الورشة والصفقة والأزمة - حسن نافعة

الساعة 02:51 م|20 يونيو 2019

كتب: حسن نافعة

«الورشة» التي أقصدها هنا هي «ورشة المنامة» التي دعت الولايات المتحدة إلى عقدها في العاصمة البحرينية يومي 25 و26 يونيو/حزيران الحالي، وتشرف بنفسها على تنظيمها، وعلى وضع جدول أعمالها، وهدفها المعلن هو، بحث السبل الكفيلة، من وجهة نظر الولايات المتحدة الأمريكية طبعا، بتحويل البيئة السائدة في منطقة الشرق الأوسط من «بيئة صراعية»، تنتج الحرب والدمار لشعوبها، إلى «بيئة تعاونية» تساعد على تحقيق الأمن والاستقرار، وانخراط الشعوب في عملية تنمية مستدامة، تخرج المنطقة من حالة التخلف التي تعيشها منذ أزمنة طويلة. بعبارة أخرى يمكن القول إنها ورشة «تثقيفية» تستهدف الولايات المتحدة من ورائها، حجم المكاسب الاقتصادية والفوائد المادية والمعنوية التي ستعود على الأطراف المنخرطة في الصراع مع إسرائيل، إن هي قبلت تسوية هذا الصراع بالصيغة التي تقترحها في «صفقة القرن»، وكذلك بحجم المصاعب والمخاطر والتحديات التي سيواجهها كل من تسول له نفسه رفض هذه الصيغة أو العمل على عرقلتها وإفشالها.

أما «الصفقة» التي أقصدها هنا فهي «صفقة القرن» التي لم تكف إدارة ترامب عن الحديث عنها منذ تسلمها للسلطة في يناير/كانون الثاني 2017، والتي يعكف على إعدادها الثلاثي: جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب وكبير مستشاريه، وجيسون غرينبلات، مبعوثه الخاص إلى المنطقة، وديفيد فريدمان، سفيره لدى إسرائيل، لكن تفاصيلها لم تعلن رسميا حتى الآن. وكان قد تردد أن الإعلان الرسمي عن مضمون وتفاصيل هذه الصفقة سيتم عقب الانتخابات الإسرائيلية، التي جرت في مايو/أيار الماضي، لكن الإدارة الأمريكية اضطرت لتأجيل هذه الخطوة بسبب إخفاق نتنياهو في تشكيل الحكومة الجديدة والاتفاق على دعوة الناخبين لجولة جديدة من الانتخابات تجرى يوم 9 سبتمبر/أيلول المقبل. لذا يرجح أن لا يتم الإعلان رسميا عن أي شيء يخص «صفقة القرن» قبل أكتوبر/تشرين الأول أو نوفمبر/تشرين الثاني المقبلين.

أما «الأزمة» التي أقصدها هنا فهي الأزمة الناجمة عن تصاعد وتيرة التوتر بين إيران والولايات المتحدة، عقب خروج الأخيرة من الاتفاق النووي الذي أبرمته الأولى مع مجموعة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا (مجموعة 5 + 1). ولأن هذا الخروج الأحادي من الاتفاق المبرم بين إيران وست قوى عظمى، أعقبه ليس فقط إعادة فرض وتشديد العقوبات على إيران، برفعها إلى درجة تقترب من حالة الحصار الاقتصادي الشامل، وإنما أيضا تكثيف وتعزيز التواجد العسكري الأمريكي في منطقة الخليج، يتوقع أن تشهد هذه الأزمة مزيدا من التصعيد خلال الأشهر القليلة المقبلة، بل لا يستبعد أن يفضي هذا التصعيد إلى صدام عسكري مباشر بين الطرفين، رغم حرصهما على الإعلان عن عدم سعيهما إليه وحرصهما على تجنب وقوعه.

