خبر كتب هيثم أبو الغزلان : غزة في مواجهة حرب الإبادة ..صمود مذهل وتغيير معادلات

الساعة 02:10 م|28 يناير 2009

قد يكون من المفيد إيراد قول يعبّر وبشكل واضح أن غزة لن تموت، وستبقى مثالاً مقاتلاً يعبّر عنه محمود درويش بالقول: «قد يزرعون الدبابات في أحشاء أطفالها ونسائها وقد يرمونها في البحر أو الرمل أو الدم ولكنها لن تكرر الأكاذيب ولن تقول للغزاة: نعم. وستستمر في الانفجار. لا هو موت ولا هو انتحار ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة».

 

كان يخشى ديفيد بن غوريون اجتياح قطاع غزة في العام 1948 بينما اقترح رئيس وزراء إسرائيلي آخر اسحق رابين «رميه في البحر». فقد شكل قطاع غزة منذ أكثر من نصف قرن كابوساً للإسرائيليين. ويصل ذلك إلى حد أن الإسرائيليين يقولون بالعبرية «ليخ لغزة» (أي اذهب إلى غزة) عندما يريدون القول «اذهب إلى الجحيم».

بن غوريون الذي رفض غزو قطاع غزة في الحرب العربية-الإسرائيلية الأولى أطلق كذلك فكرة «نقل الإشراف على قطاع غزة من مصر إلى الأردن».

لكن هذه الخطة لم يكتب لها النجاح. في المقابل أعلن في غزة العام 1948 استقلال فلسطين من قبل مفتي القدس الحاج أمين الحسيني، من دون أن يستمر ذلك طويلا.

 

ورغم أن موشيه يعالون رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية عام 2002 قد دعا وعمل على تنفيذ نظريته الداعية إلى «كي الوعي الجمعي الفلسطيني» مشدداً على أنه «على الفلسطينيين أن يفهموا وفي أعمق أعماق وعيهم أنهم شعب مهزوم»، مكرراً مقولات فلاديمير جابوتنسكي، أحد أهم آباء الصهيونية الحديثة في عشرينيات القرن الماضي، الذي ابتدع نظرية «الجدار الحديد» التي أسست للعقيدة العسكرية الصهيونية في العقود التالية. وبحسب هذه النظرية لا يمكن هزيمة الفلسطينيين والعرب إلا من خلال القوة العسكرية الماحقة التي تمثل جدار الحديد في وجه مقاومتهم، فكلما حاولوا مواجهة إسرائيل يدميهم ذلك الجدار. وبعد أن ييأسوا جراء محاولاتهم اليائسة والثمن الذي يدفعونه، وبعد ذلك فقط، فإنهم سيستسلمون.

 

وفي لقاء مع موقع أخبار تابع للمتدينين اليهود يعود لحزب «شاس» اليهودي المتديّن المتطرف قال الوزير الإسرائيلي زعيم شاس في الكنيست ايلي يشاي «يجب مسح غزة عن الأرض وعلى الجيش تخريبها وهدم آلاف المنازل فيها».

 

أما رئيس حزب «إسرائيل بيتنا» المتطرف افيغدور ليبرمان فقد دعا حكومته إلى ضرب قطاع غزة بقنبلة نووية كما فعلت الولايات المتحدة في حربها مع اليابان وبحسب ما ورد على صحيفة «معاريف».

 

ولكن «كيّ الوعي»  لم يحصل والدليل آخر ما قالته إمرأة فلسطينية علا عليان، (26 عاماً)، التي تقطن في التخوم الشرقية لمخيم جباليا شمال قطاع غزة، عندما تمكنت من الاتصال بأهلها : «أنا متأكدة أن كل لحظة تمر تقربني أنا وأولادي الثلاثة وزوجي من الموت المحقق، بيوت جيراني قصفت. من النوافذ شاهدت جثث نساء أعرفهن وأطفالهن ملقاة على قارعة الطريق، بعضهن قتلن أثناء تحركهن في الشارع. والبعض الآخر دفع القصف الذي استهدف منازلهن بجثثهن للشارع. جدران بيتي لا تتوقف عن الاهتزاز. وكلما سمعت صوت صاروخ ينطلق من طائرة أو مدفعية، أشعر أنه سيسقط على بيتي. كونوا على ثقة بأني لا أبكي جزعاً من الموت، لكن ما يثير المرارة في نفسي أن أموت دون أن أراكم».

