خبر « حي الزيتون ».. يختزن الفظائع بين جنباته والجثث المتحللة تحت أنقاضه

الساعة 11:18 ص|20 يناير 2009

فلسطين اليوم-غزة (خاص)

تشرق الشمس على جنوب مدينة غزة، لتكشف هذه الأيام عن حصيلة ثلاثة وعشرين يوماً من القصف والتدمير المتواصل.

 

تماماً كما فعل مئات الفلسطينيين الذين فوجئوا بتوقف أصوات القصف وإطلاق الرصاص؛ كانت وجهتنا مناطق جنوب مدينة غزة، التي كان لها النصيب الأكبر من الدمار والقتل والتشريد.

 

كانت البداية من مناطق جنوب شرق المدينة في حي الزيتون، تقدمنا تحملنا أقدامنا بصعوبة، حتى بدأنا نشاهد ما لم نتوقعه من قبل، من اليمين بيوت مدمرة ومصانع متفحمة، وممتلكات باتت في خبر كان، ومساجد استهدفها الاحتلال؛ منها ما دمّره بشكل كامل كمسجد "التوحيد" في محيط عائلة السموني التي شهدت الفظائع، وأخرى أصيبت بشكل مباشر ودمِّرت مآذنها.

 

مضينا بشغف كبير للتعرّف على أبعاد الدمار الذي خلفه دوي عشرات الصواريخ والقذائف التي زلزلت غزة على مدار ثلاثة وعشرين يوماً بليلها ونهارها. فهذه معصرة للزيتون سُوِّيت بالأرض، وعلى جوارها منزل لعائلة السرحي ومزرعة دواجن ومزرعة أبقار ومسجد "سعد بن أبي وقاص" ومصنع للأسمنت المسلح، وغيرها الكثير من المعالم التي سحقتها الآلة الحربية الإسرائيلية.

 

وما نال الحجر لم يستثنِ الشجر، فمئات الدونمات من أشجار الزيتون المعمرة دُفنت في الأرض ولم يبق لها أثر، بعد أن كانت الرصيد المالي والاقتصادي لمواطني هذه المنطقة الفقيرة اقتصادياً. يبدو المشهد مروِّعاً من حجم التجريف الكبير الذي تعرضت له هذه الأشجار والمزارع والحقول الزراعية الواسعة. لقد خلط العدوان الطرق وممتلكات المواطنين بعضها ببعض، حتى تغيّرت ملامح المنطقة بشكل كامل.

 

ها هم سكان المنطقة يعاينون الحقائق الماثلة على الأرض، فمقومات حياتهم الأساسية، من مساكن ومتاجر وأشجار ومرافق، ذهبت أدراج الرياح.

 

على الناحية الغربية من شارع صلاح الدين الذي يقطع جنوب مدينة غزة، كانت لنا جولة أخرى، إذ تكفي ساعات معدودة لترسم مشهد الآلام والمعاناة التي لا تكفي مجلدات بأكملها لحصرها أو تدوينها.

 

محيط سوق السيارات كان البداية مع تلك المنطقة. فالدمار الواسع يجعل أهل المنطقة أنفسهم غرباء فيها. فالمنطقة المعروفة بالنشاط الصناعي إلى جانب القطاع الزراعي تغيّرت بالكامل، منازل هجرها سكانها تحت نيران الاحتلال باتت وكأنها مواطن أشباح، ومصانع ومعامل باتت في عداد الذكريات الغابرة. خطوط كهرباء مقطعة على الأرض بفعل استهدافها بصواريخ الاحتلال، وكذلك خطوط الهاتف التي أتى عليها العدوان.

 

تقدمنا قليلاً، لنوغل في ما يشبه الكابوس المتجسد أمام الأبصار. ما إن وصلنا إلى بيوت عائلة السموني، الواقعة جنوب غربي حي الزيتون، حتى تأكدنا أننا في المكان إياه، الذي استمر تواجد قوات الاحتلال فيه لأكثر من أسبوعين متواصلين، حافلين بالفظائع التي تنتفض لهولها الأبدان.

