بقلم : علي جرادات
لا يحتاج المرء إلى عناء في التحليل للقول: إن الاعتراف الأمريكي بسيادة «إسرائيل» على هضبة الجولان السورية المُحتلة؛ يمثل، في جانب منه، دعماً لرئيس حكومة الاحتلال، نتنياهو، في معركته الانتخابية الجارية؛ لكن هذا الجانب ليس هو الجانب الذي ينبغي التركيز عليه، هنا، لسببيْن؛ الأول أن قادة ما يُسمى «معارضة» للمذكور، لا يقلون عنه تطرفاً ويمينية وعنجهية، وتشبثاً بالخرافات التلمودية، أما السبب الثاني، وهو الأهم، فلأن هذا الاعتراف هو الفصل الثاني ل«صفقة القرن»؛ بعد فصل الاعتراف بالقدس الموحَّدة عاصمة ل«إسرائيل»، ونقل السفارة الأمريكية إليها.
هذا بينما تؤكد التصريحات الأمريكية الرسمية، عزْمَ إدارة ترامب الاعتراف بالضم الواقعي لأغلب مساحة الضفة الغربية، يلخص الأمر، هنا، وزير الخارجية الأمريكي، بومبيو، بالقول: «خطتنا للسلام ستستند إلى الحقائق على الأرض، وستتخلى عن المعايير القديمة بالنسبة لقضيتيْ القدس والمستوطنات». وإذا أضفنا أن «إسرائيل» هذه تحتل، أيضاً، أجزاء من الأراضي اللبنانية، وتسيطر على منطقتيْ الباقورة والغمر الأردنيتين؛ لتبيَّن أننا إزاء خطة عمل أمريكية «إسرائيلية»؛ لدفْع العالم نحو الاعتراف ب(«إسرائيل اليهودية الكبرى») على كامل ما تحتله من أرض عربية، وليس، فقط، على مساحة فلسطين التاريخية ما بين البحر والنهر.
لم تكن الولايات المتحدة لتتجرأ على الاعتراف بسيادة ربيبتها «إسرائيل» على هضبة الجولان السورية المُحتلة لو أن قرارها بشأن القدس قُوبل بالرد المطلوب، عربياً وفلسطينياً، رسمياً وشعبياً، وفي السياسة والميدان؛ بل، ولما تجرأت، أصلاً، على اتخاذ قرارها بشأن القدس، لولا أن الأوضاع الداخلية العربية، عموماً، والفلسطينية، خصوصاً، في حالة «تغيظ كل صديق وتسرُّ كل الأعداء»، كيف لا؟ وهي الغارقة، منذ سنوات، في وضعية بنيوية غير مسبوقة من الالتباس والانقسام والتيه وفقدان البوصلة والاتجاه.
لكن، ورغم كل ذلك، ولأن كل شيء ينطوي على نقيضه، فإن خطة «صفقة القرن» التصفوية تنطوي على أمور كثيرة لغير مصلحة أصحابها، بما يمثلون، وما يفكرون به، وما يخططون له، وما يطمحون لتحقيقه، وفي هذا المعنى فلنُشِر إلى النقاط الأساسية التالية:
أولاً، من على قاعدة «رب ضارة نافعة» فإن غلو أصحاب «صفقة القرن» سيؤدي، عاجلاً أو آجلاً، إلى إعادة الصراع إلى أصله، أي صراع وجود لا صراع حدود، وأنه، في الأساس، صراع عربي- «إسرائيلي»، جوهره القضية الفلسطينية، فالجزر يستدعي المد، والتراجع يستحث التقدم. وبحسبان أن الشيء يُبنى على مقتضاه، فإن تحقيق هدف: («إسرائيل اليهودية الكبرى»)، على كامل الأرض العربية المحتلة، كهدف نهائي ل«صفقة القرن» يقتضي تفريغ هذه الأرض العربية وتطهيرها، بالمعنى العرقي للكلمة، من أصحابها الأصليين، و/ أو جلب موجات جديدة وكبيرة من المستوطنين اليهود إليها، فيما يعلم الجميع أن توفير هذيْن الشرطين لتحقيق هذا الهدف لم يتحقق على مدار قرنٍ من الزمان؛ بل وبات خارج الممكن الواقعي والتاريخي.
ثانياً، أما الظن بأن ثمة إمكانية واقعية لإنهاء قرن من الصراع بجرة قلم، فأحلام يقظة، وإحلال للفكرة محل الواقع، كأنها هو، وحرثٌ في البحر ليس إلا، فلا فلسطين، ولا بقية الأراضي العربية المُحتلة، عقارات معروضة للبيع والشراء؛ بل هي وطن لشعوب غير زائدة، ولم تُسلِّم، ولم تستسلم، وقاومت، ولا تزال تقاوم دفاعاً عن الوطن، وعن قيمة الحرية التي باسمها انتهك الأقوياء، وأولهم الولايات المتحدة، كل المحرمات؛ لأن وعيهم كان، ولا يزال أن الحرية يمكن أن تكون ملكية خاصة وحكراً عليهم فقط إنها إعادة لزمن الاستعباد. ولهذا تدرك الشعوب أن كل القوانين الدولية والإنسانية قد صاغها بشر في لحظة توازن بين الأقوياء، بينما القيم التي هي أبقى صاغها بشر وتوافقوا عليها سلوكاً دائماً لتضحي بطبيعتها أقوى من القانون ومصدراً له.
ثالثاً، على أصحاب «صفقة القرن» الطامحين لتكريس نتائج أكبر عملية سطو سياسي في التاريخ الحديث والمعاصر ألا ينسوا أو يتناسوا أن الشعوب العربية، ككل الشعوب التي تعرضت للاستعمار، قادرة على كسر معادلة أن «المُستعمِرين هم من يكتب التاريخ» ليعود التاريخ إلى حقيقته وأن من صنعه هو كفاح الشعوب المُستعمَرة المقهورة منذ أول مُستعمرٍ قال «هذه المُستعمَرة لي»، فظن أنه يمتلك الكون وأنه يصيغ التاريخ وفق إرادته.