نظافة الثقافة.. بقلم سائد حسونه

الساعة 04:39 م|07 سبتمبر 2019

فلسطين اليوم | سائد حسونه

الإسلام أكبر ثقافة معنوية في العالم، لنرى هل تعرضت هذا الثقافة الذي أخذت مجراها طيلة القرون الأربعة عشر المنصرمة للتلوّث كما يتعرض الماء أو غيره من الأشياء؟

أرأيتم كم يكون الماء المتفجر من العيون والينابيع صافياً عذباً؟!! لكنه بمجرد أن يجري في الجداول والأنهار، فإنّه قد يتلوث تدريجياً.. وربما يكون هذا التلوث محسوساً.. وربما لا يكون.. فإن كان محسوسا يلاحظ عندما يكون التراب والطين داخل الماء، أو عندما يمر الماء على مكان فيه روث فيختلط معه شيء منه، فيتغير لونه.

أما التلوث غير المحسوس فيمكن أن يكون في الماء لكنه غير قابل للمشاهدة، أي إذا أردت أن تنظر فيه تجده صافياً زلالاً وكأنه لم يختلف عنه عندما كان في العين أو الينبوع عينَهُ. ولكن عندما يدخله أحد الأشخاص وهو مصاب بمرضٍ معدٍ، ويشرب منه الناس فمن الطبيعي أن يصابوا بذلك المرض وكل وفق مناعته، في حين لا يُرى في الماء شيء، ولكن الحقيقة البتة أن هناك جراثيم صغيرة جداً لا تُرى بالعين المجردة إلا بالمجهر، وهذه هي سبب تلويثه، ولا ننكر القول بأنّه يمكن تصفية هذا الماء الملوث بواسطة أجهزة التصفية الخاصة. كما توجد هذه الحالة في الأمور المادية فهي كذلك موجودة في الأمور المعنوية. وبعبارة أخرى: إنّ المنهل الفكري الصافي الذي يكون نظيفاً وخالياً من الملوثات في البداية يمكن أن يتعرض -بسبب ملامسته التدريجية للمناهل الفكرية الأخرى، أو بسبب تلاقف الأيدي له على مرّ الأجيال- إلى تلوث محسوس تمكن ملاحظته، أو غير محسوس لا يدركه إلّا التلوث وتشخيصه، كما ذكرنا سابقاً فمثلما تتم تصفية الماء الملوث بواسطة الأجهزة الموجودة، فكذلك تتم تصفية الأفكار وتعميقها.

إن أكبر ثقافة معنوية في العالم هو الإسلام، الإسلام الذي شقّ طريقه وغذّى الحياة.. لنرى هل تعرضت هذا الثقافة الذي أخذت مجراها طيلة القرون الأربعة عشر المنصرمة للتلوّث كما يتعرض الماء أو غيره من الأشياء؟ وإذا كان بالإمكان تلوثها فما هي الأحداث التي مرّت على العالم الإسلامي وأدّت إلى تلويث هذا الماء الصافي؟

إن عوام الناس ليسوا من أهل البحث والتحقيق ولكن تجدهم دائماً في قلب الأحداث، إذ يحصون الأحداث المهمة التي لها أهميتها من منظور تاريخي، ولو سألت أكثرهم عن أهم الأحداث التي ظهرت في التاريخ الإسلامي فإن أول حدث مهم يتبادر إلى أذهانهم مثلاً "حملة المغول" ضد البلاد الإسلامية.. والحق هو هذا. إنه حدث مهم، ومهم للغاية؛ لأنه كبّد المسلمين خسائر مادية ومعنوية جسيمة جداً.. وكم قتل من الأبرياء في تلك الحملة المشئومة! وكم أحرق من الكتب والمكتبات! وكم قتل من العلماء! هذه حادثة مهمّة، ولكن بقدر ما هي مهمّة فإنها تدلل على نفسها بنفسها.. إنها تشبه التلويث المحسوس في الماء.. ولكن هناك بعض الأحداث التي وقعت في دنيا المسلمين، وهي صغيرة جداً في ظاهرها كالميكروب الذي لا يرى إلا بالمجهر، لكن خطرها على الإسلام إن لم يكن أشد من خطر المغول فليس أقل منه.

