"علمٌ" و"حلوى" و"ذكريات" هذا كل ما تبقى..

بالصور "طارت مثل الفراشة".. آخ يا وجع القلب يمَّا!

الساعة 02:25 م|15 يناير 2019

فلسطين اليوم

عقاربُ الساعة تشير إلى الرابعة والنصف مساءً، تُقلبُ المُسِنة حليمة مؤشر مذياعها القديم بحثًا عن محطةٍ تعرضُ أخباراً بوتيرة سريعة للمجريات الميدانية لأحداث مسيرة العودة، وضعتْ المذياع بجانب أذنها اليسرى، لحظات ويتسلل إلى مسمعها خبرٌ مفاده استشهاد سيدة مجهولة الهوية بالأربعينات من العمر شرق مدينة غزة، قلب الأم أجاب سريعاً "إنها أمل..".

الأم المُقعدة تترك المذياع جانباً، وتنادي على أولادها بأسمائهم والدموع تتساقط على وجنتيها "أختكم شهيدة يمَّا.. والله أختكم شهيدة"، أرجاء البيت تهتز من هول الخبر، لكن لا أحد يريد أن يسمع أن "أمل استشهدت"، ينظرون في عيون بعضهم البعض، عيونهم تدور كالَّذي يُغْشَى عَلَيْه منَ الْموت، السنتهم تتجمد، ومن ثم يقررون "مش معقولة.. خلينا نتأكد"، لحظات ويأتي الخبر اليقين وينادي المنادي "أمل استشهدت..".

السبعينية حليمة الترامسي تروي تفاصيل يوم الجمعة المتشحُ بالسواد الذي بدأ بابتسامة أمل في وجهِ أُمِهَا وعيناها تشعُ نوراً قائلةً "يمَّا بدي أطير طير على مسيرات العودة.. خايفة حدا يسبقني"، تردُ الأم على ابنتها "يمَّا ديري بالك على حالك"، نظرت لأمها ويداها مشغولتان في ترتيب حقيبتها السوداء التي انتفختْ من علمٍ تحرصُ على حمله في كلِ مرةٍ إلى جانب معدات إسعاف أولية قائلةً "اللي كاتبه ربنا بصير يمَّا..!"، تتبع ذلك بانحناءة ظهرٍ بسيطة وتطبع قبلة على جبين أُمها، انهت الأم رواية المشهد بتنهيدة طويلة، قالت بعدها "طارت زي الفراشة.. آخ يا وجع القلب يمَّا".

تخرجُ أمل الترامسي (43 عاماً) من غرفة والدتها التي تجلسُ على سريرها الخشبي؛ لكنَّ عيون البنت "الحنونة" ترقبُ عيون والدتها وعيون الأخيرة تشدُ ابنتها شداً، شعورٌ غريب سيْطَرَ على البنت وأمها.. إنه المشهد الأخير يا سادة.

بعد صلاة العصر مباشرة، خرجت أمل بخطى مسرعة نحو حافلات النقل المجاني لحشود المشاركين في مسيرات العودة، وأخيراً وصلتْ الحافلة، جلست في مقعد متقدم مع قريناتها، كالعادة أخذت تثير الحماس في نفوس الركاب، وصلتْ الحافلة إلى منطقة (ملكة) حيث خيام العودة، ذلك المكان الذي ترتاح له نفس أمل المُهجرة من قرية (هربيا) التي تبعد عنها 15 كم.

تفتح أمل حقيبتها وتخرج "علم فلسطين" وتنجح في تثبيته على قضيبٍ خشبيٍ رغم شدة الرياح التي كانت تأخذه يميناً ويساراً، لم تأبه أمل كثيراً كغيرها من المشاركين في مسيرات العودة لسوء الأحوال الجوية، إذ كان همَّها الوحيد أحوال فلسطين المحتلة وطرد الغزاة "من إناء الزهور وحبل الغسيل" كما قال درويش في قصيدة الأرض.

تجمعت عصبةٌ من النساء بينهنَّ أمل وأخذن يتقدمنَّ الصفوف جنباً إلى جنبٍ مع الرجال، وأخذت أمل تُلوِحُ بعلم فلسطين، وتثير حماسة كل من في المكان، تضحك إحدى قريناتها وتقول لها "ما اقواكي يا أمل"، تجيبها "بعدين بنحكي ما في وقت للكلام"، على الجانب الآخر بالقرب من السياج العازل يختبئ قناصة من جيش الاحتلال الإسرائيلي خلف تلةٍ رملية.