بين «ورشة المنامة» و»صفقة القرن» و»الأزمة الأمريكية الإيرانية» علاقة عضوية، تجعل من العسير فصم أي من مكوناتها الثلاثة عن بقية المكونات. فورشة المنامة هي بمثابة عملية تحضير ومعمل لإنضاج وتخصيب «صفقة القرن» التي سوف يصعب تمريرها طالما ظلت إيران، ومعها حلف الممانعة الذي تقوده، صامدة ورافضة للإملاءات الأمريكية. لذا تعتقد بعض الأوساط القريبة من صناعة القرار، في كل من إسرائيل والولايات المتحدة، أن إبرام الصفقة المطلوبة لا يمكن أن يتم إلا بعد تركيع إيران وإجبارها على الاستسلام لهذه الإملاءات، وإلا فسيتعين العمل على تغيير نظامها السياسي الحالي. لذا يمكن القول إن منطقة الشرق الأوسط تدور حاليا في حلبة أو حلقة ترسم معالمها وحدودها هذه المكونات الثلاثة: الورشة والصفقة والأزمة. فورشة المنامة خطوة على طريق صفقة القرن، وقبول الدول العربية بهذه الصفقة ضروري لدفعها للتحالف مع إسرائيل، وكذلك لعزل إيران وإحكام الحصار المفروض حولها، ويبرر ضربها عسكريا إن هي حاولت تعطيل الصفقة أو عرقلتها.

وفي تقديري أن استيعاب الكثير مما يجري في منطقة الشرق الأوسط يتطلب إدراك حقيقة أساسية وهي، أن الهدف الرئيسي الذي تسعى الإدارة الأمريكية إلى تحقيقه في المرحلة الراهنة، وبتصميم وإصرار كبيرين، هو إتمام «صفقة القرن» وإقناع الأطراف المعنية، أو حتى إجبارهم على التوقيع عليها. غير أنه يصعب تحقيق هذا الهدف بدون توافر شرطين رئيسيين، الأول: تقديم «جزرة» بها ما يكفي من قوة الجاذبية والإغراء لدفع الأنظمة العربية المنخرطة في الصراع مع إسرائيل للقبول الطوعي بالصفقة المطروحة، والاقتناع بأنها تكفل تحقيق مصالحهم على المدى الطويل، وهذا هو الدور الذي يفترض أن تضطلع به «ورشة المنامة»، والثاني: إشهار «عصا غليظة» في وجه كل من يجرؤ على رفضها أو يحاول وضع العقبات والعراقيل في طريقها. ولأن إدارة ترامب تدرك يقينا أن إيران، بمساعدة القوى المتحالفة لها في المنطقة، كحزب الله اللبناني وحركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين، هي القوة الوحيدة في المنطقة التي تملك إرادة الفعل، والقدرة على إفشال هذه الصفقة، أو على الأقل عرقلتها ووضع العقبات في طريقها، وهو ما يبرر رفع العصا الغليظة التي توشك أن تهوي عليها.

يأمل ترامب أن تؤدي سياسة العصا الغليظة التي يرفعها في مواجهة إيران إلى تحقيق هدفين متكاملين، الأول: عزل إيران ليس فقط عن محيطها الإقليمي، وإنما عن القوى الفاعلة في النظام الدولي، ودفعها للانكفاء على ذاتها، والانشغال بأمور الداخلية بدلا من العمل على إفشال «صفقة القرن»، أو وضع العراقيل في طريقها. والثاني: تشجيع السعودية، ومن يدور في فلكها من الدول العربية، ليس فقط على التقارب مع إسرائيل والارتباط بها أمنيا، من منطلق أنهما يواجهان معا عدوا مشتركا هو إيران، وإنما لإقناعها في الوقت نفسه بضرورة تحمل القسط الأكبر من تكلفة «الجزرة» المطلوبة لإغواء الدول العربية الفقيرة، ودفعها لقبول «صفقة القرن». ولا جدال في أن هذه الطبخة العبقرية تمكن إسرائيل، الحليف الحقيقي والوحيد للولايات المتحدة في المنطقة، من تحقيق كل شيء وكل ما تتمناه: تصفية القضية الفلسطينية، ضم الجولان، وتطبيع العلاقات مع جيرانها مجانا، وتجبر الأنظمة العربية في الوقت نفسه عن التنازل عن كل شيء: الأرض والعرض والكرامة والمال وحتى الاستقلال وحرية الإرادة.

