خبر غزة.. سيناريوهات ما بعد العدوان .. مؤمن بسيسو

الساعة 01:24 م|26 يناير 2009

كتب: مؤمن بسيسو

هل يمكن الجزم بأن الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة قد وضعت أوزارها؟ وهل الخطوة الإسرائيلية الخاصة بوقف النار أحادي الجانب تشكل خاتمة الحرب الإسرائيلية المجنونة التي تجردت من كل القيم الأخلاقية والإنسانية وحسابات السياسة والمنطق؟

لعل قراءة هادئة لما بين سطور فصول وصفحات العدوان الإسرائيلي، ونظرة متأنية لحقيقة المخطط المرسوم تجاه قطاع غزة، وطبيعة الأهداف التي توخت القيادة الإسرائيلية إنجازها على إيقاع حربها الغاشمة واستباحتها الشاملة لكل ما هو فلسطيني، تشي بأن المعركة لم تطوِ آخر صفحاتها بعد، وأن الميدان مرشح لسيناريوهات مختلفة قد تستجلب سحب التصعيد والمواجهة من جديد ولو بعد حين.

الوقف الأحادي.. مخاوف ومحاذير

لا يمكن تصور حسن النوايا الإسرائيلية من خلال إقرار وقف إطلاق النار من جانب واحد بزعم حرمان حركة حماس من تحقيق أية مكاسب سياسية، وإدارة الظهر للمبادرة المصرية التي تتضمن نصوصا ملزمة واجبة التنفيذ لدى الطرفين.

فالواقع أن هناك اتجاها يرى في هذا الإجراء الأحادي مخاوف جدية ومحاذير مشروعة، بل إن البعض يتشدد في مستوى توصيفه لهذه الخطوة كونها خدعة جديدة وفرصة إسرائيلية خبيثة لإعادة تقييم مجريات حملتها العسكرية وخططها الحربية، بما يجعل منها هدنة مؤقتة أو حالة ظرفية طارئة لن تدوم طويلا.

أول تلك المحاذير أن هذا الإجراء يرتبط عضويا بوقف الصواريخ الفلسطينية، ووقف كافة أشكال المقاومة ضد جيش الاحتلال الذي يهيمن فعليا على الشريط الحدودي بين قطاع غزة وإسرائيل فضلا عن بعض المناطق الواقعة على تخوم مدن وبلدات القطاع.

وبكل بساطة فإن المعنى المباشر لذلك أن أي صاروخ فلسطيني قد يطلقه فصيل فلسطيني مقاوم أو حتى مجموعة مسلحة صغيرة، وأن أي شكل من أشكال إطلاق النار على القوات الإسرائيلية المتمركزة داخل القطاع، يعطي إسرائيل الحق في رد عسكري فوري وعنيف دون أي تردد.

واستقراء لتجربة ما يزيد عن ثلاثة أسابيع من الحرب الشرسة لم تستطع إسرائيل أن تحقق فيها سوى جانب محدود من أهدافها السياسية والعسكرية، فإن أي عمل فلسطيني مقاوم قد يشكل ذريعة لاستئناف الحملة العسكرية الإسرائيلية من جديد، واجتراح ما تبقى من مراحل الخطة العسكرية المتدحرجة التي تستهدف إعادة احتلال القطاع واجتياحه بالكامل، وإسقاط حكم حماس، واستهداف قياداتها السياسية والعسكرية، وتوجيه ضربة قاصمة لبنيتها التحتية وفقا لتأكيدات مصادر إسرائيلية رفيعة المستوى.

ثاني هذه المحاذير أن الوقف الأحادي للنار يتملص من أي التزام حقيقي تجاه الوقف الكامل للعدوان، والانسحاب التام من مناطق القطاع، ويتحلل من أية مسؤولية تجاه فتح المعابر التجارية، ويترك ذلك رهنا للمزاج السياسي والعسكري الإسرائيلي أو التقلبات الميدانية، وهو ما يعبر عنه قادة الاحتلال بالمكاسب السياسية التي تتوخى حماس تحقيقها.

ولا شك فإن فصائل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس -التي أنهت التهدئة الشهر الماضي نتيجة تنكب الاحتلال عن الالتزام بفتح المعابر التجارية- لن تقبل بوضع مشابه إثر حرب ضروس دمرت الأخضر واليابس، ما قد يبسط سيناريوهات مفترضة ربما تمهد الطريق أمام شكل من أشكال الاشتباك والنزال الميداني على المدى المنظور.

ثالث تلك المحاذير أن هذا الإجراء يشكل قرارا إسرائيليا داخليا لا يندرج ضمن أي اتفاق أو مبادرة ملزمة لوقف العدوان، ما يعني أن اعتبارات وقف النار الأحادي قد تتغير بين لحظة وأخرى، وأن العدوان قد يتجدد في أي وقت وفقا لحسابات الساسة والعسكريين الإسرائيليين.

