهاده بالدماء التي ترويها، فأزهرت وأينعت وتلألأت، وكان عبيرها تنتعش معه أنفاس المرابطين على الثغور من رهج السنابك والغبار الأطيب.

- إن هناك الكثير من سيرة د. الشقاقي وسنوات جهاده وفكره السياسي والنضالي ما يوجب العمل على تجليته بالمزيد من البحث والدراسة، خاصة وأن ما كتبه متوفر في إطار موسوعي، ولكن يتطلب أقلام الباحثين لتقديمه في كراسات تتناول خلاصات الدروس والعبر ليستنير بها هذا الجيل ومن يأتي بعده، لاستكمال مشوار شعبنا في الجهاد والمقاومة.

يا أبا إبراهيم.. ما نسينا أنت قد علمتنا باستشهادك بسمة المؤمن في وجه الردى.

رحم الله أبا إبراهيم.. لقد ملأني إعجاباً بهمته العالية ووعيه المتألق وبقدراته على كسب احترام الآخرين، وكان بالنسبة لي مدرسة في الفكر والممارسة.