 

وعلى العموم استطاعت المقاومة في لبنان وفلسطين تقديم نماذج واقعية عديدة أثبتت من خلالها أن إسرائيل ليست قابلة للهزيمة فقط وإنما الهزيمةُ قدرها المحتوم. ففي العام 2000 دحرت المقاومة الجيش الصهيوني عن لبنان، وفي العام 2006 هزمته شرّ هزيمة. وفي فلسطين قدّمت المقاومة نماذج واقعية رائعة في التضحية والبذل والعطاء ما شكّل معادلات جديدة وفرض معادلاتٍ أخرى أيضاً قيّدت العدو رغم الإمكانات الهائلة التي يمتلكها. واليوم في قطاع غزة تعلن غزة وشعبها جدارتهم بالحياة والنصر مُثبتة للعالم الذي لا يرى ولا يسمع إلا بأذن صهيونية أن العين تُقاوم المخرز وأنَّ الدم يهزم السيف...

 

هذا الصمود والانتصار اللذين يتحققان في غزة سيشكلان محطّة مفصليّة وهامّة في تاريخ الصراع مع إسرائيل، والمشروع الغربي الاستعماري للمنطقة، فالانتصار لا يُقاس بحجم التدمير، بل بالقدرة على تحقيق الأهداف ومنع العدو من تحقيق أهدافه. ويدلّل على هذا أنه مع تكشّف المزيد من الحقائق حول الحرب ونتائجها والخسائر التي تكبّدها الطرف الإسرائيلي كلّما زادت أهميّة هذا الانتصار ومركزيته في الصراع مع المشروع الإسرائيلي الأمريكي الذي يستهدف المنطقة العربية والإسلامية، ويستهدف الأمة كل الأمة شعوباً وثروات ومقدرات وقيماً حضارية وعقدية... كما أن صمود المقاومة والشعب الفلسطيني والاستمرار بإفشال المخططات والعدوان الإسرائيلي ومراكمة تصديع قوة الردع الإسرائيلية سيُساهم في دفع إسرائيل للانكفاء نحو الداخل وإعادة التموضع داخل الخط الأخضر. فالسيطرة العسكرية على مناطق الضفة والقطاع وإلى ما لا نهاية بات أمراً فوق طاقة إسرائيل وقدرتها على الاحتمال بفعل تكاليفه الباهظة مادياً وبشرياً.

 

 

 

المسؤولية والدروس

 

المجزرة الصهيونية المتواصلة ليست التي بدأت في قطاع غزة منذ السبت (27/12/2008)، فريدة من نوعها، والتي وصفها الكاتب البريطاني باتريك سيل بأنها «حرب مجنونة»؛ فالدولة العبرية ككيان استعماري إحلالي قامت أصلاً على فكرة المجزرة، وإن مجازر النشأة في أربعينيات القرن الماضي لأكثر بشاعة بما لا يقارن بحال بما نشاهده بأعيننا الآن، غير أن هذا لا يهون بالطبع من شأن المجزرة الراهنة التي راح ضحيتها حتى كتابة هذه السطور أكثر من 6000 فلسطيني ما بين شهيد وجريح.

 

هذه المجزرة لن تحقق أهدافها بطبيعة الحال. سوف تقتل المئات من أبناء الشعب الفلسطيني، وتصيب آلاف غيرهم، غير أنها لن تفضي سوى إلى إعادة إنتاج مواقف سابقة..، ولذلك فإن نتائج المجزرة سوف تكون شبيهة إلى حد ما بنتائج العدوان الصهيوني على لبنان في 2006.

 

عبر الشارع العربي عن رفضه للمجزرة من خلال مؤشرات ظاهرة، لكن تأثيره بقي حتى الآن في إطار رفضه سلوك النظم العربية، فلا حصار غزة قد انتهى عربياً، ولا سفارة صهيونية أغلقت في بلد عربي، أو حتى استدعي سفير عربي من عاصمة العدوان، باستثناء تجميد قطر وموريتانيا علاقاتهما مع دولة الاحتلال. واستغل عديد من النظم العربية المجزرة مناسبة لنقد سلوك نظم عربية أخرى، بينما كان الأجدى هو القيام بسلوك يفضي إلى تأثيرات عملية، ولنتصور لو أن كل الدول العربية قد سعى لإرسال ما يكفي من مساعدات لأبناء غزة عبر مطار العريش فمعبر رفح، وكيف كان من الممكن لسلوك كهذا أن يمثل ضغوطاً في الاتجاه الصحيح من أجل إنهاء الحصار على غزة ووقف العدوان.

 

فتحت عنوان لافت «هجوم إسرائيل على غزة جريمة لن يكتب لها النجاح»، رأى الصحفي «سيمون ميلن» في صحيفة الغارديان البريطانية (30/12)، أن المحاولة الإسرائيلية المدعومة أمريكياً لإخضاع المقاومة الفلسطينية بالقوة الكاسحة، سيؤدي على الأرجح إلى نتيجة عكسية.

