حقيقية التنافس في الانتخابات الاسرائيلية
حسن لافي
منذ فترةٍ طويلةٍ لم تشهد الساحة السياسية الإسرائيلية مشهداً انتخابياً مُعقّداً ببيئته السياسية مثل انتخابات الكنيست الـ21 الحالية.
على الصعيد الداخلي الصهيوني، لأول مرة منذ عقد من الزمان هناك منافس قوي لنتنياهو يمتلك بديلاً متكاملاً، وقادراً على سدّ الفراغ في حال غياب نتنياهو عن المشهد السياسي، سواء على الصعيد الأمني الذي تميَّز به نتنياهو حتى أنه لُقِّب بسيّد الأمن في دولة الاحتلال ، حيث قادة حزب "أبيض أزرق" بمعظمهم رؤساء أركان جيش سابقين زاخِر تاريخهم بالإنجازات العسكرية ، وبذلك لا يمكن الهَمْز واللَمْز بهم من الناحية العسكرية كما فعل نتنياهو بمنافسه "اتسحاق هيرتسوغ" زعيم المعسكر الصهيوني في انتخابات عام 2015م، ما زعزع ثقة الناخِب الإسرائيلي بقدرة هيرتسوغ على قيادة "إسرائيل" في ظلّ البيئة الاقليمية المُعقّدة، بل في سابقة تحدث لأول مرة ، يظهر مَنْ يُشكّك بقدرة نتنياهو بالتعامُل مع ملف المقاومة في غزّة، وخاصة على ضوء قصف "تل أبيب" عدّة مرات من غزّة، واستمرار حال الاستنزاف للجيش على حدود غزّة، وفُقدان الشعور بالأمن من قِبَل مستوطني غلاف غزّة من خلال مسيرات العودة وكَسْر الحصار.
على صعيد الخطاب السياسي حزب أبيض أزرق لا تختلف رؤيته السياسية كثيراً عن نتنياهو إلا في بعض الأمور التفصيلية، ولكن جوهر الخطاب هو يميني، خاصة في ما يتعلّق بطريقة التعامُل مع القضية الفلسطينية، فلا حديث عن دولة فلسطينية بالمُطلق، وموقف داعم للمستوطنين، وقناعة تامّة بعدم إمكانية التنازُل عن ضمانات أمنية لحماية دولة الكيان في الضفة الغربية، تفتح الطريق لاستكمال ابتلاع أراضي الضفة، ولكن بشعاراتٍ ترتكز على ادّعاءات أمنية، وفكرة "إسرائيل الكبرى" على النسخة العلمانية لـ" زئيف جابوتنسكي" أبو اليمين العلماني الصهيوني، وليس على مفهوم الحاخام "اتسحاق كوك" صاحب الطبيعة المسيحانية الدينية.
لذا كل محاولات نتنياهو لإلصاق تهمة أن حزب الجنرالات يمثل اليسار الساعي إلى تقسيم القدس كما اتّهم نتنياهو منافسه "إسحاق بيريز" في انتخابات عام 1996 ونجح بذلك في المُناظرة التلفزيونية المشهورة، والتي أدّت إلى فوز نتنياهو المُفاجئ.
على الصعيد الاقتصادي حزب أبيض أزرق يضمّ بائتلافه حزب "هناك مستقبل" بزعامة "يائير لابيد" ذي الأجندة الاقتصادية الاجتماعية، الزاوية التي يفتقدها نتنياهو المُلاحَق بقضايا الفساد الكبيرة، وصاحب العلاقات المشبوهة مع كارتيلات رجال الأعمال في دولة الكيان.
أما على صعيد العلاقات الخارجية فمن الصعب جداً على حزب أبيض أزرق بقيادة "بيني جينتس" مبارات نتنياهو المُخضرَم في هذا المضمار، فنتنياهو يُستقبلْ علناً وسرّاً في عواصم التطبيع العربي، ولكن الأهم أن نتنياهو يُسوِّق نفسه الرجل الأكثر تأثيراً على "دونالد ترامب" رئيس الدولة الأكثر تحالفاً مع "إسرائيل" وهي الولايات المتحدة الأميركية، الذي لم يبخل على صديقه بهدايا الدعم الانتخابي بدءاً من الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي مع إيران، مروراً بملف القدس واللاجئين، ومن ثم هضبة الجولان السورية، وأخيراً في لحظات الصمت الانتخابي الإسرائيلي يعلن ترامب أن الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية، كآخر الهدايا الانتخابية لصديقه نتنياهو قبل يوم الاقتراع.
أما بخصوص القضايا الثابتة في المجتمع الصهيوني، مثل علاقة الدين بالدولة، وما يُسمّى بالشرخ الديني العلماني، فبات من الواضح أن نتنياهو أكثر براغماتية في تعامله مع الحريديم المُتديّنين من منافسيه في حزب أبيض أزرق لوجود "لبيد" ذي الصبغة العلمانية الحادّة ضد الحريديم، ولكن رغم ذلك، إن الرؤيتين ليستا متناقضتين بسبب وجود أقطاب يمينية أخرى في حزب أبيض أزرق من أمثال "بوجي يعلون" من المُحتمل أن يلعبوا دوراً بارزاً في التخفيف من هذا التوتّر.
الخلاف الجوهري في هذا الصَدَد هو مرتبط بهوية الدولة، وكيفية التوفيق بين يهودية الدولة وديمقراطيتها" التي نصّت عليهما وثيقة الاستقلال عام 1948، حيث نتنياهو ولأسبابٍ تتعلّق بالمصالح الحزبية، وارتباطاته مع الصهيونية الدينية والحريديم أكثر تساهلاً في موضوع طغيان الصبغة اليهودية على الطبيعة الديمقراطية للدولة، وهذا انعكس من مواقف حكومته الأخيرة من محكمة العدل العليا وخاصة مع إطلاق العنان لـوزيرة العدل "إييلت شاكيد" لقَضْم صلاحيات المحكمة العليا، وسحب صلاحياتها من خلال التشريعات في الكنيست، والقوانين الوزارية.
لكن رغم هذا الخلاف الجوهري، إلا أن هذا الموضوع لم يطغ على أجندة الحملة الانتخابية للكنيست كما كان متوقّعاً في بداياتها، لانشغال الناخِب بملفاتٍ أخرى أكثر سخونة، كالملف الأمني والعلاقات الخارجية.
في المُحصّلة النهائية ممكن تلخيص المشهد الانتخابي للكنيست الـ21 على أنها تنافس ما بين اليمين العلماني المتحالف مع اليمين الديني، في مواجهة اليمين العلماني، الذي بات يُعرَف بالوسط في "إسرائيل" ، الأمر الذي يبرهن على ظاهرة انزياح المجتمع الصهيوني تجاه اليمين المُتطرّف أكثر وأكثر، ومع غياب الفروقات الجوهرية بين المُتنافسين الرئيسيين يبقى الباب مُشرّعاً أمام تشكيل حكومة وحدة صهيونية في ظاهر الأمر، ولكنها في حقيقتها تمثل عودة اليمين العلماني الجابوتينسكي إلى الواجهة السياسية على نسخة حكومات "مناحيم بيغن"، "وإسحاق شامير".