ومن نافل القول إن القرار الإسرائيلي كثيرا ما يخضع لعوامل التغيير والتبديل وفقا لمصالح الطبقة السياسية والعسكرية النافذة وأهوائها الشخصية وتوجهاتها الحزبية، ما يجزم بأن القِدْر الإسرائيلي سوف يبقى مائجا متقلبا، وأن زبدة الليل قد تذوب عندما تطلع عليها شمس النهار.

الموقف الميداني.. السيناريوهات والتداعيات

في ثنايا الموقف الميداني المعقد على أرض غزة حاليا يمكن الحديث عن سيناريوهين اثنين لا غير يُخلّفان تداعيات مختلفة.

• السيناريو الأول: نجاح خطوة وقف إطلاق النار أحادي الجانب، وتقيّد جيش الاحتلال بتعليمات وقف النار، والتزام حماس وفصائل المقاومة بعدم التعرض لقوات الاحتلال ميدانيا بغض النظر عن المواقف الإعلامية المتأججة.

ولا شك فإن هذا السيناريو يحمل في طياته هدوءا ميدانيا تاما، ما يفسح المجال أمام انسحاب إسرائيلي تدريجي من مناطق القطاع في غضون أسبوع على الأقل، يوازيه استئناف الجهد الدبلوماسي، وخاصة المصري، حيال النظر في قضية المعابر الحدودية وسبل حلها.

وهنا يمكن الحديث عن احتمالين اثنين:

- الاحتمال الأول: أن تتمخض الجهود الدبلوماسية عن حلّ مرضٍ لجميع الأطراف يطوي صفحة أزمة الحصار الخانق لقطاع غزة، سواء أكان ذلك حلا شاملا لكافة المعابر في إطار تحقيق رؤية مصر للمصالحة الفلسطينية الداخلية أم حلا قاصرا على المعابر التجارية بين قطاع غزة وإسرائيل.

والمؤكد أن هذا الاحتمال سوف يطوي صفحة المواجهة إلى أمد بعيد، ويدفع الفلسطينيين للانشغال بإعادة الإعمار وترميم البيت الفلسطيني الداخلي.

- الاحتمال الثاني: أن تتعثر أو تفشل الجهود الدبلوماسية في حل مشكلة المعابر، وتُترك الأمور تحت رحمة الاحتلال الإسرائيلي يفتحها ويغلقها متى يشاء وفقا لاعتباراته الخاصة.

ولا ريب فإن من شأن هذا الاحتمال أن يفاقم التوتر ويضاعف المعاناة الفلسطينية، ويستجلب سحب المواجهة والتصعيد من جديد.

وقد يأخذ هذا الاحتمال شكل أحد خيارين، يتمثل الأول في بقاء الأمور تراوح ذاتها في إطار من التوتر والشد والجذب والجهد الدبلوماسي الذي يرافقه تصعيد سياسي وإعلامي يستهدف ممارسة الضغوط لتحقيق ما استطاع من مكاسب وإنجازات دون أي انزلاق ميداني، فيما يتمحور الخيار الآخر حول انزلاق ميداني محسوب يستهدف توجيه الرسائل فحسب، وممارسة الضغط لا غير، دون أن يرقى ذلك إلى مستوى التصعيد الشامل وتفجير الأزمة من جديد.

• السيناريو الثاني: فشل خطوة وقف النار الأحادي، وتواصل إطلاق الصواريخ الفلسطينية على المدن والبلدات الإسرائيلية وهجمات الكرّ والفرّ ضد قوات الاحتلال، وقيام قوات الاحتلال بتصدير ردودها الميدانية الموضعية التي يتوقع أن تشتد وتتصاعد وتتدحرج شيئا فشيئا وصولا إلى استئناف الحملة العسكرية برا وبحرا وجوا.

وهنا يمكن الحديث عن احتمالين اثنين:

- الاحتمال الأول: أن تُبقي قوات الاحتلال عدوانها على ذات وتائره السابقة التي سبقت الوقف الأحادي لإطلاق النار، والاكتفاء بممارسة الضغوط على المقاومة دون الاضطرار لاقتحام المناطق والأحياء السكنية المكتظة، وعدم توسيع الحملة العسكرية إلى مراحل أخرى.

ومن شأن هذا الاحتمال أن يضاعف الألم والمعاناة الفلسطينية، كما يمارس ضغوطا واضحة على المقاومة من أجل الرضوخ لمنطق إطلاق النار وتهدئة الأوضاع دون اتفاق سياسي.

وقد يفضي هذا الوضع إلى أحد خيارين اثنين، يتمثل الأول في اضطرار المقاومة للتجاوب مع الخطوة الإسرائيلية الأحادية، فيما ينحصر الآخر في اضطرار إسرائيل إلى التراجع عن خطوتها المنفردة، والقبول بحلّ سياسي وفقا لبنود المبادرة المصرية.

