ليس نصرالله ذاته- معاريف

الساعة 07:20 م|01 فبراير 2019

فلسطين اليوم

بقلم: جاكي خوجي

غزة، وبني غانتس، والانقاذ في البرازيل، ومسائل مشتعلة اخرى محت من الوعي المقابلة الاولى مع حسن نصرالله منذ كشف انفاق حزب الله. فقد أجاب نصرالله لجمهوره كل ما وفره عليه في الشهرين اللذين غاب فيهما عن الشاشة، بل وقدم تفسيرا لصمته. "عرفت ان الاسرائيليين في حملة اعلامية"، قال في بداية حديثه، "وهم يريدون أن يجروني اليها، فقررت الا أرد".

أما السبب الحقيقي فعرفناه بعد ذلك. ليس لنصرالله جواب قاطع على ضياع الانفاق. ومع ذلك فقد كان النقاش فيها قليل القيمة. إذ ليس هاما كيف سيرد نصرالله وأي كلمات متفرجة سيجندها الطرفان لصالحهما. الاهم هو ما الذي سيفعلاه.

ثلاث ساعات وربع استغرقت المقابلة في القناة اللبنانية "الميادين"، ونصرالله استعد لها طويلا. وأعد صفحة الرسائل لنفسه مسبقا، وكذا بعض من التعابير أو الجمل التي استخدمها. فقد أظهر اطلاعا على أسماء كبار المسؤولين في اسرائيل، واثبت أنه يتابع الخطاب الجماهيري هناك. صحيح أنه لا يشاهد قنواتنا التلفزيونية، مثل صديقه المتحدث بالعبرية يحيى السنوار، ولكنه مزود جيدا بالمعلومات اللازمة.

ثلاث ساعات وربع، ولا توجد لحظة واحدة تبعث على السأم. لغة نصرالله غنية، حديثه مليء بالتفاصيل، وله سحر شخصي. فهو يعرف كيف يسيطر على مستوى الصوت. يرتفع ويهبط حيثما ينبغي، بالنبرات الصحيحة، ولا يتعب السامع. لديه حس دعابة متطور وقدرة هزء لاذعة. رجال القانون كانوا سيقولون، كاشارة تقدير انه مفوه. في وسعه أن يفكك مسألة ما الى عناصرها ويضع امام السامع جملة من الحجج المقنعة. يوجد فقط زعيم واحد في المنطقة مزود ايضا بهذه المزايا حين يريد. اعداد جذري، خطابية ناعمة على الاذن ومستوى حجج عالية. واسمه بنيامين نتنياهو.

ورغم كل شيء، هذه المرة رأينا نصرالله آخر. تعب وشبع من الحروب. وبرقة تلميحية صد الصحافي المنبطح، الذي يرى فيه كلي القدرة وحاول ان ينتزع منه تصريحات كفاحية. من فوق رأسه كانت معلقة على الحائط لوحة وفيها بضع كلمات من الاية 46 من سورة الحجر في القرآن. لدى نصرالله ولدى اسياده الايرانيين، لا يظهر شيء دون قصد. وبالتأكيد ليس آية عظيمة المعنى من الكتاب المقدس. في سورة الحجر يجري الله بجلالة عظمته بحثا في الاجر والعقاب. فالسائرون خلف الشيطان يعدهم بجهنم، ولمن يخافون السموات – جنة عدن. "ادخلوها بسلام آمنين". كان هذا الجزب من الآية معلقا هناك حيثما اجريت المقابلة. لدى الشيعة، فان عبارة "ادخلوها بسلام آمنين" هو اعلان الرغبة في السلام وفي السكينة. وهي تقال بشكل خاص في اوقات الاضطراب، حين يطلب المؤمن لنفسه الهدوء. والشيعي الذي يتبنى هذه العبارة يقول: "اتركني واتركك".

لا ينبغي أن نستنتج من ذلك ان نصرالله يعرض على اسرائيل اتفاق سلام. ولكن المقابلة كلها، الى جانب هذه اللوحة البريئة ظاهرا، تستدعي نظرة اخرى. يحتمل أن يكون زعيم حزب الله يميل لان يترك مؤقتا عادته في استفزاز اسرائيل. ولكن يحتمل أن يكون يقترح اكثر من ذلك. مثلا وقف نار غير معلن.

نصرالله لا يمكنه، وربما لا يريد، أن ينزل من الشجرة في يوم واحد. اذا ابدى فجأة اعتدالا، بينما تواظب اسرائيل تهديداتها عليه، فانه سيشتبه به بالوهن. وعليه، وفي احيان فقط، كان هذا نصرالله اياه الذي عرفناه. فقد ذكر بان في وسعه ان يغطي اسرائيل كلها بالصواريخ. وأكد ان لدى رجاله خطة لاحتلال اجزاء من الجليل. وعلى عادته واصل وحاول دق اسفين بين مواطني اسرائيل وزعمائهم. في الماضي سجل في ذلك نجاحا. ولكن عقيدته تقادمت، ونحن أيضا تعبنا قليلا. انتم، يا مواطني اسرائيل، قال، من الافضل لكم ان تقولوا لنتنياهو الا يمس بصواريخنا الدقيقة. وهو يقصد تلك الصواريخ المتقدمة، القادرة على ان تضرب بمسافة عشرة امتار عن الهدف. تدعي اسرائيل أنها دمرت هذه الوسائل التي حاول حزب الله تطويرها بسلسلة هجمات ذكية. وتلوى نصرالله على عادته: صاروخ دقيق يطلق نحو قاعدة عسكرية، كما ادعى، سيمس بها فقط. ولكن صاروخا غير دقيق يطلق اليها، سيفوت الهدف ويمس بحي مجاور. والاستنتاج، كما فرح، من الافضل لكم، ايها الاسرائيليون الاعزاء، ان نحوز صواريخ دقيقة.

