ـ الأهرام المصرية 28/1/2009
الآن.. وقد توقف إطلاق النار في غزة, فهل يمكن غض النظر عن مؤشرات صارخة تشير إلي أن الحرب في غزة, القابلة للتكرار, كانت جزءا من مرحلة إسرائيلية جديدة في إدارة النزاع العربي ـ الإسرائيلي؟
وتجنبا للاجتهاد التحليلي أمامنا ما قاله الكولونيل هيرتزي, أحد القادة العسكريين الذين شاركوا في الحرب الإجرامية علي غزة, الذي قال:
إن معركة إسرائيل للبقاء( حسب تعبيره) لم تنته, وإنني لا أعتقد أن هذه الحرب ستجلب السلام.. فهي جزء من عملية طويلة. ولا يختلف مع مضمون كلامه ما ذكره إيهود باراك وزير الدفاع, الذي أوضح أن عملية غزة لم تأت فجأة, بل إنهم كانوا قد خططوا لها قبلها بأشهر, وقبل موعد انتهاء الهدنة مع حماس يوم19 ديسمبر2008.
ولعل هذا يؤكد ما أظهرته الأحداث من أن أهداف الحرب أبعد مدي من كل ما أعلنته إسرائيل.
والأهداف متعددة وتشمل:
(1) استهداف مصر علي وجه الخصوص.
(2) تفتيت العالم العربي وإشاعة الانقسام داخله.
(3) إضعاف خط الحدود الفاصل بين السكان الفلسطينيين في غزة المحتلة وسيناء, وذلك من أجل إحياء أهداف إسرائيلية معتمدة ومقررة تجاه سيناء.
وكل ذلك له أدواته المتطورة في استراتيجية إسرائيل لإدارة النزاع, المدعومة من الولايات المتحدة, وهي الاستراتيجية التي طورت المبدأ التقليدي المعروف بـ الحرب بالوكالة, إلي مبدأ الدبلوماسية بالوكالة, وذلك تنفيذا لخطة سبق أن وردت في مشروع القرن الأمريكي الجديد لجماعة المحافظين الجدد حلفاء إسرائيل المعلن عام1998, وهو المشروع الذي أقام بوش علي أساسه استراتيجية السياسة الخارجية الجديدة التي أعلنها في20 سبتمبر2002, وتضمن المشروع النص علي إضعاف أي قوة إقليمية في المنطقة.
وهذا المشروع يمثل استمرارية لبرنامجهم الذي وضعوه في عام1996 الذي عرف باسم أوراق استراتيجية وسلموه إلي نيتانياهو عند توليه رئاسة الحكومة عقب فوز الليكود في الانتخابات, ليكون مرشدا له في حكمه, وتضمن رفض مرجعية الأرض مقابل السلام, وعرقلة أي فرصة لقيام دولة فلسطينية, وتمكين إسرائيل من الهيمنة علي المنطقة.لكن مصر كأكبر قوة إقليمية, كانت هي العقبة أمام مشروعهم, وهو ما جاء التعبير عنه في أكثر من مناسبة, منها:
أولا:( أ) يوم أن جاهر جيمس وولسي مدير المخابرات المركزية الأمريكية الأسبق, وأحد القيادات البارزة في حركة المحافظين الجدد في عام2003, وقبيل حرب العراق, بتصريحات تحريضية مناهضة لمصر.
(ب) يوم أن ناقشت هيئة السياسات الدفاعية بوزارة الدفاع الأمريكية, وكان يرأسها ريتشارد بيرل الحليف المتعصب لإسرائيل, في أغسطس2002, تقريرا يصف حرب العراق بالمرتكز التكتيكي, والسعودية بالمرتكز الاستراتيجي, ومصر بالجائزة الكبري, في مشوار يبدأ بحرب العراق.
ثانيا: تفتيت الدول العربية, وهو ما نصت عليه الخطة التي عرفت باسم استراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات التي تضمنت مبدأين:
(1) إحداث انقسام في المنطقة العربية.
(2) أن تكون إسرائيل قوة إقليمية مهيمنة.
وتوضح هذه الاستراتيجية أن التفتيت ليس فكرة جديدة, بل هي في صميم المشروع الصهيوني, وأن انقسام الدول العربية هو مطلب استراتيجي مستمر.
ثالثا: عبر المحاولات الإسرائيلية التي شهدناها طول عام كامل, لدفع الموقف في غزة إلي نقطة الالتهاب, قبل الحرب الإجرامية الأخيرة, فقد توالت تدابير الحصار, والتجويع, ودفع الفلسطينيين إلي حالة من اليأس, يشعرون فيها أن الحياة في بلدهم لا تطاق, ولدفعهم دفعا إلي الخروج الكبير نحو سيناء.
وتلك سياسة ليست من الأسرار المخبأة في صناديق مغلقة في إسرائيل, بل هي معروفة ومعلنة, منذ قيام إسرائيل, وترددت في تصريحاتهم وكتاباتهم تحت اسم الترحيل, وجاءت في مذكرات بن جوريون الذي قال: إنني أؤيد الترحيل الإجباري للفلسطينيين, ولا أراه تصرفا غير أخلاقي.
والحديث عن أطماع إسرائيل في سيناء تكرر في أكثر من موضع في استراتيجية إسرائيل للثمانينيات, وورد فيها القول بأن اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام عرقلت خطط إسرائيل في سيناء, التي كانت تمثل أولوية سياسية لإسرائيل.
إن خطط إسرائيل للقفز إلي سيناء, والتوسع في أي أرض عربية, تعتمد دائما علي استفزاز بعض الأطراف العربية, ودفعها للرد عليها, مما يضع في يد إسرائيل مبررا لتنفيذ خطط العدوان المبيت من قبل, وسبق أن اعترف بهذا التكتيك موشي ديان.
غزة, بما جري فيها قبل العدوان الأخير, لم تكن الهدف الأساسي الوحيد للحرب, صحيح أن ما أعلنته إسرائيل عن إيقاف صواريخ حماس جزء من أهداف الحرب, لكن الهدف أكبر وأوسع مدي, مثلما لم يكن هدف حرب العراق إزالة أسلحة دمار شامل, وهو ما تكشفت حقيقته فيما بعد.
الهدف هذه المرة إعادة رسم الخريطة الإقليمية في المنطقة بتمكين إسرائيل منها, وإضعاف موقف العقبة الكبري في طريق هذا الطموح, وهي مصر. وهو هدف لم يكن ليتحقق بشكل مباشر بينما إسرائيل تتستر وراء أستار السلام, بل كان يلزمه تفتيت العالم العربي, بعملية إجرامية تحدث انقساما, كالذي حدث بالفعل.
ولن تهنأ إسرائيل لو أن العرب متحدون بينهم اتفاق علي رأي واحد, وموقف واحد.