 

وهاجم الكاتب منطق الحكومات الغربية التي تردد ما تقوله إسرائيل من أن أي حكومة في العالم لن تقف مكتوفة الأيدي أمام انهمار الصواريخ على أراضيها، مشيراً إلى أن قطاع غزة مثله مثل الضفة الغربية كان وما زال محتلاً بشكل غير قانوني من قبل إسرائيل منذ عام 1967.

 

وقالت صحيفة «نيويورك تايمز» إن الهدف الرئيسي لعملية غزة، القضاء على قوة حماس وقدراتها العسكرية ولكن الهدف الأهم هو تخليص إسرائيل من أشباح هزيمتها في لبنان عام 2006 واستعادة قوة الردع الإسرائيلية من جديد.

 

وفي الوقت الذي حشدت فيه إسرائيل دباباتها على مشارف غزة، اصطف قادتها للتأكيد على أن إسرائيل لا تريد الإطاحة بحكومة حماس أو احتلال غزة وحكم 1.5 مليون فلسطيني لأن البديل عن حماس وغياب سلطة هو الفوضى.

 

وأشارت «نيويورك تايمز» إلى أن الهدف المعلن هو إجبار حماس على وقف صواريخها تجاه إسرائيل مما يعني معاهدة سلام أخرى جديدة معها، ولكن التهدئة الجديدة ستحمل شروطا جديدة.

 

وتقول الصحيفة إن هذا الأمر يجب أن لا يخفي الحقيقة أن أعداءها في غزة لم يعودوا يخافون منها وعليه فإن استعراض القوة يجب أن يكون كفيلاً بحل المعضلة. ونقلت الصحيفة عن محلل إسرائيلي قوله إن تصريحات مسؤولي الحكومة عن القوة والطاقة التي تميزت بها قرارات الحكومة تعكس في النهاية قلق الشارع بضرورة استعادة قدرة إسرائيل الدفاعية.

 

ولكن الصحيفة تقول إن هناك مخاطر لإسرائيل موازية لما حدث في لبنان حيث خرج حزب الله بعد حرب 34 يوما ليعلن الانتصار. وفي حالة غزة فإنه لو فشلت العملية أو تركت المقاومة بقدرة ولو بسيطة على البقاء وحتى لو أعلنت النصر، فستخرج المقاومة من المعركة كقوة لا يمكن أن ينازعها أحد في الميدان السياسي الفلسطيني.

 

وفي مقال لصحيفة «واشنطن بوست» تحت عنوان «الفشل الأخير لاولمرت» كتب جاكسون ديهل قائلاً إن «المعركة الأخيرة لإسرائيل تعني أن ايهود اولمرت، رئيس الوزراء الإسرائيلي سيتم تذكره بشن حربين دمويتين، وحروب صغيرة ضائعة في أقل من ثلاثة أعوام، والتحدث عن الحرب الأولى في لبنان التي فشلت في هزيمة حزب الله».

 

 

 

الأهداف النهائية!!

 

واختلفت وسائل الإعلام الصهيونية في تحديد الأهداف النهائية للحملة العسكرية على القطاع. فمن ناحيته قال رون بن يشاي كبير المعلقين العسكريين في صحيفة «يديعوت احرنوت» إن الهدف من العملية العسكرية هو «دفع حماس إلى وقف إطلاق الصواريخ على إسرائيل». وأوضح بن يشاي أن المجلس الوزاري المصغر لشؤون الأمن وقيادة الجيش اتفقا على أن تكون العملية متدحرجة وليست شاملة من اجل إفساح المجال أمام فرصة العودة للتهدئة في ظل شروط مريحة لإسرائيل.

 

 وأشار يشاي أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تفترض أن قادة حركة حماس معنيون بمواصلة حكمهم للقطاع وبالتالي فإن الضربات العسكرية الإسرائيلية تهدف إلى تقليص قدرة الحركة على مواصلة الحكم، بشكل يدفعها لتغيير موقفها والعمل على وقف إطلاق الصواريخ على المستوطنات.

 

وشكك بن يشاي في جدية تصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين الذين يؤكدون أن هدف إسرائيل هو إسقاط حكم حركة حماس. وأشار إلى أن هناك مخاوف من أن يؤدي إسقاط حكم الحركة إلى تولي الأطراف «الأشد تشدداً» فيها مقاليد الأمور في القطاع.

 

وأشارت نتائج استطلاع للرأي أجرته صحيفة «هآرتس» إلى أن 70% من الصهاينة يؤيدون استمرار العملية الوحشية الصهيونية ضد القطاع.  و46% من «الإسرائيليين» يعارضون «شن عملية عسكرية واسعة النطاق في قطاع غزة قد تكون مرهونة بسقوط عدد كبير من الضحايا في أوساط جنود الجيش الإسرائيلي».

