الوساطة الروسية المرتقبة في موضوع المصالحة

الساعة 12:17 م|13 فبراير 2019

فلسطين اليوم

يترقب البعض ما سيتمخض عن دعوة روسيا للفصائل الفلسطينية للاجتماع، في منتصف شهر شباط 2019، بهدف الوصول إلى مصالحة فلسطينية. من هنا جاء موضوع الورقة الذي يبحث في احتمالية نجاح الوساطة الروسية من عدمها. وبحسب وكالة سبوتنيك الروسية فإنّ الاجتماع ستشارك فيه حركتا فتح وحماس، بالإضافة إلى فصائل منظمة التحرير، الذي قد يكون بشكل مباشر أو غير مباشر، كون التفاصيل لم تتضح بعد.

أعلن ميخائيل بوغدانوف، مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ونائب وزير الخارجية، في كانون الأول 2018، عن استعداد بلاده لتنظيم لقاء يجمع ممثلين عن حركتي حماس وفتح في موسكو، للإسهام في تحقيق المصالحة الوطنية بين الطرفين. ومؤخرًا أُعلن عن زيارة سيقوم بها رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية إلى روسيا، بدعوة من وزارة الخارجية الروسية، إلا أنّ هذه الزيارة أجلت إلى أجل غير مسمى وفق عبد الحفيظ نوفل، السفير الفلسطيني لدى روسيا، بطلب من الجانب الفلسطيني، وذلك بسبب الأوضاع الأمنية الصعبة التي يعيشها قطاع غزة المحاصر من قبل إسرائيل.[1]

من أجل تقييم إمكانية نجاح الوساطة الروسية من عدمها، ستعمد هذه الورقة إلى التعرض إلى الشكل الحالي للعلاقات الدولية في ظل حالة اللاقطبية، ومن ثم فحص علاقة روسيا مع الفاعلين المحليين والإقليميين.

العلاقات الدولية في ظل اللاقطبية

تختلف أدوات التحليل للعلاقات الدولية باختلاف موازين القوى وعلاقات القوة وفواعلها. من هنا تبرز إشكالية بعض التحليلات في عدم الأخذ بالتحولات المتعلقة بهذه العوامل. وبما أنّ هذه العوامل متغيرة فالطبيعي أن يتغير شكل العلاقات الدولية. ففي بداية القرن العشرين، وفي ضوء التنافس الاستعماري، ساد نظام التعدد القطبي (بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وغيرها من الدول الاستعمارية الأوروبية)، لكن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ساد النظام الثنائي القطبية (الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي)، بينما ساد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي نهاية الثمانينيات نظام أحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة، إلا ان ذلك لم يستمر طويلًا فنشأ مع بداية القرن الحادي والعشرين ما أطلق عليه ريتشارد هاس بعالم اللاقطبية[2] الذي نعيشه في أيامنا الحالية.[3]

بحسب هاس، فإنّ التغير الأهم في عصر اللاقطبية هو تغير الأنظمة الإقليمية، فبالرغم من عدم وجود أي منافس للولايات المتحدة على مستوى العالم، إلا أنّ هنالك قوى وأنظمة إقليمية عدة لا يمكن تجاوزها، ففي شرق آسيا لا يمكن تجاوز الصين، وفي أميركا اللاتينية من الصعب تجاهل البرازيل، وكما هو الحال في الشرق الأوسط تجاه إيران والسعودية، بمعنى أن الولايات المتحدة تهيمن بقوتها الصلبة (العسكرية) والناعمة (هوليود) على العالم، إلا أنها لاتستطيع التصرف كما يحلو لها في بعض المناطق، دون الأخذ بعين الاعتبار القوى الإقليمية الحليفة أو المناوئة لها.

