خبر مشاهد من المعارك على تخوم غزة ..« أطفال الحجارة » كبروا مع ثقافة المقاومة ليحملوا قاذفات الدروع

الساعة 02:25 م|17 يناير 2009

فلسطين اليوم - عبد الغني الشامي

المشهد هو ذاته، والشوارع لم تتغير، والشباب هم أنفسهم، والعدو هو العدو بعينه، لكنّ الزمن والأدوات هي التي تغيّرت في مواجهة هذا الاحتلال، الذي صعّد من عدوانه على قطاع غزة في عملية عسكرية تعتبر الأكبر التي تجري على الأرض الفلسطينية في التاريخ الحديث.

 

فرجال المقاومة الذين يتصدّون هذه الأيام لتلك الدبابات المحتشدة في أطراف مدينة غزة، مستخدمين قذائف "آر بي جي" المضادة للدروع والعبوات الناسفة، هم ذاتهم من وقف تلك الوقفة لتلك القوات قبل أكثر من عشرين عاماً، وهم يحملون الحجارة مع اندلاع "الانتفاضة الشعبية" نهاية عام 1987. وقد تطوّرات أدوات تلك الانتفاضة من الحجر والمقلاع البدائي، إلى الزجاجات الفارغة فالحارقة، وصولاً إلى قطع الأسلحة البيضاء والفردية، حتى بلغ الأمر العمليات الاستشهادية.

 

جيل الحجارة يحمل قاذفات الدروع

 

هؤلاء المقاومون الذي يقفون هذه الأيام في مواجهة الدبابات المصنّفة على أنها الأكثر تحصيناً في العالم، وهم يحملون قاذفات "آر بي جي"، ويزرعون العبوات الناسفة، لم ينسوا على الأرجح أنهم وقفوا هذه الوقفة قبل أكثر من عقدين. كان الأطفال والصبية، يحملون وقتها الحجارة والزجاجات الحارقة، وتطوّرت معهم الحالة عاماً بعد عام إلى أن اضطر الجيش الإسرائيلي للإنسحاب من التجمعات السكانية بقطاع غزة عام 2004، بعد أن قدمت انتفاضة الحجارة ألف شهيد على مدى سبع سنوات.

 

لكن الألف شهيد اليوم قدمهم الشعب الفلسطيني خلال عشرين يوماً فقط من العدوان الإسرائيلي، ولازال يقاوم بوسائل قتالية متواضعة للغاية، من بنادق وقذائف وعبوات ناسفة وصواريخ. لكنّ جسامة التضحيات لم تدفع هؤلاء المقاومين وشعبهم الفلسطيني لرفع الرايات البيضاء، رغم ما تعرّضوا له من ضربات مكثفة ومركزة يقدِّر الخبراء أنّها كانت كفيلة بإخضاع أي جيش نظامي في المنطقة، أو أي شعب من الشعوب.

 

على بضعة تمرات وقليل من الماء، يواصل هؤلاء المقاومون تصديهم لتلك القوات الغازية، ويكبدونها الخسائر الكبيرة التي تتكتم عليها القيادة العسكرية الإسرائيلية. يعجز الجيش الإسرائيلي عن التقدم، بدباباته وآلياته المعززة بغطاء من النيران الجوية والقذائف المدفعية والحمم اللاهبة التي تقذفها الزوارق البحرية. فمراكز المدن والمخيمات وحتى البلدات تستعصي على القوات الإسرائيلية، بينما لا يكتفي المقاومون بإعاقة التقدم بل ويخططون لشنّ عمليات منظّمة تستهدف جيش الاحتلال خلف خطوطه ذاتها.

 

ثقافة مقاومة .. من المجتمع إلى الميدان

 

هو مشهد ما كان ليتشكل في قطاع غزة دون أن يكون هؤلاء المقاومون ثمرة لثقافة المقاومة التي تشرّبها الشعب الفلسطيني على مدار أجيال طويلة، نشأت ابتداء في واقع هزيمة الدول العربية سنة 1967. فمن بين آلام الهزيمة انبعثت روح من التحدي والمواجهة، جماهيرياً وميدانياً، كانت من أبرز محطاتها "انتفاضة الحجارة" و"انتفاضة الأقصى".

 

ترجمت ثقافة المقاومة ذاتها على الأرض بصور متعددة لم تقتصر على الأداء الميداني للمقاومين، بل انعكست في الأساس على حالة من الاحتضان الشعبي الدافئ للمقاومة والمقاومين. ويكفي أنّ الأمهات يشجعن أبناءهم على المشاركة في القتال ضد الاحتلال، ويستقبلن أنباء استشهادهم برحابة صدر. وبهذا فإنّ مشهد الوقوف أمام الدبابة وجهاً لوجه، ليمنعها المقاوم من التقدم بقليل من العتاد دون خوف أو تراجع، يختزن الكثير من الثقافة المجتمعية الداعمة له.

 

فمن شاهد هؤلاء الرجال وهم يتحركون على الأرض، وطائرات الاستطلاع ترصد تلك التحركات وترسلها لغرف التحكم للمخابرات الإسرائيلية لتبلغ راكب الدبابة بهذه التحركات، وقصفهم مراراً وتكراراً، قد يتخيّل للوهلة الأولى أنّ من يقاوم على الأرض ليسوا بشراً، من فرط الصلابة التي يتمتعون بها، والتي لم تفلح أعتى الصواريخ والقذائف الإسرائيلية في تبديدها أو زعزعتها.