 

 

 

هآرتس: البحث عن مخرج سياسي..

 

وعلى خلفية استمرار المقاومة الفلسطينية بإطلاق الصواريخ كتبت صحيفة «هآرتس» بعد أيام من الحملة العسكرية على قطاع غزة، بدأت إسرائيل في البحث عن مخرج سياسي من القتال.

 

وفي المقابل، لفتت الصحيفة إلى أن فصائل المقاومة الفلسطينية قد رفعت وتيرة إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون. وأشارت إلى أن المقاومة الفلسطينية استفاقت من الضربة الأولى، واستغلت الظروف الجوية الماطرة لتوفير غطاء للخلايا العاملة على إطلاق الصواريخ.

 

وتابعت أن هدف الحملة العسكرية، بحسب المجلس الوزاري والجيش، هو «خلق واقع أمني جديد في الجنوب من خلال تحسين الردع الإسرائيلي». وفي المقابل، وفي ظل استمرار إطلاق الصواريخ من القطاع في أوج العملية العسكرية، فإن الجيش لا يسارع إلى الاستنتاج بأنه يمكن وقف إطلاق الصواريخ بشكل نهائي، من جهة أن ذلك هدف غير قابل للتحقيق.

 

 

 

انتهاء بنك الأهداف العسكرية

 

انتهى مبكراً بنك الأهداف العسكرية الرئيسة لإسرائيل في غزة بعد ثلاثة أيام على أبعد تقدير من بدئها في قطاع غزة. وهذا الأمر لم يهيئ لإسرائيل إلا: إما الاستمرار لفترة بضرب المدنيين لإضعاف الروح المعنوية والرواق الخلفي الداعم للمقاومة، أو الذهاب بعيداً في الدخول البري لمنطقة انفجار سكاني فيه عشرات آلاف المقاومين لطالما حلم رابين أن يستيقظ صباح ذات يوم ليراها وقد ابتلعها البحر.

 

ورغم أن إسرائيل قد حشدت فرقتان مدرعتان وبدأت هجومها البري إلا أن المعارك العنيفة التي خاضتها المقاومة: سرايا القدس، وكتائب القسام، وألوية الناصر صلاح الدين، وكتائب أبو علي مصطفى، وكتائب جهاد جبريل... جعلت الهجوم غير قادر على حسم الحرب وبقي التقدم صعباً جداً وسط قتال ضار وعنيف. وتخوف قادة الاحتلال من أن يصبح الدخول البري الإسرائيلي مكلفاً إلى أبعد الحدود.

 

وفي التقرير الذي أصدرته قيادة جهاز المخابرات الإسرائيلية الشاباك بمناسبة نهاية السنة أن منظومات صاروخية متطورة ومقرات عسكرية أنشئت تحت الأرض خلال فترة التهدئة لدى المقاومة الفلسطينية، وقد تبين مؤخراً أن هذه المنظومات ومنظومات الربط والاتصال والحماية لم تتأثر.

 

وتوالت اعترافات المحللين في الصحف الإسرائيلية، بأن الحرب على غزة، سيكون مصيرها الفشل الذريع، ولن تضع حداً للمقاومة فيه، ولم يترددوا في توجيه أبشع الأوصاف لجيش الاحتلال الصهيوني، بأنه جيش لاإنساني.

 

دوف فايسغلاس مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون، اعترف بأنه لا يمكن لقوات الاحتلال أن تنهي المقاومة في قطاع غزة، بل الأمر صعب للغاية وغير قابل للتحقق.

 

وكتب في «يديعوت أحرنوت»: «الهدف النهائي للكيان في سياق غزة هو إجهاض وإبعاد المقاومة، لكن الأمر غير قابل للتحقق بوسائل عسكرية، وهناك ضرورة لوقف الحرب على غزة باعتبارها فاشلة، والعقاب الوحيد الكفيل بإخضاع غزة والمقاومة يكون من خلال «إغلاق اقتصادي» كي ندفع الفلسطينيين لمواجهة المقاومة، والإغلاق أمر أليم ولكن ضرره ليس سيئاً كالقصف من المدافع أو الطائرات».

 

الكاتب جدعون ليفي طالب بوقف «الجنون وجشع الانتقام في غزة»، وكتب يقول: «يتوقف على أحد أن يوقف هذا الجنون الهائج حالاً وفورًا».

