"السرطان" لن يهـزم نوركـم- بقلم: عُلا عطا الله

الساعة 11:09 ص|14 مايو 2019

فلسطين اليوم

بقلم: عُلا عطا الله

لا شيء أكثر قسوة وبؤسًا وفراغاً من تلك الصباحات اليتيمة من الأم، والوحيدة من دعائها البليغ وابتسامتها التي تتقاطر منها "الحياة".

وفي اللحظة التي ينغلق فيها باب "جنتك" يبدأ العالم بالتغير، وتدور الأيام بشكلٍ غريب ومختلف تغرق فيه كل "الأشياء" من حولك في حزنٍ تام.

ولأنّ أُمهاتنا هُنّ أطفالنا حين يكبرون كان الألم أشد اختناقاً ومرارة عندما فارقت "أُمي" الحياة؛ فقد بدا الأمر تماماً وكأني أفقد "طفلتي" التي لازمتها طيلة العاميْن الماضييْن وهي تخوض معركتها مع "السرطان".

وأمام أسئلة حادة مستعصية على الفهم وفواصل تعترض طريق "أحدنا"؛ شاءت ألطاف الله وحكمته البالغة أن أترك "العمل الصحفي"، وأن أعيش مع "أمي" تفاصيل هذا المرض المُخيف بليله ونهاره.

وقبالة مرض القلق الدائم وترقب الفقد في أي لحظة، لم ينل اليأس منها، ولم تسمح لذلك الظلام العميق أن يهزم "نورها".

وعلى مدار رحلة علاجها الطويلة ومقاومتها للوجع الحاد كانت تُردد بيقين أن ما حدث لها "منحة من الله".

عاشت "أمي" أياماً قاسية وصعبة من اختبارات "الصبر" و"السفر" عبر حواجز الوطن المُقطّع الأوصال لكنها كانت من أولئك الذين كلما آذتهم الحياة وامتحنت الأيام أرواحهم وأنهكت طاقتهم، سلّموا إلى ربّ القلوب شتات "أنفسـهم" فأضاءوا كقـمرِ مكتمل وسط العتمة.

ولأنّه المرض المُحمّل بقلة الحيلة لا يملك أصحابه العاجزين سوى تزيين طريقهم بـ"الأمل"، ليكون لهم سُلَّمًا ينقلهم من حواف الضياع واليأس ويُبقيهم على قيد الصمود.

ويُعلّمهم ذاك الألم الثقيل كيف يُعيدون اكتشاف الحياة وشؤونها الصغيرة، وكيف يتماسكون وهم في أضعف صورهم.

ولا ينال مرض الشحوب والانطفاء من أرواحهم التي تشع وتُومض فتطل أصواتهم ووجوههم تماماً كـ"الأبطال المُدهشين".

وفي أروقة تلك المستشفيات التي تحتض سَرَّ حزنهم وما أخفى، وقصصهم الخاصة الاستثنائية وأسئلتهم الشاهقة الدامعة المُعلّقة الإجابات ينجحون في قلب مواجعهم وتحويلها إلى نجوم.

أذكر جيداً تلك الشابة التي اكتشفت إصابتها بالمرض بعد أن تزوجت حديثاً وقد بدأت في الحصول على أولى جرعات الكيماوي وكأشبه بمعجزة كان لديّها القدرة الفائقة على إخراج النكتة من فم الأسى.

أجابت على دهشة الآخرين بأنها قوية ولا تخشى الموت لأنه سيُصيب الجميع دون استثناء وأن الفارق فقط في "التوقيت".

كانت "أمي" تخبرني أنه أمام هكذا "اختبار" على المرء أن يصبر على ما لم يُحِطْ به خُبراً وأن يهزم بإيمانه كل الخدوش التي تصنعها ساعات التعب والإرهاق.

ولا أصدق وأنبل من أمنيات المكروبين كتلك التي احتضنتها شجرة كبيرة احتلت ركناً من أحد أقسام علاج المرضى وكانت قد تزينت بأقصوصات ورق حملت دعواتهم واضطرابات قلوبهم.

 أرادت إحداهنّ من الله أن يبقى زوجها المُحب وفيّا لها بعد رحيلها وأن يظل على قيد "ودّها"، وتمنت فتاة صغيرة هزيمة مرض الموت وأن تُصبح طبيبة متخصصة في محاربته، فيما تحلم أُخرى بسلامٍ وسكينة لوطنٍ جريح وعالم يعج بالفوضى والخراب وأن يرزق الجميع أياماً من نور.

وثّمة خطوط كانت تبدو وكأنها اختنقت أثناء الكتابة؛ ووحدها الفراغات المكتومة كانت على هيئة أدعية يعلم الله أمرها كلها.

وفي حضرة وجـعهم الذي لا يُطاق تتعلم دروساً كفيلة بنقلك من حياة إلى أُخرى، وتُدرك جيداً ويقيناً أن الألم يُطَهِّرْ القلب، ويُربي فينا الإنسانية.

ويخبرنا دمعهم وخوفهم كيف نعيد ترتيب مشاعرنا وأفكارنا وأنّ الحياة قصيـرة جداً.

 

 

كلمات دلالية