عزز إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤخرًا عن نيته سحب القوات الأميركية من سوريا، وجهة النظر القائلة بتراجع الدور الأميركي في الشرق الأوسط، مما دفع البعض للمراهنة على الدور الروسي، على اعتبار أن ما يجري في المنطقة وبعد تدخل روسيا في سوريا تجسيد لنظرية اللاقطبية. لكن وبالرغم من تراجع الدور الأميركي في المنطقة؛ إلا أن الولايات المتحدة ما زالت مهيمنة على المستوى العالمي بفعل قدراتها العسكرية والاقتصادية وقوتها الناعمة، وما زالت الفجوة بينها وبين روسيا متسعة، فالاقتصاد الروسي يعاني من الأزمات بسبب اعتماده على النفط الذي تراجعت أسعاره، كما أنّ الدخل القومي الروسي السنوي لا يزيد عن 8% من الدخل القومي الأميركي. وبحسب صندوق النقد الدولي، فقد تراجع الدخل القومي الروسي بمقدار 24% خلال الفترة 2012-2017، من 2.017 ترليون دولار إلى 1.52ترليون دولار، فيما استمر الدخل القومي الأميركي بالنمو، وسجل العام 2017 مبلغ 19.75 ترليون دولار. إلا أنّ هذه الفجوة الاقتصادية لم تمنع روسيا من تحدي ومنافسة الولايات المتحدة في مناطق عدة، مثل جورجيا في العام 2008، والتدخل في شبه جزيرة القرم العام 2014، والتدخل في سوريا العام 2015.[4]

علاقة روسيا بمنظمة التحرير الفلسطينية

استفادت منظمة التحرير من حالة الاستقطاب الدولي في عصر ثنائية القطبية من ناحية الحصول على الدعم الديبلوماسي السوفييتي، ومع انهيار الاتحاد السوفييتي والتحول نحو عالم أحادي القطبية، انخرطت المنظمة في "عملية السلام" التي رعتها الولايات المتحدة، على أمل أن تفضي هذه العملية إلى إقامة دولة فلسطينية ضمن صيغة حل الدولتين، إلا أن فشل مفاوضات كامب دايفيد العام 2000، وما تبعها من فشل المبادرات المتعددة (كخطة خارطة الطريق العام 2003)، لتذليل عقبات التوصل إلى حل سياسي، أوصلت عملية السلام التي يرعاها الأميركان إلى طريق مسدود، مما دفع قيادة المنظمة إلى التوجه المؤسسات الدولية لمحاولة تحقيق هدفها بانتزاع دولة فلسطينية على حدود العام 1967. وبعدما أعلن ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل بات التوجه "الرسمي" لقيادة المنظمة هو التخلي عن الرعاية الأميركية لعملية السلام والبحث عن بدائل.

افتُتحت سفارة فلسطين في موسكو في العام 1988، وبدأ في العام 1995 عمل ممثلية روسيا الاتحادية لدى السلطة الوطنية الفلسطينية. حاولت روسيا لعب دور في الشرق الأوسط، من خلال تعيين مبعوث خاص لعملية السلام في الشرق الأوسط، وعضوية اللجنة الرباعية الدولية التي تشكلت في العام 2002، التي فقدت صلاحيتها نتيجة الهيمنة الأميركية على عملية التسوية، وعدم التجاوب الإسرائيلي.

لاقى الاهتمام الروسي تجاوبًا من قيادة منظمة التحرير، وظهر ذلك من خلال الزيارات المتكررة للرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى موسكو، في المقابل زار القادة الروس رام الله ثلاث مرات، حيث زارها الرئيس فلاديمير بوتين في نيسان 2005 وحزيران 2012، في حين زارها ديمتري ميدفيديف في العام 2011.[5]

تلاقى الاهتمام الروسي بالقضية الفلسطينية مع سعي قيادة منظمة التحرير للحصول على تأييد دولي لحل الدولتين، وسعيها لأن يكون لروسيا دور أكبر في عملية التسوية وفقًا لقرارات الشرعية الدولية وعضويتها في اللجنة الرباعية.

علاقة روسيا بحركة حماس

بدأت علاقة "حماس" بروسيا بشكل رسمي في العام 2005، وتخللها عقد لقاءات عدة على مستويات مختلفة، وتوجت باستقبال رئيس الوزراء الروسي، ديميتري ميدفيدف، في العام 2006 لوفد من الحركة بقيادة رئيس مكتبها السياسي السابق خالد مشعل في موسكو، ولقاء ثان أثناء تولي ميدفيدف للرئاسة في العام 2010 مع مشعل في دمشق بحضور الرئيس السوري بشار الأسد.[6]

دأبت حركة حماس على الإعلان بأن السبيل الوحيد للتخلص من الاحتلال هو انتهاج المقاومة، دون أن تغفل من حساباتها موازين القوى الدولية، وضرورة إقامة علاقات دولية تزيد من قدرتها على التأثير في مسارات الأحداث. إلا أنّ هذه المساعي بحسب، أسامة حمدان، مسؤول ملف العلاقات الخارجية في حركة حماس، قد اصطدمت باتهامها بالإرهاب، وبالثغرات التي تعتري خطابها وأداءها الإعلامي، علاوة على اشتراط الأطراف الدولية إعادة "حماس" النظر في موقفها من التسوية السياسية كشرط لبناء علاقة معها.[7]