 

ووصف الكاتب آري شافيط ما يقوم به الكيان بأنه الحملة الجنونية على قطاع غزة، منوهاً بالقول: «إن قصف مدينة مكتظة بالسكان هو عمل خطير حيث سيؤدي إلى تتآكل الشرعية الدولية للكيان».

 

وأشار إلى أن الحرب تجاوزت كل الحدود..، معتبراً أن ما بدأ كحملة عسكرية مدروسة وضرورية تحول إلى استخدام للقوة المنفلتة العقال في منطقة مأهولة بالسكان، متهما رئيس الوزراء الصهيوني أيهود اولمرت أنه وبخلاف لحربه الأولى (حرب تموز على لبنان) يريد أن ينهي حربه الثانية بـ «أراض محروقة».

 

 

 

خفض سقف التوقعات

 

واتسمت تصريحات المسؤولين «الإسرائيليين»، بعد الإعلان عن توغل القوات البرية إلى قطاع غزة، بمحاولات تخفيف سقف التوقعات من الحملة البرية في القطاع، وإعداد وتمهيد الأرضية لكافة النتائج بما فيها تكبد خسائر فادحة. ولم يتم تحديد أهداف عملية وواضحة للحملة وعوضاً عن ذلك استخدمت مصطلحات عامة ومطاطة في تحديد الأهداف كتوجيه ضربة للبنى التحتية لحركات المقاومة، حتى أن المتحدث باسم جيش الاحتلال امتنع عن تحديد هدف الحملة بأنه وقف إطلاق الصواريخ.

 

وقالت وزيرة الخارجية تسيبي ليفني إن الأهداف المتوخاة «قد تحتاج عدة حملات عسكرية»، مع علمها أن الوقت المتاح لإسرائيل محدود جداً وخاصة في ظل حملة الاحتجاجات الواسعة ضد العدوان والمبادرات التي تسعى بعض الدول لطرحها لوقف العدوان. وأعربت ليفني عن أملها بأن «تقود نتائج الحملة إلى هدوء لفترة طويلة» مشيرة أن إسرائيل قد «تحتاج عدة حملات عسكرية» لتحقيق الأهداف التي لم تفصح عنها، ولكنها قالت إن ذلك «سيستغرق وقتاً طويلاً».

 

وأضافت في مقابلة مع القناة التلفزيونية الثانية مبررة قرار الحملة البرية: «كنا بحاجة إلى تغيير المعادلة والتي بموجبها يطلقون النار ونحن نرد. هذه الحالة انتهت هذا الأسبوع»، حسب زعمها. واعتبرت أن أحد أهداف الحملة «توجيه ضربة للبنى التحتية» لفصائل المقاومة. وبعد ذلك «خلق واقع جديد لا يطلقون فيه النار على إسرائيل إلى جانب وقف التهريب إلى قطاع غزة».

 

ودعت ليفني العالم العربي «الذي يواجه مشاكل داخلية إلى القيام بشيء». وتابعت: «العالم العربي المعتدل يجب أن يدرك أن حماس هي أيضا مشكلتهم».

 

وعن الخلافات في دائرة صنع القرار حول العمليات البرية قالت: «قد يكون هناك خلافات في الرأي. ولكننا نتحمل مسؤولية كبيرة هذه الأيام، والمداولات كانت موضوعية».

 

من جانبه قال وزير الحرب إيهود باراك في مؤتمر صحفي عقده بعد الإعلان عن بدء الحملة البرية إنها «لن تكون سهلة أو قصيرة». وأضاف: «لا أريد أن أوهم أحداً، ستمر أياماً ليست سهلة على سكان الجنوب. كما أن العملية العسكرية تنطوي أيضاً على مخاطر على حياة الجنود. وكمن يقود جنوده لمهمات حربية أدرك جيداً المخاطر المنطوية على هذه الحملة».

 

وما توقعه قادة العدو لمسوه بأيديهم مواجهة بطولية خاضها مجاهدو المقاومة الفلسطينية وعلى رأسهم سرايا القدس، وكتائب عز الدين القسام وغيرهم من المقاومين الذين كبّدوا العدو الخسائر الفادحة في آلياته وفي صفوف قواته.

 

وأجمع عدد من المحللين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، على ضرورة وقف الحرب على غزة والاكتفاء بما حصل حتى الآن!! والسماح للدبلوماسيين بـ «حصاد النتائج» إلا أن القادة الإسرائيليين ينهكهم البحث عن نهاية الحرب بما يحفظ ماء وجوههم، ولا يجعل قوة الردع الإسرائيلية في تراجع، بينما ترغب هيئة أركان الجيش، وعلى رأسهم وزير الدفاع ايهود باراك في تصوير «مشهد سينمائي مغامر» تنتهي من خلاله الحرب بدل الانسحاب الكلاسيكي للجيوش.