لم تستطع قناصة الاحتلال كتم حجم الحقد تجاه المشاركين في مسيرات العودة، وعلى ما يبدو أنَّ مشهد مشاركة امرأة بقوة وإصرار أمل أغاظهم كثيراً، يضعُ جنديٌ حاقد عينه اليمنى على منظار بندقيته يغمض عينه اليسرى ويبدأ في عصرِ زناد بندقيته ويطلقُ رصاصة حاقدة؛ التي بدورها فجَّرت رأس أمل، تهاوى جسدها وظلت تقبض على علم بلادها.

صرخت النسوة ألماً على أمل، وحملها الشباب وهي مضرجةٌ بدمائها، وأصبح كلُ من في المكان يصرخ "استشهدت امل .. استشهدت أمل"، بكى عليها من في المكان، وكانوا يعرفونها من مشاركتها الدائمة في المسيرات، إذ لم يمرّ يوما الجمعة والإثنين من كلِّ أسبوع إلا وكانت أمل حاضرة، تساعد الشباب، وتقدّم الإسعافات والماء لمن احتاج.

حان موعد الوداع الأخير.. أصوات الزغاريد تنطلق مجلجلة من حنجرة والدتها وشقيقاتها الستة ومن شرفات المنازل المجاورة فور رؤية جثمانها المغطى بعلم فلسطين الذي يحتضنها وتحتضنه، والدتها فور أنْ طلت أمل برأسها المخضب بالدماء، بكت بُكاءً حَارّاً "أمل شهيدة.. راحت عامود البيت"؛ إذ كانت سند والدتها المريضة في بيتها، ورفيقتها حين تذهب إلى قسم غسيل الكلى بمشفى الشفاء لإجراء عملية الغسيل الكلوي.

المُصاب الجلل لم يُنسِ والدة الشهيدة حواراً دار بين ابنتها وشقيقها قبل يومين من استشهادها، حين قالت لشقيقها "إنها ستستشهد في مسيرات العودة، لكنه لم يُعر كلامها اهتمامًا وقتها ظنًا منه أنها تخاطبه بمزاح"، واستذكرت كيف أن أمل قبل أسبوع من استشهادها "تزحلقتْ خلال المسيرة، ورجعت على البيت دون حذاء.. مشيت حافيّة كل الطريق يا قلبي يمَّا".

لم تستطع الوالدة المكلومة أن تخفي دموعَ حسرتها على ابنتها، قائلة "البيت فقد عمودًا وركنًا أساسيًّا.. كانت أمل تمازح الجميع وتحبهم، وسندًا وعونًا لي في مرضي؛ قدر الله وما شاء فعل.. الحياة بدون أمل لا تطاق هي البنت والاخت والام والصديقة، لم تكن مجرد ابنة بل كانت عبارة عن أم ثانية لكل أخوتها وأخواتها".

وتستذكر الأم كيف أنَّ أمل شعرت بقرب أجلها؛ إذ ودَّعت جميع اشقائها وشقيقاتها قبل استشهادها بيومين "كانت محبوبة من الجميع، لم أذكر يوماً انها أخطأت بحق أي فرد من أفراد العائلة أو جيرانها أو صديقاتها، عزاؤنا أنَّ ابنتي رحلت شهيدة وهي تدافع عن ثرى فلسطين".

رحلت أمل، وتركت خلفها علم بلادها الذي ظلتْ تقبض عليها لحظة استشهادها، وحلوى حقيبتها التي سيشتاق لها أطفال حيِّها، وشقيقاتها الستة، ووالدتها المريضة من سيرافقها ويطبطب عليها بقسم الغسيل الكلوي بعد الآن؟!، طارت أمل كما تمنت نحو مبتغاها دفاعاً عن ثرى فلسطين، لكن أمل فجَّرت ينابيع أمل بالعودة إلى "الديار".

ويشارك الفلسطينيون من الـ 30 مارس/ آذار 2018 في مسيرات سلمية، قرب السياج الأمني بين قطاع غزة والأراضي المحتلة عام 1948، للمطالبة بعودة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم التي هُجروا منها، وكسر الحصار عن القطاع.

وأدى قمع الاحتلال الدموي للمشاركين في مسيرات العودة لارتقاء نحو 262 شهيدًا، وإصابة نحو 26 ألفًا، أكثر من مائة منهم أصيبوا ببتر في أطرافهم.

أمل الترامسي
الشهيدة أمل الترامسي (11)
الشهيدة أمل الترامسي (10)
الشهيدة أمل الترامسي (9)
الشهيدة أمل الترامسي (7)
الشهيدة أمل الترامسي (6)
الشهيدة أمل الترامسي (5)
الشهيدة أمل الترامسي (4)
الشهيدة أمل الترامسي (3)
الشهيدة أمل الترامسي (2)
تشييع جثمان الشهيدة الترامسي (1)
 

كلمات دلالية