 

معركتا الصبرة وتل الهوا

 

وقال شهود عيان، إنه وأمام القصف المركز والمكثف بطائرات "إف 16" على المنطقة المسماة "الدحاديح" جنوبي مدينة غزة، فجر الخميس (15/1)، "كنا نعتقد أنّ الدبابات في تلك المنطقة ستدخل حي الصبرة المحاذي لها بسهولة، لا سيما وأنّ سكان المنطقة الجنوبية لهذا الحي قد نزحوا من قوّة القصف؛ إلاّ أنه وبعدما حاولت تلك الدبابات التقدم بعد هذا القصف فوجئت بخروج عشرات المقاتلين لها، فأمطروها بقذائف "آر بي جي" وفجّروا ألغاماً وعبوات ناسفة فيها".

 

وأضاف الشهود ، "بعد ذلك ما كان من الطائرات والدبابات إلاّ وأن قامت بقصف عشوائي ومركّز على منازل الفلسطينيين في تلك المنطقة بشكل جنوني، إلاّ أنّ ذلك لم يمنع رجال المقاومة من أن يظلوا في مواقعهم ويمنعوا تلك الدبابات من دخول هذا الحي، لاسيما منطقة المجمع الإسلامي"، التي يوجد فيه بيت الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة "حماس"، الذي اغتاله الطيران الحربي الإسرائيلي بقصف صاروخي دامٍ على كرسيه المتحرك قبل سنوات.

 

وإزاء شراسة المقاومة في المنطقة المستهدفة، رغم الغارات الإسرائيلية المكثفة، غيّرت تلك الدبابات طريقها لتنحو باتجاه الغرب بدلا من الشمال، لتجد لها ثغرة ضعيفة لعلها تدخل منها إلى أي طرف من أطراف الأحياء السكنية، لعل القيادة الإسرائيلية تقول "ها قد دخلنا غزة"، لتضعف موقف المفاوض الفلسطيني في القاهرة. فكان حي تل الهوا، المعروف باسم تل الإسلام، جنوب غربي مدينة غزة في طريق تلك القوات.

 

لم تكن نزهة للجيش الإسرائيلي

 

ظنت قيادة الجيش الإسرائيلي، على الأرجح، أنّ دخول تل الهوا، سيكون سهلاً، لتُفاجأ بقوة من المقاومة لا تقل ضراوة عن تلك القوة التي جوبهت بها على مدخل حي الصبرة، لتخوض المقاومة معها معركة ثانية أكثر قوة من معركة الصبرة. إلاّ أنّ القوات الإسرائيلية استسهلت استهداف الأبراج السكنية في هذا الحي بالقصف العشوائي، بل واستخدمت سكانه كدروع بشرية من أجل الضغط على المقاومة والتقدم فيه، حيث تمكنت من التمركز في أطرافه بعد تدمير وإعطاب عدد كبير من آلياتها، حسب تأكيدات شهود عيان.

 

لم تنته المعركة عند هذا الحد. فتمركز تلك الدبابات على أطراف ذلك الحي جعلها صيداً سهلاً لرجال المقاومة، الذين وحسب شهود عيان لم يكن يفصلهم عن الدبابات سوى أمتار قليلة، حيث عمدت تلك القوات إلى اتباع سياسة الأرض المحروقة في هذا الحي، بما في ذلك قصف المقر الرئيس لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، التابعة للأمم المتحدة، وتدمير مخازن التموين في مستودعاتها، وذلك قبل انسحابها صباح الجمعة، بعدما تلقت ضربات موجعة فيه وسحبت آلياتها المدمّرة.

 

مقاوم يتحدث

 

وقال أحد المقاومين ، "إنّ محاولة قوات الاحتلال التقدّم باتجاه حي الصبرة وتل الهوا كنا نتوقعه، وقد أعددنا له العدة، واتبعنا خلاله عدة تكتيكات من أجل صدِّه، مع علمنا بالغطاء الجوي للقوات البرية" الإسرائيلية المتوغلة.

 

وأضاف المقاوم موضحاً "كانت قذائف الطائرات تهطل علينا كالمطر، وكنا نتنقل بينها بكل خفة بعد رعاية الله، ولكن بمجرد توقف تلك الغارات للحظة واحدة كنّا نتقدم ونضرب، ولا ننتظر الدبابات للتقدم تجاهنا".

 

وتابع المقاوم "ليس سراً أنّ إشعالنا للإطارات المطاطية هو من أجل تضليل طائرات الاستطلاع التي ترصد كلّ تحرك على الأرض، لكن رغم أخذنا الحذر من الطائرات إلاّ أنّ أعيننا هي تجاه تلك الدبابات، لاصطيادها بقذائفنا وألغامنا".

 

وأشار المقاوم إلى أنّ رجال المقاومة تمكّنوا من تدمير وإعطاب عدد كبير من الدبابات لآليات الاحتلال، وأنّ قتلى وجرحى كثر من جنود الجيش الإسرائيلي سقطوا في معركة الصبرة وتل الهوا، بل إنّ بعض الجنود ظلّوا يحترقون داخل آلياتهم، حتى تمكنت الدبابات من الوصول إليهم وسحبهم بعد أن تحوّلوا إلى أشلاء وجثث متفحمة.

 

ولدى سؤاله "هل شاركت في انتفاضة الحجارة عام 1987"، قال ذلك المقاوم "لو أننا لم نُلْقِ الحجارة في تلك الانتفاضة لما تمكنّا من حمل "آر بي جي" اليوم أو تصدينا لتلك الدبابات"، حسب تأكيده.