 

 

 

معارك ضارية وحرب أشباح

 

خاض المجاهدون الفلسطينيون معارك عنيفة ضد الجنود الإسرائيليين. وناور المجاهدون بوسائل قتالية بسيطة، من أسلحة رشاشة وقذائف مضادة للدروع وألغام أرضية، مقابل جيش نظامي تدعمه الطائرات والدبابات والزوارق الحربية، ومزود بأحدث الأدوات التكنولوجية، كالرؤية الليلية والخرائط المحدثة إلكترونيًا عن أماكن وجود الخصم الذي لا يظهر عبثا أغلب الأحوال، إنما ليهاجم ثم يختفي، ممتنعًا قدر الإمكان عن الصدام المباشر، كي لا يتحول مقاتلوه إلى لقمة سائغة سهلة المنال. ويراهن على حيل وتكتيكات مدروسة تستهدف المس بالعدو في الميدان والتشويش على قدراته وإفقاده اتزانه العملياتي كمقدمة لاستنزافه. وفي هذا المجال يمكن إيراد المثال الواقعي، إذ قامت دبابة -بحسب الرواية الإسرائيلية- بتاريخ (5/1/2009)، بقصف مجموعة من الجنود الإسرائيليين من وحدة غفعاتي، مما أوقعهم بين قتيل وجريح، وتصف صحيفة «هآرتس» المعارك في غزة قائلة: «تكبد الجيش الإسرائيلي إصابات، بما في ذلك في أحداث ثنائية، هي من طبيعة القتال في ظروف انعدام اليقين والأخطاء في التشخيص».

 

 ويقول ضابط كبير في الجيش الإسرائيلي في حديث من قطاع غزة عبر هاتف مشفر: «نحن نتقدم بحذر بين البيوت المفخخة. مخربون يركضون إلينا مع أحزمة ناسفة». المرحلة الثانية كانت السيطرة على البيوت في المنطقة. «البيوت جدا – جدا مكتظة»، يروي. وينقل يوسي يهوشع من صحيفة «يديعوت أحرونوت» عن الضابط قوله: «وجدنا الكثير جداً من وسائل القتال. صواريخ مضادة للدبابات، وعبوات منطلقة في البيوت التي سيطرنا عليها. البيوت مفخخة، ويوجد أيضاً دراجات جاهزة لعملية خطف. كل لحظة يوجد صدام. كل ساعتين تقريباً توجد محاولة من «مخرب» أو «مخربة انتحارية» يركضون نحونا ليتفجروا بحزام ناسف. في البيوت المفخخة التي عثرنا عليها وجدنا أيضاً فتحات لأنفاق معدة لاختطاف جندي». ويروي الضابط بأن الضرر في الأراضي الفلسطينية كبير. «نحن نعمل بشكل عدواني»، يقول.

 

واعترف وزير الحرب الإسرائيلي إيهود باراك إن إسرائيل دفعت ثمناً باهظاً.. عرفنا أنها ستكون صعبة منذ اللحظة التي قررنا فيها الحملة.. إنها حرب مريرة».

 

ووصف النقيب ميكي شربيط، قائد سرية في سلاح المدرعات الإسرائيلية في تقرير نشرته النسخة العبرية لموقع صحيفة «يديعوت أحرنوت» على شبكة الإنترنت المواجهات «بأنها حرب أشباح، لا نرى مقاتلين بالعين المجردة، لكنهم سرعان ما يندفعون صوبنا من باطن الأرض، إنهم يخرجون لنا من أعماق الأرض.. إننا نتحرك على الأرض، ونحن نشعر أن أسفلَ منا مدينة تحت الأرض»..

 

شهادة شربيط الذي ترك ساحة المواجهات بعدما أصيب في مواجهة مع المقاومة أقصى شمال غربي قطاع غزة، تشير إلى الخطة الدفاعية التي تعتمدها المقاومة في مواجهة التوغل الصهيوني. وتحدث شربيط عن الفزع الذي يشعر به الجنود من عمليات الأسر عبر الأنفاق التي أشار لها في حديثه.

 

والصحف الإسرائيلية وصفت نتائج بعض مراحل القتال بأنها «مريرة جداً». مشيرة إلى أن عملية إخلاء المصابين والقتلى كانت معقدة وتحت النار، ووسط تغطية القصف المكثف من المروحيات والمدفعية. ووصفت صحيفة «يديعوت أحرونوت» قسم الاستقبال في مستشفى «سوروكا» في بئر السبع بأنه كان أشبه بساحة حرب. ونقلت الصحيفة شهادات عدد من الجنود المصابين، ويقول أحدهم: «تعرض المنزل الذي دخلناه للقصف بصاروخين وكان موجود بداخله كثير من الجنود». ويقول آخر: «دخلنا إلى المنزل وفجأة أطلقوا علينا النار، وانهار المنزل. وأصيب رفاقي، كان الأمر مرعبا».

