لماذا لن تنتصر (إسرائيل) في الحرب القادمة؟ بقلم د. وليد القططي

الساعة 01:57 م|26 نوفمبر 2018

فلسطين اليوم

بعد جولة التصعيد العسكري الأخيرة في قطاع غزة، قال عضو الكبنيت الوزير نفتالي بينيت تعبيراً عن امتعاضه من نهاية الجولة لصالح المقاومة "أفيغدور ليبرمان فشل فشلاً ذريعاً وترك المعركة... سفينة أمن دولة إسرائيل انحرفت في العقد الأخير في اتجاه غير جيد... ما يقلقني ليس العدو بل أمر غير جيد يحصل لنا في الداخل... إن الحكومات الإسرائيلية توّقفت عن الانتصار منذ حرب لبنان الثانية". الوزير الإسرائيلي يُشخّص المأزق الإسرائيلي بشكل واضح في إشارته إلى الاتجاه غير الجيد الذي ينحدر فيه الأمن الإسرائيلي، وإلى الأمر غير الجيد الذي يحصل داخل الكيان الصهيوني، وإلى عجز الكيان من تحقيق النصر في حروبه مع المقاومتين: اللبنانية والفلسطينية؛ ولكنه يُحصر أسباب ذلك في شخص نتنياهو وليبرمان والحكومات الإسرائيلية السابقة، دون أن يُدرك أن المأزق الإسرائيلي، خاصة في العجز عن تحقيق النصر الواضح هو مأزق الكيان الصهيوني مهما تغيّرت حكوماته ورؤسائها ووزرائها، وهو يتجاوز المأزق الأمني إلى المأزق الوجودي لدولة (إسرائيل).

المأزق الأمني الوجودي رافق الكيان منذ نشأته، وقد وصفه أول رئيس وزراء للكيان (ديفيد بن جوريون) بقوله:" إن جوهر مشكلتنا الأمنية هو وجودنا بالذات، وهذا هو المعنى الفظيع لمشكلتنا الأمنية". وحتى بعد تحقيق ثلاثة انتصارات للكيان لم يتغير جوهر المأزق، والكلام لـ (بن جوريون) "لا يوجد عندنا إمكان حل نهائي للنزاع بيننا وبين العرب ما دام العرب لا يريدونه" فنهاية النزاع مرتبط بإدارة العرب، والمقصود هم العرب المقاومون، وليست العرب المستسلمين، ففي الحروب الثلاثة الأولى: النكبة 1948م، والعدوان الثلاثي 1956م، والنكسة 1967م، لم يكن للكيان مشكلة في إعلان النصر الواضح والحاسم، بعد احتلال كل فلسطين، وبعض الأراضي العربية، وتدمير القدرات العسكرية للعرب، وعقد اتفاقيات هُدنة تُكرّس واقع الهزيمة وتثبت مكتسبات الكيان، وحتى بعد حرب أكتوبر 1973 وقُع اتفاق سلام يُخرج مصر من الصراع، ويُكرّس ضياع فلسطين؛ رغم أنها حرب كسرت أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، وأوقفت سلسلة الهزائم العسكرية للعرب، وأدت إلى استرجاع سيناء للدولة المصرية.

المأزق الإسرائيلي الذي أدركه (بن غوريون) قبل (بينيت) بعشرات السنين، وبرز إلى سطح الكيان بفعل المقاومة، وعبّر عنه (بينيت) بالاتجاه غير الجيد للأمن الإسرائيلي، والأمر غير الجيد داخل الكيان الصهيوني، وتوّقف الانتصارات، بدأت ملامحه تظهر منذ حرب أكتوبر 1973م التي أوقفت انتصارات (إسرائيل)، وأُسس له في حرب لبنان الأولى عام 1982م، فرغم النصر العسكري والسياسي للكيان، في الوصول إلى بيروت، وإخراج قوات المنظمة من لبنان، ووصول بشير الجميل إلى الحكم، وتوقيع اتفاقية 17 أيار... إلى أن كل ذلك انتهى بفعل المقاومة والدعم السوري، بعد مقتل بشير الجميل، وإلغاء اتفاقية 17 أيار، وظهور حزب الله، وإخراج جيش الاحتلال من كل لبنان في عام 2000م دون قيود أو شروط، وتكرر هذا السيناريو في قطاع غزة عام 2005م، بعد انسحاب جيش الاحتلال وتفكيك الجيب الاستيطاني في قطاع غزة، بفعل المقاومة الفلسطينية، التي جعلت تكلفة حماية المستوطنات والمستوطنين تُكلفة باهظة بشرياً ومادياً، وهذا ما كان يُمكن أن يحدث في الضفة لو استمرت المقاومة بوتيرة متصاعدة، وصولاً إلى رفع كُلفة الاحتلال والاستيطان، لدرجة تشكل خطراً أمنياً ووجودياً على الكيان، إلا أن الكيان أدرك هذه الحقيقة فقرر القيام بعملية السور الواقي في الضفة، ومن ثم تفعيل الشراكة الأمنية  مع السلطة عبر آلية التنسيق الأمني.