إذاً.. علينا أن نتحرى: هل تلك الأحداث لها وجود أو لا؟ ومن الطبيعي أنها لم تكن ممكنة إلى حدّ ما، ولكن إذا تجاوزنا ذلك الحد تكن ممكنة. وذلك الحد الذي لم تكن فيه ممكنة هو عندما نقول أن القرآن -وهو الكتاب السماوي المقدس، والعمود والفقري للإسلام- مصون ومحفوظ، ولم يستطع أحد أن ينال منه بالتحريف وغيره، كما لم يكن في مقدور أي قوة أن تتصرف وتتلاعب به كما يحلو لها.. فالله تعالى أنزل القرآن ببلاغة فريدة، وفصاحة فذّة، وروح عالية بحيث كان يحفظ في الصدور منذ البداية، وكان يكتب بأمر النبي الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم-.. ورغم ذلك لم يقدر أحد من المسلمين الجهلاء أو من الأعداء الأذكياء أن يغيّر هذا الكتاب المقدس ويبدّله، وهنا يتجلى موقعه كجهاز للتصفية. لكن لو تجاوزنا القرآن إلى غيره، فإن هذا الغير كان معرضاً للتلوث كالسنة النبوية مثلاً، ودليلنا على هذا الكلام نأخذه من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه، وهذا الحديث هو: ".. فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله عز وجل.. فما وافق كتاب الله.. فخذوا به، وما خالف.. فاطرحوه"، فهذا ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته، والإسلام كان لا يزال في ريعان مسيرته. والذي نستفيده هنا هو ظهور عدد غير كثيرٍ من الكذابين في ذلك الزمان، علماً أن النبي -صلى الله عليه سلم- توقّع أن يزداد عددهم في العصور اللاحقة وقد ازداد فعلاً، لكن إذا كذب أحد في عصر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فإنما يكذب إمّا لغرض شخصي أو لأمر تافه، ومن أجل أن يدعم كلامه كان يقول: سمعتُ من النبي هكذا.. أما في عصر ما بعد النبوة فإن الكذب اتخذ طابعاً اجتماعياً، وكان وسيلة بيد أرباب السياسة حيث استغلوه ليصب في صاح سياستهم، وبذّروا من أجله الأموال الطائلة، وكانوا يبحثون عن المحدّثين من ذوي الإيمان الضعيف، فيدفعون لهم ما شاءوا من المال ليضعوا لهم حديثاً في موضوع معين يلتقي وتوجهاتهم.

 

فلننظر سوياً إلى التوجهات الموجودة في عالمنا المعاصر، فالرأسمالية -مثلاً- ترى أن أقوالها وأفكارها صالحة، في حين ترى الشيوعية أنّ الصالح ما تعتقده هي فقط، وهكذا كل إنسان يعتبر كلامه صالحا، وهكذا بقية المبادئ والأفكار في العالم، لكن المنهج الذي يعتبر منهجاً حقيقياً في الحياة هو ذات المنهج الذي لا يكتفي بالقول بأنه: الكلام الصالح، والعمل الصالح، والعقيدة الصالحة، بل عليه حينما يقول: الكلام الصالح أن يوضح أبعاد ذلك الكلام ومواصفاته، وكذلك الأمر بالنسبة إلى العمل الصالح، والعقيدة الصالحة، ولو استقرأنا المسيحية واليهودية لوجدناهما على نفس الصورة، فالثقافة الوحيدة الذي أثبتت وجودها وبرهنت على مبدئيتها من دون أن تنال منها يد التلويث والتحريف شيئاً هي ثقافة الدين الإسلامي، حيث لا أجزم أنه لم يظهر فيه تيار ملوث كلاّ، ولكن كلما ظهر هناك تيار منحرف فإن وسائل التطهير الموجودة في الدين تعمل على تقويمه من الانحراف، وتصفيته من التلوث، وأولها: القرآن الكريم نفسه، وهو المعيار الأعلى في هذه العملية، ثم يأتي بعده ما تواتر من أحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وتم التسليم بصحتها.

كلمات دلالية