الشهيد ساجي درويش.. أعاد لبيرزيت نبضها الثوري

الساعة 08:23 ص|21 مارس 2019

فلسطين اليوم

بقلم: إبراهيم أبو صفية

فعل الشهيد يكمن في أن يلتحق بالآخرين في مخاض تأصيل الذاكرة، وإفصاح الرؤية صوب الحقيقة الأزلية بين صراع الحق والباطل، وتعبيد مسيرة القضية بفكر الذين لم يبدلوا تبديلا، كأن يولد الشهيد من جديد في كل بيت وعائلة، وإن لم يرتقِ الشهيد بفعل، فالشهادة بحد ذاتها فعل؛ فيما يعرَّف القتل بأنه ممارسة عدوانية تُجسد أبعاد الواقع والمتغيرات وتربطها بالثوابت الراسخة بفهم الاستعمار وأدواته.

في بداية عامي الأول في جامعة بيرزيت سنة 2013-2014م، إذ كانت الجامعة تمر بفترة هدوء في العمل الثوري المقاوم انعكاسًا للحالة الفلسطينية التي سادت ما بعد الانتفاضة الثانية من استقرار مغلف ببناء "مؤسسات الدولة" واستمرار المفاوضات التي توقفت عام 2014م بطلب "إسرائيلي" حتى إشعار آخر، حيث كانت جامعة بيرزيت على موعد مع توديع آخر شهيد عام 2007م بعد ارتقاء الشهيد عمر عبد الحليم الملقب بـ"التايجر" بعملية اغتيال وسط مدينة رام الله، وصار بعدها مسار العمل الطلابي النقابي بتنافسٍ شديد بين الحركة الطلابية، غاضين النظر عن إمكانيات الفعل الثوري بين الطلبة كطبقة مثقفة، أو كيفية بناء مثقف مشتبك، مما أطغى المشهد السياسي العام على انسحاب الحركة الطلابية من دورها الطليعي الذي جسدته في الانتفاضات السابقة وتدجينها بين أسوار الجامعة.

إن تماشي الحركة الطلابية مع الوضع السياسي العام، جعل من جذوة الصراع تخبو والذهاب إلى مصالح شخصية أو حزبية، إذ كان المشهد آنذاك مملًا بائسًا، وبعيدًا عن فكر القضية الذي أصبح ثانويًا على حساب الشخصنة والتعليب الفكري بشواهد الانقسام، والالتهاء بالتصنع بما منحته الليبرالية سواء على لسان الطلبة أو ممارساتهم.

إلا أن صرخة الأرض المسلوبة بالمستوطنات، والأقصى المعلق على أعواد المشانق، وغزة التي تكابد الموت في كل حين، والفلسطيني الصامد في وجهة عتو التهويد، أرادت أن لا تخرج بيرزيت من مكانها وقيمتها الرمزية بين الفلسطينيين والفعلية بنظر "الإسرائيليين". وكما قال الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي: "واجبنا أن نُبقي جذوة الصراع مشتعلة؛ لأن هذه الأمّة على موعدٍ مع الدّم؛ دمٌ يلوّن الأرض، دمٌ يلوّن الأفق، دمٌ يلوّن التاريخ، ودمٌ يلوّن الدّم، ونهر الدّم لا يتوقّف، دفاعًا عن العقيدة، دفاعًا عن الأرض والأفق والتاريخ، دفاعًا عن الحق والعدل والحرية والكرامة".

في مساء العاشر من مارس (آذار) 2014م اصطفى القدر شهيده، مُصطفي جامعة بيرزيت بعرس وطني يعيد الذاكرة ويُحمل أمانة الدم والأرض للمثقف الذي من المفترض أن يقاوم ويقاوم ولا ينكسر، وعلى بعد 12 كيلومترًا من جامعة بيرزيت شرقًا، قرية بيتين تزف شهيدها الطالب الصحفي ساجي درويش مرتقيًا برصاص جنود الاحتلال قتلة قلوب الأمهات.