- الاحتمال الثاني: أن تبادر إسرائيل إلى توسيع حملتها العسكرية الوحشية، وتعمد إلى اجتياح قطاع غزة بشكل كامل، وتقضي على البنية التحتية للمقاومة وكافة مظاهر حكم حماس هناك.

ويستند هذا الاحتمال إلى الأدلة والشواهد التالية:

• رغبة قادة الاحتلال في تحقيق الأهداف العسكرية للحرب التي يتجلى الفشل الإسرائيلي في إنجازها، على صعيد كبح وتدمير القدرات الصاروخية للمقاومة، واغتيال واعتقال كوادرها وعناصرها، وضرب بناها التحتية.

• الضغوط المتعاظمة التي يمارسها القادة العسكريون، وعلى رأسهم اللواء يوآف غلانت قائد الحملة ومسؤول المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال، للمضيّ في الخطة العسكرية حتى النهاية، واجتياح قطاع غزة بشكل كامل.

• الضغوط المتصاعدة التي يمارسها اليمين الإسرائيلي، وبالأخص بنيامين نتنياهو زعيم حزب الليكود، لاجتياح كامل القطاع، متهما أولمرت وباراك وليفني بالفشل في تحقيق أهداف الحرب والقضاء على حماس.

• الضغوط الملحة التي يمارسها قادة كبار في حركة فتح والسلطة الفلسطينية على إسرائيل من أجل استمرارها في حملتها العسكرية، والاندفاع نحو اجتياح القطاع بغية القضاء على حماس، وفقا لما كشفت عنه مصادر سياسية وإعلامية إسرائيلية.

• تأييد الغالبية الساحقة من الإسرائيليين للحرب على غزة بشكل غير مسبوق، والمضيّ بها حتى النهاية.

• العقيدة القتالية الإسرائيلية الجديدة التي تبلورت في الآونة الأخيرة، والتي تستند إلى الاندفاع الأهوج لتحقيق الأهداف الإسرائيلية بكل ثمن، ودون أي اعتبار للخسائر البشرية التي يمكن تكبدها إبان المعارك.

• تعاظم الرغبة الإسرائيلية في إضعاف محور المقاومة والممانعة الذي يضم إلى جانب حماس والجهاد إيران وسوريا وحزب الله، من خلال ضرب حماس ضربة قاصمة وإنهاء سيطرتها على غزة.

• ضعف ردود الفعل الدولية جراء الجرائم المرتكبة في غزة، وهامشية تأثير التحركات والفعاليات المنبعثة من أجل وقف الحرب والعدوان.

وليس من الواضح ما الذي ستؤول إليه الأحداث حينذاك، ومدى قدرة الاحتلال على القضاء على المقاومة بشكل تام أم إضعافها وإثخانها ودفعها للانزواء والانكفاء، والمدة الزمنية التي سيرابط فيها جيش الاحتلال داخل غزة عقب إعادة احتلالها، وهوية الجهة التي ستتولى إدارة غزة عقب رحيل الاحتلال.

ولا شك فإن لهذا الخيار تداعياته الجسيمة على الصعيد الفلسطيني والصعيد العربي والإسلامي.

فعلى الصعيد الفلسطيني فإن ذلك سيترك آثارا بالغة السلبية على الشعب الفلسطيني ومقاومته ومستقبل قضيته الوطنية، بما يجعل من إمكانية فرض حلّ انهزامي في ظل غياب أو هامشية المقاومة أمرا واردا بكل معنى الكلمة.

علاوة على ذلك فإن هذا الاحتمال سيهمش أكثر وأكثر حركة فتح ومشروعها الوطني، ويفتح الطريق أمام صعود القوى الفلسطينية المستقلة التي تعتمد على رأس المال، وترتبط بصلات وثيقة مع المؤسسات الاقتصادية الإقليمية والدولية.

عربيا وإسلاميا، فإن ضرب المقاومة في غزة يشكل ضربة موازية للحركات الإسلامية والقومية وكافة أنصار مشروع المقاومة ولمحور المقاومة والممانعة، وصعودا لمحور الاعتدال العربي الذي ضعف كثيرا في الفترة الأخيرة.

باختصار، من الخطأ الاعتقاد أن المحرقة الإسرائيلية قد انتهت، فما زالت محاذير ومبررات العدوان قائمة، ما يستوجب القناعة بأن من العبث استبعاد أسوأ الخيارات والركون إلى نوايا الاحتلال الذي يمتهن المراوغة والخداع الدبلوماسي.

إن مسار الأحداث وسيرورة الواقع تؤكد أن أيدي المحتلين ما زالت ضاغطة على الزناد، وأن جعبتهم ما زالت حبلى بخطط الحرب وسيناريوهات العدوان، ما يفرض على المقاومة الفلسطينية وعيا رفيعا يملي عليها الاقتدار في معالجة المستجدات والحكمة في اتخاذ القرارات.