وفي تباهٍ بقدراته العسكرية لا يوجد الكثير من الجديد. هذه استراتيجية تبناها نصرالله قبل سنوات، كي يخلق احساسا بميزان رعب تجاه اسرائيل. الجديد هو نبرة، ونبرته في المقابلة نزلت عدة درجات عما عرفناه. نحن لا نريد حربا، هو يقول، والوسائل العسكرية التي بحوزتنا هي جزء من خطة دفاعية. زملائي في الاعلام بلغوا انه هدد بمهاجمة تل أبيب. هذا ليس دقيقا. الصحافي، غسان بن جدو، المحبوب لنصرالله، نزع منه هذا التعبير. فقد سأله، هل تل أبيب واردة. فتلوى مرة اخرى وقال "عند وقوع الحدث، كل شيء ممكن". ذات مرة كان يرد بالايجاب على الفور. اما اليوم فهو يخشى من التعهد. فهو يعرف ان هجوما على غوش دان من شأنه ان يوقع عليه مشكلة. نحو ساعة تحدث الاثنان عن كشف الانفاق وآثاره. سعى نصرالله من أن يقلل من قيمة الانجاز الاسرائيلي. بداية قال انها قديمة جدا (واحد منها على حد قوله، حفر قبل 13 سنة). هذه حجة ضعيفة، استخدمتها حماس قبله بعد أن انكشفت الانفاق في القطاع. وعلى حد نهجه توجد طرق اخرى لاحتلال مناطق من الجليل، والانفاق ليست الطريق الوحيد. بعد ذلك لذع نتنياهو على كشفه ان حزب الله خطط لاجتياح الجليل عبر الانفاق. فقال: "لقد ادخل الخوف والرعب في قلب كل المستوطنين في شمال فلسطين المحتلة (سكان الجليل). وهكذا منحنا خدمة جيدة في الحرب النفسية.

وهكذا واصل زعيم حزب الله بسط حجج الدفاع، والسامع يتساءل بينه وبين نفسه لماذا يشعر زعيم واثق جدا بنفسه بحاجة لان يدافع عن نفسه بلا انقطاع. فلو كان يرى في كشف الانفاق موضوعا يؤبه له فمن المتوقع منه أن يحل المسألة ببضعة اقوال واثقة ويواصل الى الامام. ولكن كلما اجتهد بان يري بانه لا يأبه، كشف انه يأبه جدا.

ولا كلمة عن كوخافي

كان مشوقا ان نسمعه يذكر آيزنكوت المرة تلو الاخرى، رغم ان رئيس الاركان الـ 21 لم يعد في المنصب. ولم يذكر اسم كوخافي حتى ولا مرة واحدة. ولكنه وجه له التعبير الاهم. كان هذا هو تحذير من مواصلة الهجمات الاسرائيلية في سوريا. "في وقت ما ربما يتخذ قرار بمعالجة مختلفة للهجمات الاسرائيلية في سوريا"، قال نصرالله. في وقت ما؟ ربما؟ أن نصرالله مع الخطابات الملتهبة، مع التهديدات المباشرة، مع الثقة بالذات التي لا تهتز. ما الذي يمنعه من ان يقول في واقع الامر انه من الان فصاعدا ستعالج هذه الهجمات بشكل مختلف. وعندها سـأله الصحافي هل ستهاجمون تل ابيب؟ فأجاب نصرالله بما أجاب.

لقد كانت هذه المقابلة بدأت بتصريحات الصحة ("لا اعاني من اي مشكلة صحية") وانتهت بالكيلوغرامات الزائدة ("كنت نشيطا، وفقدت من وزني"). وعلى عادة نصرالله فانه يتوجه الى ثلاث جهات. الى الجيش الاسرائيلي، الى مواطني اسرائيل والى سكان لبنان. واحيانا يتحدث ايضا الى الدول العربية او الى القوى العظمى الغربية. اما في منتهى السبت ففعل هذا بقدر أقل. للجميع قال هذه المرة، الحرب – ليس الان.

نحو ثلاثة عقود وهو يترأس المنظمة الشرق اوسطية الاكثر كرها من الانظمة والدول. مكروهة من اليهود، العرب والعواصم في الغرب. اذا اعتقدتم ان كل العالم ضدنا، نحن دولة اسرائيل، فجروا ان تكونوا للحظة حسن نصرالله. مشكوك ان يكون شهد يوما واحدا من الراحة في حياته. خرج من معركة واحدة فوجد نفسه في اخرى. معظم رفاقه في الطريق فقدهم. وحتى ابنه. مواجهاته ليست نزاعات حدود. هي حروب وجود. من المفاجيء ان الموت لم ينله.

"قبل بضعة اسابيع دخلت الى سنة حياتي الستين"، ذكر نصرالله في بداية المقابلة. وفي السنوات الاخيرة أصبح جدا. اذا ما اضطر الى أن يخرج الى معركة اخرى، فسيعرف كيف يفعل ذلك. ولكن زعيم حزب الله في المقابلة مع قناة "الميادين" لم يبحث عن النار والكبريت. اراد اساسا ان يعود الى الديار بسلام.

كلمات دلالية