 

اخترقنا جموع المواطنين، لنصل إلى منزل تحاول أطقم الدفاع المدني انتشال جثث من تحت ركامه، لا معدات لديها، ولا عمّال، فقد استشهد نصف طواقم الدفاع المدني، كما دمّر العدوان كثيراً من الآلات.

 

وقفنا في المكان المنكوب نستطلع آراء المواطنين عما حدث هنا. هذا أحد الناجين من عائلة السموني يؤكد أنهم شاهدوا مستوطنين إسرائيليين مشاركين في ارتكاب الفظائع، موضحاً أنهم كانوا يخيِّرون المواطنين الفلسطينيين بأية وسيلة يقتلونهم.

 

وليس بعيداً؛ جلس صبحي السموني، وهو في الخمسينيات من عمره ومختار العائلة التي فقدت عشرات الضحايا، سألناه عما جرى، لكنه لم يَقوَ على الكلام، فاعتذر منّا. لم يتحرّك من مكانه كما لم يستطع التعبير. اكتفى الحاج صبحي بالجلوس حيث هو، ليسأل عن صاحب أو صاحبة الجثة التي يتم إخراجها من تحت ركام منزل فجرته قوات الاحتلال على العشرات من أبناء عائلته، كانوا في داخله.

 

حلمي، شاب في الخامسة والعشرين من العمر، هو أحد الناجين القلائل من بين حطام هذا المنزل. وقف ليروي تفاصيل الأهوال التي شهدها، مشيراً إلى وسائل القتل العمد التي استخدمتها قوات الاحتلال في حربها في تلك المنطقة والتي استمرت لأكثر من أسبوعين. احتمى أفراد عائلة السموني والعائلات المجاورة في منازلهم، لاعتقادهم أنهم يدرؤون عن أنفسهم الخطر المحدق بهم. لم يدر في خلد حلمي وأبيه وإخوانه وأبناء أعمامه وأقاربه الذين قتلتهم قوات الاحتلال في داخل منازلهم، أنّ هذه المنازل ستكون ذاتها مسرح القتل الجماعي، وذلك من خلال إقدام قوات الاحتلال على تفجيرها على رؤوس ساكنيها.

 

خلال حديثه للصحفيين؛ حلّقت طائرات "إف 16" الحربية بشكل منخفض جداً، لإثارة الهلع بين سكان غزة، إلاّ أنّ حلمي رمقها بنظرة استخفاف، فمشاهد القتل الجماعي التي رآها بعينيه لأبناء عائلته تهون معها قذائف الطائرات الحربية.

 

وفجأة قطع حديثنا نداء أطقم الدفاع المدني، فقد عثرت على جثث أخرى تحت الأنقاض. سارعنا إلى المكان، رأينا منظراً لا يمكن نسيانه على مرّ الزمان. أخرجت تلك الطواقم جثثاً متحللة بعد مرور أكثر من أسبوعين على مقتلها، وعدم سماح الاحتلال بإخراجها. تبيّن أنّ إحداها لوالد الشاب حلمي، الذي أغمي عليه عندما رأى والده بهذه الحال.

 

ليس بعيداً عن موقع نكبة آل السموني، رأينا حطاماً هائلاً، بدا واضحاً بعد التدقيق أنه مسجد "التوحيد" الشهير في المنطقة، وذلك من خلال بقايا قبة صفراء كانت تنتصب فوق الحطام.

 

أكد عدد من المواطنين في المكان أنّ قوات الاحتلال التي غيّرت معالم المنطقة بالكامل، قامت باقتحام المسجد ووضع المتفجرات في داخله ومن ثم تفجيره بطريقة همجية.

 

قبل مغادرتنا للمكان، جاء صوت من بين جموع المواطنين، إنه رجل أنهكه التعب والإعياء بعد ما يربو على ثلاثة أسابيع من الحرب، قالها بصوت يغمره التحدي "سنبقى صامدين في هذه الأرض، سنبقى شوكة في حلق الغزاة".