خبر القصة التي نحتبس فيها .. هآرتس

الساعة 03:46 م|20 يناير 2009

بقلم: دافيد غروسمان

روائي شهير

        (المضمون: ما جرى في الاسابيع الاخيرة في قطاع غزة يطرح أمامنا، في اسرائيل، مرآة تعكس لنا وجهنا، لو كنا نظرنا اليه للحظة واحدة من الخارج او اذا كنا نراه في شعب آخر، لكنا خفنا المصدر).

        مثل الثعلبين في القصة التوراتية لشمشون، المرتبطين الواحد بالاخر في ذيليهما من خلال شعلة متلظية، هكذا نحن والفلسطينيون  نجر بعضنا بعضا – رغم فوارق القوى وحتى  عندما نجتهد جدا كي ننقطع الواحد عن الاخر – وفي ظل ذلك نشعل الاخر المعقود بنا، نظيرنا، مصيبتنا، ونشعل أنفسنا ايضا.

        وعليه، ففي ظل موجة الحماسة الوطنية التي جرفت البلاد الان، لا ضير في أن نتذكر بان الحملة الاخيرة في غزة هي في نهاية المطاف مجرد محطة واحدة اخرى على طريق كلها نار وعنف وكراهية، مرة تنتصر فيها ومرة تخسر، ولكن الطريق نفسها – تؤدي في نهاية المطاف الى الضياع.

        الى جانب الرضى عن اصلاح الاخفاقات لحرب لبنان الثانية، مرغوب فيه الانصات للصوت الذي يقول ان انجازات الجيش الاسرائيلي حيال حماس ليست البرهان الحاسم على أن اسرائيل محقة في أنها انطلقت الى حملة هائلة الحجوم كهذه، وبالتأكيد لا تبرر الطريقة التي عملت فيها في سياقها. هذه الانجازات تؤكد فقط التالي – ان اسرائيل ببساطة اقوى بكثير من حماس، وانه في اوضاع معينة يمكنها أن تكون متصلبة ووحشية جدا، على طريقتها.

        عندما تنتهي الحملة تماما، وبعد أن تتكشف حجوم القتل والدمار امام ناظر الجميع لدرجة ربما، للحظة قصيرة، تفوق حتى آليات الكبت وادعاء الحق، تلك الاليات المتطورة التي تعمل في اسرائيل الان، ربما عندها سيكوي درس ما الوعي الاسرائيلي ايضا. لعلنا نفهم اخيرا بان شيئا ما عميقا واساسيا في سلوكنا هنا في المنطقة، منذ الازل، مغلوط، غير اخلاقي وغير حكيم، وبالاساس – هو نفسه يشعل المرة تلو الاخرى النار التي تأكلنا.

        مفهوم أنه لا يمكن اعفاء الفلسطينيين من مسؤولية اخطائهم وجرائمهم. مثل هذا الموقف فيه استخفاف وتعالٍ عليهم وكأنهم ليسوا ببشر راشدين ذوي عقل، يتحملون مسؤولية كل افعالهم وقصوراتهم. ومع ان سكان قطاع غزة "خنقوا" من نواحٍ عديدة على يد اسرائيل، ولكن كانت امامهم مفتوحة سبل اخرى للاحتجاج والحوار واظهار أزمتهم الشديدة، غير اطلاق الاف الصواريخ نحو مواطنين ابرياء في اسرائيل. محظور نسيان هذا. محظور اعفاء الفلسطينيين بالتسامح، وكأن الامر مسلم به،  في أنه عندما يكونون في أزمة، فان السبيل شبه التلقائي لديهم للرد، هو سبيل العنف.

        ولكن حتى عندما يعمل الفلسطينيون بعدوانية لا تمييز فيها – مثل العمليات الانتحارية ونار القسام – لا يزال يوجد لاسرائيل، الاقوى منهم بكثير، قدرة تأثير هائلة على مدى عنف النزاع بأسره، وعليه، على سياقات التهدئة والخروج منه ايضا. الحملة الاخيرة لم تظهر ان احدا في القيادة يفهم حقا، بوعي كامل، بمسؤولية كاملة، هذا العنصر الحرج للنزاع.