وهذا يفسر إلى حد كبير بعض البنود الوارة في الوثيقة السياسية التي أطلقتها حركة حماس في العام 2017، التي تضمنت "لا تنازلَ عن أيّ جزء من أرض فلسطين، مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال. وترفض حماس أي بديلٍ عن تحرير فلسطين تحريرًا كاملًا، من نهرها إلى بحرها. ومع ذلك وبما لا يعني إطلاقًا الاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا التنازل عن أيٍّ من الحقوق الفلسطينية، فإن حماس تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران/ يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة".[8]

من الواضح أنّ أحد الأهداف الرئيسية لإصادر وثيقة حماس السياسية كان محاولة تغيير المواقف الدولية تجاه حماس، وهذا ما صرح به بشكل واضح مشعل في مقابلة صحفية مع وكالة "سي إن إن" بقوله: "ما ورد في وثيقة "حماس" يكفي لأي منصف في العالم، خاصة العواصم الدولية، أن يلتقط الفرصة وأن يتعامل بجدية معها ومع الفلسطينيين والعرب، وأن يضغط على الجانب الإسرائيلي".[9]

على الرغم من من المرونة التي أبدتها "حماس" إلا أنّ الولايات المتحدة أعلنت بأنّ الوثيقة لن تغير موقفها من حركة حماس، فيما أعلن أحد الناطقين باسم الاتحاد الأوروبي بأنّ الوثيقة لن تغير من موقف الاتحاد تجاه "حماس"؛ لكن هذه الوثيقة فرصة لتحقيق المصالحة الفلسطينية. أما الخارجية الروسية فقد أعلنت بأنّ المبادئ التي تضمنتها الوثيقة تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح.[10]

يتناغم الموقف الروسي مع طبيعة توجهه لبناء علاقة مع حركة حماس، عبر رفض تصنيفها كحركة "إرهابية"، وذلك كأحد المداخل للاستثمار في منطقة الشرق الأوسط، ولعب دور مركزي في المنطقة، من خلال الدفع بـ"حماس" نحو فكرة حلّ الدولتين، في محاولة من روسيا للإبقاء على علاقة مع جميع الأطراف في المنطقة، بمن فيهم "إسرائيل" التي تربطها بروسيا علاقات تجارية مميزة، إضافة إلى علاقة نامية في مجال التكنولوجيا العسكرية.[11]

علاقة روسيا بإسرائيل

تتسم العلاقات الإسرائيلية الروسية منذ العام 2000، في ظل حكم بوتين، بالمتانة والحرص على المصالح المشتركة، وذلك بعد أنّ تدهورت في أواخر التسعينيات في عهد رئيس الوزراء يفكيني بريماكوف، الذي اعتبر "منحازًا" للعرب.

وطّد بوتين العلاقة بين الدولتين في مجالات عدة، وعلى رأسها السياسي والعسكري والتكنولوجي، إذ تحسنت العلاقات الاقتصادية بين الدولتين بشكل لافت، لتصل إلى ما يقارب 3.5 مليار دولار في العام 2014، وبشكل أساسي في تجارة التكنولوجيا العالية في مجالات تتضمن تقنية النانو.

كما شهدت العلاقات العسكرية تحسنًا أيضًا. ففي أواخر العام 2015، ووفقًا لتقارير صحفية، باعت إسرائيل عشر طائرات استطلاع بدون طيار لروسيا، بالرغم من مخاوف إسرائيل بشأن العلاقات العسكرية والسياسية التي تجمع روسيا بإيران.