من تلك اللحظة قد استطيع أن أقول نبض فعل الشهيد بذاكرتي محصنًا ثوابت الملهم الشقاقي زميل ساجي الذي سبقه بعقدينٍ في الشهادة وأربعة عقود على مقاعد الدراسة الجامعية في بيرزيت، فعرس صوفي وطواف ملائكي في أروقة بيرزيت، صدمة الذاكرة وعفوية الإنسان وزغاريد أطلقتها زميلاته للوداع، وبين الصفحتين ذَوَى عودها، حنت ذوائبها باللون الأحمر الأرجواني، كأسها أشد الكؤوس فهي سَكْرَى، تترنح أزقتها، بهتافات الزملاء، وتولول الجامعة وتصيح أنا أم الشهيد، أنا أم الشهداء أنا جامعة بيرزيت.

تعيد سيرتها الأولى، تهتف باسم كل شهيد، ابني أشرف الطيبي يا مفتاح القافلة، أيها اللاحقون عيسى وجواد ومحمد وياسر وعبد وفتحي، 26 شهيد بساجي، تولول مرة وتزغرد مرة، تطرق القلوب المقفلة والأذن الصاغية للانقسام، تنبه المبهورين في ليبراليتها، أخرجت أيديها تمسك بنعش ساجي هنا هنا، استطيع أن احتضنه واحتضن المزيد، ياه لبكاء الشجر والحجر، يواسينا هنا جلس ساجي وهنا استظل!!.

بيرزيت تُنكر كل شيء إلا الشهداء وفعلهم، لا تعترف إلا بفكرها الحي، تستمد بقائها ونقائها من الدم وليس أي دم- دم الشهداء، مستحيل أن تنسى بل تذكرنا كل يوم بصرحها الشامخ في وسطها يكبر بأسماء الشهداء.

وكانت فصاحة صورته منتشيًا على حصانه أبلغ، تلتهمها أسوار الجامعة تحميها من الغبار من الأمطار.. هذه واجهتي وصورتي أنا أم الشهداء وتاريخ القضية.

ساجي صايل درويش جرابعة (19 عامًا) من قرية بيتين قضاء رام الله، طالبًا في سنته الدراسية الثانية في جامعة بيرزيت، التحق بدائرة الإعلام، اغتالته رصاص الاحتلال بالقرب من البؤرة الاستيطانية "جفعات آساف". وهو في طريقه إلى حظيرة للأغنام تعود لعائلته بالقرب من الشارع الالتفافي، حيث أطلق الجنود النار عليه وهو بالقرب من المنزل المهجور.

كان ساجي معتادًا على الذهاب إلى الحظيرة لإطعام الأغنام وراعيًا لها، فهذه الجزئية من حياة ساجي تعيد بنا تاريخ قضية وأرض، فأن تكون راعيًا من المؤكد أن علاقتك مع الأرض ستختلف، فالطبيعة تعيد تشكيلتك الأولى، فتتحد مع عناصرها، تخاطبك كل يوم بمفاهيمها، عبر رائحة التراب، صلابة الصخر، تقلبات الجو أمامك.. دقق بصورته مع حصانه كأنه يقول "وجدت أجوبتي" فأنا ابن الأرض.

كلماته أمانة منه أودعها في صفحات التاريخ، وخاطب مودعًا: "قولوا لأمي بالله لا تبكيني.. قولوا لها دمعات عيونها تكويني"، كتبها على حسابه الشخصي بموقع فيسبوك ناعيًا صديقه الشهيد مُعتز وشحة

(18 عامًا) الذي ارتقى بتاريخ 3 مارس، لتتحول بعد ذلك نعيًا له بعد استشهاده.

اليوم وبعد مرور الذكرى تلو الذكرى، أذكر كلمات زميله باسل مغربي في مقالة له تحت عنوان: (عندما كرهت ساجي درويش!) قائلًا: "اليوم وبعد الضّيق الذي كان يلازمُني كلَّما رأيتُ صورة ساجي، وبعد كل المحاولات الفاشلة التي بذلتها كي أهرب منه، تبدّل الحال تمامًا؛ صرتُ أنا من يبحثُ عنه، صرتُ أنا المتلصص الذي يسترق النّظرَ إلى الشّهيد الذي يحسدُه الجميع".

في الختام نستذكر كلمات زميله السابق له في الدراسة والشهادة الدكتور فتحي الشقاقي عندما قال:

" يا جُرح تفتّح يا جرح

يا أهلي هاتوا الملح

حتى يبقى حيّا هذا الجرح

حتى يبزغ من ظلم الليل الصبح ..

لن أغفر لك

لن اغفر لك

تلعنني امي ان كنت غفرت

تلفظي القدس ان كنت نسيت"

 

كلمات دلالية