 

 

 

القناة الصهيونية العاشرة وكشف كذب جيش الاحتلال!!..

 

وبعد الكثير من الضغوط من الإعلاميين الصهاينة سمح جيش الاحتلال بدخول عدد من الصحفيين الصهاينة لداخل المناطق التي سيطر عليها جيش الاحتلال في قطاع غزة، حيث أظهرت القناة الصهيونية العاشرة بشكل «غير مباشر» زيف الادعاءات الصهيونية بأن المقاومة الفلسطينية تستخدم المواطنين الأبرياء دروعاً بشرية في قطاع غزة.

 

وظهر في شريط مصور على القناة الصهيونية العاشرة، أسرة فلسطينية بأكملها محتجزة في غرفة واحدة تحت بنادق جنود الاحتلال، في المقابل قام هؤلاء الجنود بعمل عدة فتحات في الجدران وتحويل البيت إلى نقطة مراقبة عسكرية للمباني والأحياء المجاورة، معيدين للذاكرة ما حصل أيام حملة السور الواقي وبالتحديد في مخيم جنين ومدينة نابلس ومخيماتها بالضفة الغربية، وكانت معالم الرعب والخوف بادية على وجوه الأطفال وكافة أفراد الأسرة الفلسطينية التي حولها جنود الاحتلال لدرع بشري في حال وجود أية مواجهات مع رجال المقاومة الفلسطينية.

 

وقد بين الشريط الذي تم بثه للمرة الأولى حجم الدمار والتخريب الذي يقوم به جنود الاحتلال داخل المنازل الفلسطينية التي حولت لنقاط عسكرية رغماً عن ساكنيها.

 

وهاجمت عضو الكنيست زهافا غلئون من حزب ميرتس قرار الحكومة الإسرائيلية القاضي بمواصلة العملية العسكرية في قطاع غزة وحذرت من دخول القوات البرية الإسرائيلية إلى مدينة غزة لأن ذلك: «سيؤدي إلى ثمن دموي زائد وغير ضروري، وفي نهاية المطاف ستتم الموافقة على مبادرة وقف إطلاق نار ولذلك ينبغي الموافقة عليها الآن».

 

 

 

النصر أو الشهادة..

 

لا يختلف الوضع الميداني في حي الزيتون عن نظيره في بلدة بيت لاهيا وشرقي مخيم جباليا للاجئين وشرقي مدينة خان يونس، فكل المناطق التي تستهدفها الحرب البرية الصهيونية يوازيها دفاع من قبل رجال المقاومة يصل حد الاستبسال.

 

وعلى خطوط التماس مع قوات الاحتلال وفي المناطق التي تتعرض للقصف ينتشر مقاومو الفصائل متحدين تلك القوات، لا يعرف هؤلاء الاستسلام وليس في قاموسهم الخسارة إنهم «يبحثون عن إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة» كما قال أحدهم «للجزيرة نت».

 

من جانبه أكد محمد (20 عاماً) أحد المقاومين من كتائب القسام أن المقاومة متوحدة في ميدان المواجهات مع الاحتلال ولا يفرقها أحد.

 

وقال المقاوم «نحن كلنا خرجنا في سبيل الله ونريد أن نلقى إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة»، مشيراً إلى أن معارك المقاومة مع الاحتلال المتوغل برياً في مناطق محدودة «دليل على فشل التقديرات الصهيونية وفشل قوة العدو في ضرب المقاومة رغم كل ما يفعله لهذا الهدف».

 

أما أحد رجال المقاومة من سرايا القدس فيقول إنه «ودع والدته قبل أن يشارك رفاقه في المواجهات مع قوات الاحتلال المتمركزة شرقي مخيم جباليا».

 

وقال أبو خالد (22 عاماً) للجزيرة نت إنه «جهز ليوم استشهاده منذ زمن بعيد، وينتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر، وهو غير نادم على اشتراكه في مقاومة الاحتلال الصهيوني».

 

وأوضح مقاوم سرايا القدس أن كل فصائل المقاومة تواجه الاحتلال بتكاثف وتعاضد، وأن من فرقته السياسة والمصالح الحزبية يواجه الاحتلال بجوار رفاقه دون أن يلتفت إلى أي شيء غير هدفه الأساسي، مشيراً إلى أن الهدف الأساسي هو «صد العدوان وتكبيد الاحتلال المزيد من الخسائر».

