لأحمد نصيبٌ من اسم عائلته

بالفيديو والصور "أبو جبل" وصل للقمة وترك أثره في "حي الشجاعية"

الساعة 06:27 م|12 فبراير 2019

فلسطين اليوم

كانت عقارب الساعة تُشير إلى الحادية عشر ظهراً، حين توجهت "أم محمد" بخطوات ثقيلة إلى غرفة نجلها أحمد وهي تشعر بخنقة في صدرها، فتحت باب غرفتهِ بحذر، أمسكت منشفته الخاصة، اغمضت عينيَّها، وضعت المنشفة على وجهها تمسح بها قطرات الماء، وفجأة قطع هدوءها سماع صوت شهيق نجلها أحمد، تسارعت دقات قلبها وبدأت تشعر بحرارة مرتفعة في جسدها، ركضت تجاه نافذة الغرفة لتجد حركة غريبة أمام المنزل، في تلك اللحظة أخبرها قلبها بأن روح فلذة كبدها صعدت إلى السماء.

تركت "أم محمد" الغرفة وبدأت تنادي بصوت متقطع على زوجها وأبنائها، "أخبروني كيف أصبح أحمد اليوم؟ هل فتح عينيه؟ هل استفاق من غيبوبته؟ هل سيعود إلى المنزل؟"، الصمت يُخيَّمُ على كل من يقف في المكان، فهي ذاتها الأسئلة التي يسمعها الأهل على مدار 5 أيام منذ إصابة أحمد برصاصة قناص إسرائيلي أثناء مشاركته في المسير البحري قرب شاطئ زكيم شمال قطاع غزة بتاريخ (29/1/2019).

مرت حوالي ساعة على مشهد "الأم المكلومة بفلذة كبدها" وحين جاء الخبر اليقين "أحمد أستشهد متأثراً بإصابته"، رفعت يدها إلى السماء وقالت "الحمد لله"، وأطلقت العنان للسانها يزغرد للشهيد، وبدأت النسوة يخففن من مصابها فوجدوا "أم محمد" صابرة متماسكة قوية، رافعة رأسها إلى عنان السماء مفتخرة بنجلها الشهيد.

ميلاد الشهيد

ولد الشهيد "أحمد غازي أبو جبل" عام (1989) في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، لم تسعفه الحياة لإكمال دراسته حيث توقف عن الدراسة في الاعدادية، ليساعد والده في توفير لقمة العيش، اشتغل في كثير من المهن، اتقن في النهاية مهنة الكهرباء المنزلي، "كان محبوباً ومخلصاً وكريماً، لم يكن في يوم من الأيام مادي" يقول والده "غازي".

ويضيف والده: "كان عطوفاً رحيماً شديداً عندما يتعلق الأمر بوالده أو بوطنه فكان يثور ويغضب، فمنذ صغره كان يُشارك في تشيَّع جثامين الشهداء، وفي يوم من الأيام في بداية انتفاضة عام 2000 ترك مدرسته وشارك في جنازة أحد الشهداء وقادته قدماه للسير مشياً على الأقدام من حي الشجاعية إلى جباليا شمال القطاع"

أحمد المحبوب في عائلته ولكل من اقترب منه، لم يعرف طعماً للراحة، ولم يترك يوماً من مسيرة العودة وكسر الحصار إلا وشارك فيه وخاصة ضمن وحدات الإرباك الليلي.

هدية لا تُنسى

قبل يومٍ من إصابته، توجه أحمد باكراً على غير عادته إلى السوق واشترى كل ما يلزم من أدوات للمطبخ لشقيقته التي يعتني بها جيداً في ظل غياب زوجها، وفي نفس الوقت لم ينسِ أمه واشترى هدية لوالدته، وعاد إلى البيت وكله أملاً وفرحاً وسعادةً، وضع بضاعته على (المجلى)، واتصل على الفور بوالدته التي كانت مشغولة في الحصول على تقارير طبية من مستشفى الشفاء، وأصرًّ أحمد على أن تعود والدته بسرعة لترى المفاجأة التي جهزها تعبيراً عن حبه لـ"ست الكل"، سعادة الأم في ذاك اليوم ليست لها حدود، ودعت لنجلها بالحياة والصحة والعافية.

وعن سبب أدوات المطبخ التي اشتراها أحمد قالت والدته: "في كل يوم تقريباً يأخذ مما أصنع من الطعام لأصدقائه وأحبابه في الحيَّ، ويعود إلى البيت بدون الصحون والملاعق والزبادي الفخارية، وهكذا كان سبباً في فقداني الكثير من الأواني، فهو محب وحنون وكريم وكل أهل الحيَّ لهم قصصٌ وحكايات عن حسن الضيافة والتعامل معهم".