كانت حرب أكتوبر 1973م هي آخر حروب (إسرائيل) مع الجيوش العربية النظامية، وكانت حرب لبنان الثانية عام 2006م، أول حروبها مع المقاومة، وهذا لا يعني إغفال دور المقاومة العربية والفلسطينية في حرب 1948م وفي معركة الكرامة 1968م، وفي معارك لبنان بين عامي 1970 – 1982م. لكنه يعني بداية مرحلة جديدة من المقاومة بعد نهاية الحروب النظامية، لم تستطع فيها (إسرائيل) من تحقيق أي نصر واضح وحاسم فيها، وهذا يمتد إلى حروب غزة الثلاثة، وكل جولات التصعيد العسكري خلالها وبعدها، وآخرها جولة التصعيد العسكري الأخيرة في نوفمبر الحالي 2018م، وليس هذا وحسب؛ بل تم فيها ضرب نظرية الأمن الإسرائيلية في معظم ركائزها: الردع، والحروب الخاطفة، والضربة الاستباقية، ونقل المعركة لأرض العدو، والجبهة الداخلية المتماسكة، والتفوق المعلوماتي، وقدرة سلاح الطيران على حسم المعركة، وغيرها... حتى أصبح النصر بالمفهوم الإسرائيلي الذي تحقق في المرحلة الأولى لعمر الكيان ضرباً من الخيال العلمي المستحيل، ومن ذكريات الزمن الإسرائيلي القبيح، وهذا ما أدركه أحد جنرالات الاحتياط عندهم (جبرائيل سيبوني) بقوله:" ينبغي أن يُبعد عن الخطاب الاستراتيجي في إسرائيل مصطلحات نصر وحسم سريعين مُطلقين".

المأزق الإسرائيلي في غياب مفهوم وصورة النصر التقليدية، يجتهد قادة ومفكرو الكيان في استبدال مفهوم وصورة النصر التقليدي بمفهوم جديد، ، وصورة مختلفة، فالجنرال الذي تحدّث عن عدم استخدام مصطلحات النصر والحسم، وضع رؤية جديدة لمفهوم النصر بقوله:" هدف الجيش من جولات القتال المتتالية في ضوء غياب الهدف السياسي، وغياب إمكانية تحقيق النصر الواضح والحاسم هو زيادة المدة الزمنية بين جولات المواجهة، وتقليص أمد كل جولة مواجهة وضررها، وردع العدو عن مهاجمة إسرائيل". وهذا المفهوم الجديد للنصر وصفه رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الحالي (غادي ايزنكوت) بقوله:" تحقيق الأهداف السياسية المقررة للمعركة بشكل يقود إلى تحسين الوضع الأمني بعد الحرب". وهذا مفهوم غامض وضبابي ومطاطي للنصر، ويُعطي المجال للحكومة الإسرائيلية أن تزعم النصر بعد كل حرب أو معركة أو جولة تصعيد.

وهذا المأزق في مفهوم وتحقيق النصر نابع أيضاً من طبيعة الحرب مع المقاومة التي لا تعتمد على الضربة القاضية؛ بل على تراكم نقاط القوة عند المقاومة، ونقاط الضعف عند الاحتلال، فمجرد منع العدو من تحقيق أهدافه العسكرية والسياسية في كل جولة عسكرية، وإحباط أهداف العدو المُعلنة وغير المُعلنة في كل حرب وتصعيد، ورفع كُلفة الحرب والاحتلال والاستيطان على طريق إنهاء الاحتلال وتفكيك الاستيطان، وتحقيق نوع من توازن الردع النسبي، وضرب الجبهة الداخلية للتأثير على الأمن الفردي والجماعي للكيان، كل ذلك يعزز نقاط قوة المقاومة والشعب، ونقاط ضعف الكيان بجيشه ومستوطنيه، إضافة إلى أن طبيعة الحروب بين أي جيش نظامي مع المقاومة كحرب عصابات أو حرب هجينة تجمع بين الحروب النظامية وغير النظامية، فإن الجيش النظامي لا يُمكن أن يحقق النصر، طالما تمتلك إرادة القتال، وتتمسك بهدف التحرير، ولديها حاضنة شعبية صامدة وقوية، كالمقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني اللذين يمتلكان إرادة النصر كشرط ومقدمة لتحقيق النصر. وهذا ما تؤكده صحيفة معاريف الإسرائيلية في مقال تحليلي لطاقمها نُشر بعد جولة التصعيد الأخيرة بالقول: "عندما تخوض إسرائيل مواجهة انطلاقاً من هدف مُعلن فإن خصومنا سينتصرون طالما إنهم لا يستسلمون". وبناء على ذلك فإن (إسرائيل) لن تنتصر في الحرب القادمة ولا بعد القادمة.

 

كلمات دلالية