رغم ذلك كله، يبدو لي أن الاستراتيجية الأمريكية الراهنة في المنطقة تنطوي على خلل بنيوي سيفضي بها إلى فشل محتوم، خاصة أنها بنت حساباتها على فرضييتين غير صحيحتين. الفرضية الأولى: تدور حول الضعف العربي الذي تعتقد الولايات المتحدة أنه وصل إلى الدرجة التي تمكنها من إملاء كل ما تريده على العالم العربي في هذه المرحلة، بما في ذلك تصفية القضية الفلسطينية نهائيا. أما الفرضية الثانية: فتدور حول عدم قدرة إيران على الصمود في مواجهة آلة الحرب الأمريكية، سواء أديرت بالوسائل والأدوات غير العسكرية وحدها، أو تم تضمينها جرعات من قوة النيران. غير أن المسار الذي سلكته أحداث وتفاعلات في المنطقة خلال الشهور القليلة الماضية، لا يوحي ابدا بأن الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة على وشك أن ترفع رايات النصر. فالسلطة الفلسطينية، وهي أضعف حلقات النظام العربي المتهاوي، ما تزال تصر على رفض الحوار مع الولايات المتحدة، التي تخلت عن دورها كوسيط نزيه، وقادرة على الصمود في وجه الحصار الأمريكي الذي وصل إلى حد محاولة تجويع الشعب الفلسطيني، ليس في قطاع غزة وحده، وإنما في الضفة الغربية كذلك (بالعمل على تجفيف الموارد المالية لمنظمة الأونروا المسؤولة عن رعاية اللاجئين الفلسطينيين)، بل إنها راحت تتحدى الإرادتين الأمريكية والسعودية، إلى الحد الذي دفعها للإعلان رسميا عن مقاطعتها لورشة المنامة، ومناشدة الدول العربية أن تحذو حذوها. أما بالنسبة لإيران، فلا يوجد ما يشير حتى الآن إلى أن فرائصها ترتعد من الحشود العسكرية، أو أنها تخشى من صدام عسكري محتمل معها، ولا شك أنها تملك من الأوراق ما يكفي لدفع الولايات المتحدة للتفكير ألف مرة قبل ان تتخذ قرارا باستخدام القوة العسكرية في مواجهتها.

كان لافتا للنظر أن يتولى كوشنر بنفسه الإعلان عن موافقة كل من مصر والأردن على حضور «ورشة المنامة»، حتى من قبل أن تعلن السلطات المسؤولة في هذين البلدين موافقتها على الحضور، وكأنه يريد ان يقول إن الولايات المتحدة هي التي تقرر. كما كان لافتا ايضا اختيار الولايات المتحدة للمنامة مقرا لانعقاد هذه الورشة، في إشارة ضمنية إلى أن الإعداد لها يجري بالتوافق والتنسيق الكامل مع الرياض، وربما نيابة عنها ايضا. غير أن صلابة الموقف الفلسطيني، رغم استمرار الانقسام المشين بين فتح وحماس، وتوحده حول رفض صفقة القرن ومقاطعة ورشة المنامة هو خطوة أولى واساسية نحو إفشال الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة. مشاركة الدول العربية في ورشة المنامة، رغم مناشدة كل القوى الفلسطينية الدول العربية لمقاطعتها، لن يكون له سوى معنى واحد وهو أن الأنظمة العربية تخلت عن القضية الفلسطينية وتركت الشعب الفلسطيني وحيدا في مواجهة إسرائيل.