تعقدت العلاقة بين الطرفين مع التدخل الروسي في سوريا في أيلول 2015، مما دفع برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى عقد اجتماع مع بوتين في موسكو بتاريخ 21/9/2015. ويبدو أن ذلك الاجتماع قد هدّأ بعض المخاوف الإسرائيلية بشأن التدخل الروسي. ففي أعقاب الاجتماع، صرح نتنياهو بقوله: "في سوريا، حددتُ أهدافي، وهي حماية أمن شعبي وبلادي. لروسيا أهداف مختلفة. ولكنها لا ينبغي أن تتصادم مع أهداف إسرائيل".[12]

كشفت أزمة إسقاط الطائرة الروسية في العام 2018 أثناء شن الطائرات الإسرائيلية غارة على الأراضي السورية، عن طبيعة "التفاهمات" بين الطرفين، التي تتضمن: "التعهّد بإرجاع القوّات الإيرانية مسافة 100 كم عن الحدود؛ إعادة رفات جنود دُفنوا في سوريا؛ تمرير معلومات استخباريّة من الأراضيّ السوريّة للقوّات الإسرائيليّة؛ تنسيق عسكريّ متواصل، إضافة إلى السماح للقوّات الإسرائيليّة بالقصف شبه الحر في الأراضيّ السوريّة".[13]

على الرغم من تأزم العلاقات بعد إسقاط الطائرة الروسية إلا أنّ هذه الأزمة بين الطرفين لم تستمر طويلًا، واحتويت بشكل سريع لضمان تحقيق المصالح المشتركة المتمثلة بتحجيم الدور الإيراني في سوريا.

علاقة روسيا بالدول العربية والإقليم

أدى تهميش الخارجية الأميركية في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لدور الشركاء والحلفاء مثل تركيا والسعودية، إلى زيادة النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط على حساب الدول العربية، مما قاد إلى تغيير جذري في إستراتيجيات بعض الدول العربية والخليجية خاصة. فأصبح الانفتاح على دول جديدة ضروريًا لكسب حلفاء دوليين يعوضون التراجع الأميركي، مما وضع روسيا في مقدمة المرشحين لشغل هذا الدور، وذلك بهدف المحافظة على التوازن الإقليمي. في المقابل برزت حاجة روسية، عقب العقوبات الاقتصادية التي تعرضت لها وأدت لانخفاض أسعار النفط؛ إلى كسب شركاء اقتصاديين، وخصوصًا من الدول البترولية الخليجية، بهدف التنسيق لرفع أسعار النفط.

توافق ذلك مع رغبة الدول العربية في ملء الفراغ الذي أحدثه تراجع الدور الأميركي في المنطقة، حيث تعزز التعاون الاقتصادي العربي الروسي في بداية الدخول الروسي إلى سوريا، فوقّعت السعودية اتفاقيات بمئات ملايين الدولارات لكسب الدعم الروسي في مواجهة التمدد الإيراني بالمنطقة العربية، في مقابل الحفاظ على مصالح روسيا في سوريا. كما بدأت القيادة المصرية برئاسة عبد الفتاح السيسي في تمتين علاقاتها بروسيا بهدف تأكيد شرعية نظامه، وضمان حلفاء دوليين مؤثرين.

بالتزامن مع ذلك قامت دول عدة، كالكويت والأردن والبحرين والإمارات، بتوثيق علاقتها بروسيا[14]، فضلًا عن توطيد تركيا علاقتها بروسيا، وزادت من وتيرة التنسيق بين البلدين، وخصوصًا فيما يتعلق بالملف السوري، ناهيك عن الحلف القائم أصلًا بين إيران وروسيا.

الخلاصة

توجد فرصة سانحة لروسيا لإحداث تقدم في ملف المصالحة الفلسطينية، لكن لا يمكن الجزم بقدرتها على إحداث اختراق نوعي في هذا الملف، فذلك مرهون برغبة الأطراف المتصارعة (فتح وحماس)، ورضا الأطراف الإقليمية، مع الأخذ بعين الاعتبار عوامل القوة التي تملكها وعلاقاتها مع جميع الأطراف الفاعلة في المنطقة، بالإضافة إلى تراجع الدور الأميركي في المنطقة، بالاستناد إلى ما حصل في سوريا ونظرية اللاقطبية. مع ذلك لا يمكن تجاهل استمرار هيمنة أميركا على المنطقة، فحالة التخبط التي تعيشها السياسة الخارجية الأميركية في عصر ترامب لا تعني بالضرورة تقلص الدور الأميركي، فما زالت أميركا وحلفاؤها في المنطقة اللاعب الأساسي، ومن دون تنسيق معها أو مع حلفائها من الصعب التخيل أن تنجح أي قوة إقليمية أو دولية في تحقيق أي اختراق ملموس على صعيد ملف المصالحة الوطنية، وقد تؤول الوساطة الروسية إلى ما آلت إليه سابقًا في العام 2012، التي لم تتمخض عن شيء على أرض الواقع.

"مركز مسارات"

كلمات دلالية