وبعد ساعات من السعادة التي أدخلها أحمد إلى قلب أمه صباح يوم الاثنين، عاد مشهد الخوف والقلق إلى قلبها في المساء، كانت الشمس قد غابت وحل الظلام، وجلس أحمد ومن في البيت يتسامرون، إلى أن بدأ جرس هاتفه يدق ويفصله مرة تلو الأخرى، دخل الشك إلى قلب والدته ومع كل جرس للهاف كان قلب "أم محمد" يتسارع بشكل كبير لأنها أيقنت بأن نجلها أحمد لا يريد أن نعرف بما ينوي عليه.

غادر أحمد البيت وترك والدته تعيش حالة من القلق، وفجأة ظهر أحمد ليُعيد الحياة إلى قلب والدته ولتخلد إلى النوم بكل هدوء.

وجبة الافطار الأخيرة

وفي صباح يوم الثلاثاء استفاق أحمد باكراً وطلب من والدته وجبته المفضلة (البطاطس مصنوعة كالشبس)، وبعد أن أشبع عينيه من والدته غادر أحمد البيت في ساعات الظهيرة، وتناول كأساً من القهوة عند شقيقته، وبعد ذلك توجه إلى ما يصبوا اليه، صعد الحافلة التي تقل الثوار، وبدأ يدب فيهم الحماس والقوة رافعاً أصابع السبابة إلى السماء.

تقدم أحمد صفوف الشبان بخطوة متسارعة تجاه موقع زكيم على شاطئ بحر شمال قطاع غزة، وفي ذاك الوقت كانت قوات الاحتلال تطلق الرصاص بشكل عشوائي إضافة إلى إطلاق وابلٍ من قنابل الغاز لحجب الرؤية ولمنع اقتراب المسعفين من أي شخص مصاب، لتزيد حالة المصابين سوءً.

وبعد انحسار غيمة الدخان الأبيض الذي تسببت بها قنابل الغاز الإسرائيلية، اكتشف المواطنون إصابة أحمد في قدميه، كان مغمى عليه واستمرت غيبوبته إلى الأبد بعد أن مكث في مستشفى الشفاء بغزة لمدة 5 أيام متتالية على أمل انقاذ حياته.

قلبها يخبرها بالحدث

في تلك اللحظات كانت والدة أحمد تعيش حالة من القلق، ودقات قلبها تخفق سريعاً، حتى أن ابنتها لاحظت أن أمها "ليست طبيعية"، مع هدوء الأم المضطرب بدأ هاتفها يرن، سأل المطلب عن زوجها وأبنائها وعن أسباب عدم ردودهم على الجوال، زد قلقها، وما هي إلى دقائق حتى انتشر خبر إصابة أحمد، ارتدت ملابسها بسرعة ووصلت إلى الشارع بشكل مضطرب وجدت أبنائها في إحدى المركبات، وطمأنوها بأن أحمد بخير إلا أن قلبها يقول غير ذلك.

وصلت "أم محمد" إلى المستشفى وكلها أمل بأن تحتضن أحمد وتقبله، لكنها منعت من الدخل إليه لأنه في حالة صعبة ويحتاج إلى وحدات كثيرة من الدماء، قائلة: "وضعوا لأحمد أكثر من 40 وحدة دم حتى أن أحبابه في الشجاعية وصلوا عبر الباصات للتبرع له بالدم لكنها إرادة الله والحمد الله على كل حال".

بقي أحمد 5 أيام في مستشفى الشفاء يتلقى العلاج، وأهله في خارج أسوار المستشفى يحاولون قدر المستطاع إخراجه إلى الأراضي المحتلة، لكن أحمد قطع عليهم المسافات وغادر بروحه الطاهرة إلى ربها متمنياً أن تحيا أمه وعائلته الصغيرة، ووطنه الكبير بأمن وسلام وأن يعود الحق إلى أهله.

ويشارك الفلسطينيون من الـ 30 مارس/ آذار 2018 في مسيرات سلمية، قرب السياج الأمني بين قطاع غزة والأراضي المحتلة عام 1948، للمطالبة بعودة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم التي هُجروا منها، وكسر الحصار عن القطاع.

وأدى قمع الاحتلال الدموي للمشاركين في مسيرات العودة لارتقاء نحو 262 شهيدًا، وإصابة نحو 26 ألفًا، أكثر من مائة منهم أصيبوا ببتر في أطرافهم.

٢٠١٩٠٢٠٩_١٨٢٧٠٢
٢٠١٩٠٢٠٩_١٨٢٧٤١
الشهيد أحمد أبو جبل


 

كلمات دلالية