 

وقال الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين الدكتور رمضان عبد الله شلح: «إن العدو الصهيوني لم يستطع تحقيق أي من أهدافه المعلنة وغير المعلنة من خلال عدوانه على القطاع».

 

واعتبر الدكتور شلح في مقابلة مع «قناة الجزيرة القطرية» (12-1-2009) :«أن الجيش الإسرائيلي فقد القدرة على تحقيق أي من أهدافه العسكرية، ولم يبق أمامه إلا هدف واحد وأساسي وهو كيف يخرج من ورطة غزة دون هزيمة واضحة ومعلنة».

 

وشدد الدكتور رمضان شلح على مطالب المقاومة الواضحة وهي وقف كامل للعدوان الإسرائيلي، والانسحاب الفوري، ورفع الحصار، وفتح المعابر، ورفض تهدئة طويلة الأمد.

 

وكما صمد جنوب لبنان في تموز 2006 مع طول المدة، ما يزيد على الشهر ضد نظرية الحرب الخاطفة والمواجهة بين جيشين نظاميين، فإن غزة أيضاً صمدت. لم تخترق قوات الغزو المدن الفلسطينية في القطاع حيث الكثافة السكانية. وما زالت القوة الفلسطينية سليمة في مجملها، تقاوم، وتمتد المواجهة عبر الحدود إلى المدن الفلسطينية المحتلة إلى أبعد مدى في أشدود وعسقلان وبير السبع وعلى أكبر معسكرات الجيش الإسرائيلي. وانتصار غزة على قوات الاحتلال الإسرائيلي هو إفشال لأهداف الغزو: القضاء على قوة غزة، تدمير البنية التحتية لها، المدنية والعسكرية، التنظيمية والقتالية، ووضع اليد على القطاع.

 

 

 

وأخيراً إن الصراع ضد العدو الصهيوني صراع وجود ومصير ومستقبل، فهو صراع ضد الاحتلال والعدوان والعنصرية والهيمنة... والإجرام الصهيوني الذي يستهدف تحقيق أهداف سياسية لم يستطع تحقيقها عبر الحصار والتجويع والقتل بالمفرق الذي تنتجه الغارات والاقتحامات المحدودة، وقد كشفت مصادر الاحتلال إن خطط هذه الحرب المجنونة قد بدأ التحضير لها منذ ستة شهور ومنذ بداية سريان مفعول التهدئة في (19/6/2008)، التهدئة التي لم يوافق عليها الجميع ولم يخرقها حتى لا يخرق الإجماع الوطني وما نتج عنها من استمرار للقتل والاقتحام والاعتقال والتجويع وتواصل وتسارع الاستيطان وفرض الوقائع التي تعصف بكل المشروع الوطني الفلسطيني لهو دليل واضح على خطأ التهدئة في ظل الاحتلال الذي لا يرد عليه بالصفقات الخاسرة بل بالمقاومة الموحدة التي يتحدد شكلها وتوقيتها ومكانها انطلاقا من المصالح الوطنية العليا.

 

ورغم حجم الدمار ورغم حجم التضحيات وعدد الشهداء والجرحى فان ما يفشل هذه الحرب ويجعلها بعيدة عن تحقيق أهدافها هو الصمود في وجه آلة الحرب الإجرامية فهذا قدر كل المقاومات التي كانت تتصدى للاحتلال، فدائماً ميزان القوى كان مختلاً لصالح الاحتلال، والصمود هو الذي يقلب حسابات الاحتلال وحربه وهو الذي يقلب رهانات النظام الرسمي العربي وهو الذي يقلب حسابات المراهنين على المفاوضات العبثية والتسويات وهو الذي يعطي الدفع لحركه الشارع العربي الذي بدأ بالتحرك وتنظيم المسيرات والتظاهرات، هذا الشارع الذي يجب أن يعمل على تجاوز حالة رد الفعل العفوي نحو تأطير هذه التحركات بأفق سياسي واضح يقود إلى محاصره نهج التسوية ونهج التنازل والتفريط ويفتح آفاقاً جديدة للحركة الشعبية العربية ليست المتضامنة مع الشعب الفلسطيني فحسب بل الشريكة لمقاومة هذا الشعب ونضاله من موقعها في البلدان العربية، عبر ذلك يمكن أنتاج معادلة جديدة في الصراع كتلك التي أنتجتها حرب تموز التي منعت تمدد المشروع الصهيوني واستقراره على ساحة عربية أخرى. ومن هنا كان القرار عدم إعطاء العدو الإسرائيلي أو منحه سياسياً ما فشل في تحقيقه عسكرياً، وإفشال محاولة إسرائيل فرض وقائع جديدة على الأرض.

 

 

 

كاتب فلسطيني