        ستأتي أيام سنحاول فيها اشفاء الجروح التي نحدثها نحن اليوم. فكيف ستأتي هذه الايام إن لم نفهم بان قوتنا العسكرية لا يمكنها أن تكون الاداة الاساس التي بمعونتها سنشق طريقنا هنا، حيال الشعوب العربية ومعها؟ كيف ستأتي هذه الايام ان لم نستوعب معاني المسؤولية التي تلقيها علينا الاتصالات والعلاقات المتفرعة والمصيرية ، في الماضي وفي المستقبل، بيننا وبين الفلسطينيين في الضفة الغربية، في قطاع غزة، في الجليل وفي المثلث؟

        حين تتبدد سحب الدخان الملونة لتصريحات السياسيين عن انتصار جارف وحاسم، وحين نتبين ماذا كانت الانجازات الحقيقية لهذه الحملة، وما هو الفارق بينها وبين ما هو ضروري حقا لنا كي نعيش هنا حياة طبيعية، وحين نوافق على الاعتراف بان دولة كاملة خدرت نفسها هنا لانها كانت بحاجة ماسة جدا لان تؤمن بان غزة ستشفيها من مرض لبنان ربما في حينه سنأتي لنتحاسب مع اولئك الذين يفعمون بين الحين والاخر الجمهور الاسرائيلي بحماسة الغرور ونشوى القوة. اولئك الذين يعلمون على مدى السنين الاحتقار للايمان بالسلام، ولكل أمل بتغيير ما في العلاقات بيننا وبين العرب. اولئك الذين يقنعونا بان العرب لا يفهمون غير لغة القوة وبالتالي ينبغي الحديث اليهم فقط بهذه اللغة. ولما كنا أكثرنا بهذا القدر الحديث اليهم بهذه اللغة وبها فقط، فقد نسينا بان هناك ايضا لغات اخرى يمكن الحديث بها مع بني البشر، حتى مع الاعداء، حتى مع الاعداء الالداء مثل حماس، لغات هي لغات أم لنا، نحن الاسرائيليين، بقدر لا يقل عن لغة الطائرة والدبابة.

        الحديث مع الفلسطينيين. هذا ينبغي أن يكون الاستنتاج الاساس من الجولة الدموية الاخيرة. الحديث ايضا مع من لا يعترفون بحقنا في الوجود هنا. وبدلا من تجاهل حماس الان، من الافضل أن نستغل بالذات الواقع الجديد الناشىء والدخول معها فورا في حوار، للسماح بتسوية مع الشعب الفلسطيني بأسره. الحديث، كي نفهم بان الواقع ليس فقط القصة المغلقة التي نرويها نحن وكذا الفلسطينيون منذ أجيال لانفسنا، القصة التي نحتبس فيها، والتي قسم غير صغير منها خيال مغرق وأماني وكوابيس. الحديث، كي نصيغ في داخل الواقع المغلق والاصم امكانية الحديث نفسه، هذا البديل، المحقر والبائس اليوم، والذي في عصف الحرب يكاد لا يكون له مكان، ومنفعة ومؤمنون.

        الحديث كاستراتيجية ملموسة، المبادرة في الحديث، الاصرار على الحديث، الحديث مع الراس في الحائط، الحديث ايضا اذا بدا الحوار منذ البداية عديم الامل. على المدى البعيد كفيل هذا العناد ان يساهم في أمننا اكثر بكثير من مئات الطائرات التي تلقي القذائف على مدينة وناسها. الحديث انطلاقا من الفهم أنه ولدت في ضوء مشاهد الفظاعة الاخيرة، الفهم بان الدمار الذي يمكن ان نلحقه الواحد بالاخر، كل شعب بطريقته، هو هائل ومفسد جدا، عديم الغاية جدا، اذا ما استسلمنا له ولمنطقه، فانه سيبيدنا جميعا في النهاية.

        الحديث، لان ما جرى في الاسابيع الاخيرة في قطاع غزة يطرح أمامنا، في اسرائيل، مرآة تعكس لنا وجهنا، لو كنا نظرنا اليه للحظة واحدة من الخارج او اذا كنا نراه في شعب آخر، لكنا خفنا. كنا سنفهم بان النصر ليس نصرا حقيقيا، وان الحرب في غزة لم تجلب لنا الشفاء في المكان الذي نحتاج فيه بشدة الى الدواء، بل فقط كشفت بقوة اعظم خطأ التوجيه المأساوي والمتواصل عندنا، وعمق الفخ الذي نعلق فيه.