خبر في الأسبوع الثاني من العدوان الاسرائيلي ..د. بشير موسى نافع

الساعة 10:29 ص|08 يناير 2009

 

في الأسبوع الثاني من العدوان الإسرائيلي البشع على قطاع غزة، صعد الإسرائيليون الهجوم من استهداف المقرات والمراكز والقادة والمساجد والأنفاق إلى الاجتياح البري. بدأ الاجتياح البري باحتلال مناطق زراعية خالية في المنطقة الحدودية للقطاع الضيق، وستتطور لاحقاً لاختراقات للمناطق السكانية تستهدف مراكز لفصائل المقاومة ومخازن وجمعيات. هذا التصعيد كان أيضاً متوقعاً. المراهنة الإسرائيلية على العدوان بدأت بأهداف كبيرة: تحقيق أمن كامل للدولة العبرية، بدون أن تقدم ما يطالبها به الجانب الفلسطيني في المقابل، وإسقاط حكومة حماس في قطاع غزة، تمهيداً لاستئناف مفاوضات مسار أنابوليس في ظروف مواتية للطرف الإسرائيلي. ولكن الأسبوع الأول من العدوان، بكل ما جاء به من قصف وتدمير وقتل وحشي، لم يحقق لقادة الدولة العبرية أهدافهم. لم تستطع الهجمة الإسرائيلية تدمير ولو منصة واحدة لإطلاق الصواريخ، لم ترتبك قوى المقاومة، ولم يبد القادة الفلسطينيون السياسيون أي استعداد للخضوع وتقديم التنازلات عن المطالب المشروعة والبسيطة لمنطقة فلسطينية، مكتظة، تخضع لحصار غير قانوني منذ أكثر من عام ونصف العام. المخرج، إذن، كان في التصعيد نحو الاجتياح البري. الأيام القليلة القادمة ستكون بالغة القسوة، ولكن في النهاية لن يكون أمام الإسرائيليين سوى إيصال الهجمة إلى نهايتها، والاعتراف بالإخفاق في تحقيق أهداف العدوان، أو الذهاب إلى الخطوة الجنونية التالية: الاجتياح الشامل.

في الإسبوع الثاني من العدوان تتسع حالة الانقسام العربي، وتزداد الهوة اتساعاً بين الملايين من أبناء الشعوب العربية والنظام العربي الرسمي. رئيس وزراء دولة قطر ووزير خارجيتها، التي لا يمكن أن توصف بأنها دولة راديكالية بأي حال من الأحوال، خرج من اجتماع وزراء الخارجية العرب ليعلن كمواطن عربي عدم رضاه عن قرارات مجلس الجامعة. الأردن، الذي حسب دائماً في معسكر الاعتدال، يحافظ على مسافة كافية عن شركائه السابقين. لم يتبق في معسكر الاعتدال سوى حفنة صغيرة من الدول العربية، أما أغلبية العرب، فمعارضون نشطون للعدوان وللمواقف الغربية الداعمة له، أو متعاطف محرج مع قطاع غزة وأهله. على المستوى الأضيق، وصلت العلاقات بين سورية، من جهة، ومصر والسعودية، من جهة أخرى، إلى أسوأ حالاتها. معجزة منطقية (أو غير منطقية، بالأحرى) فقط يمكن أن تعيد العلاقات إلى سابق عهدها، أو إدراك القاهرة والرياض أنهما خسرتا الرهان على تغيير ميزان القوى العربي. وبدون عودة العلاقات بين الثلاثة العرب الرئيسيين، لا يمكن للنظام العربي أن يعمل بطريقة قريبة من الفعالية أو العادية، ويستعيد ولو شيئاً صغيراً من احترام الشارع العربي.

خلف هذا الانقسام، ثمة انقسام آخر اشد وطأة، بات يفصل الأنظمة الحاكمة عن شعوبها. كشف الغطاء العربي عن القطاع، الذي أطلق اليد الإسرائيلية ضد هذا الجزء الصغير، المكتظ من فلسطين، استمر في مجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية، في الأسبوع الأول من العدوان، واستمر بعد بدء الاجتياح البري. المدهش، ان عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية (الأمين، كما أسماه الآباء المؤسسون للجامعة، وليس السكرتير)، قبل أن يقرأ على الشعوب القرار الهزيل لمجلس الجامعة، ولم يبادر إلى الاستقالة والمحافظة على ما تبقى من احترام عربي له. والشعوب العربية، التي هي أكثر شعوب الأرض تسيساً، تدرك حقيقة ما يحدث. وعلى خلفية من أكبر وأوسع حركة تضامن شعبي عربي وإسلامي وعالمي مع الشعب الفلسطيني، لم يعد هناك من رصيد شرعية ولو ضئيل يتستر به النظام العربي. في أغلب الدول العربية، لا تستند الأنظمة إلا إلى أجهزتها الأمنية؛ ولم تعد حتى قادرة على مد العون للحلفاء الغربيين. وحده العمل من أجل عقد قمة عربية عاجلة يمكن أن يغفر لعمرو موسى وفريقه. قمة عربية بسقف مرتفع أو الاستقالة؛ هكذا تكون الأمانة على العمل العربي المشترك.

في الأسبوع الثاني من الحرب تعيد الدولة العبرية والشعب الإسرائيلي تذكير العالم بالعصاب الجماعي الذي تعيشه هذه الدولة وشعبها. ليس ثمة دولة في التاريخ، بهذا الحجم الصغير وهذه الهامشية بالنسبة للنظام الدولي، تمتعت بهذا الدعم الهائل من القوى الكبرى في العالم. ولكن الإسرائيليين لا يكترثون بالعالم، لا يستيطعون التحرر من عقد الظلم والاضطهاد، وما أن يطلق العنان لجنونهم العسكري، حتى تنقلب عقد الظلم والاضطهاد إلى هوس جماعي، واستعلاء عنصري، ليس على الفلسطينيين والعرب وحسب، وعزلة صلبة عن القيم الإنسانية والمشترك الإنساني. لا القوانين الإنسانية العالمية تؤخذ في الاعتبار، لا صيحات شعوب العالم ورأيه العام يكترث بها، ولا حتى ما يمليه العقل البراغماتي البحت. هذه دولة خارج العالم، خارج المشترك الأدنى من مقاييسه، وخارج المنطق البسيط. ولأنها كذلك، فمن السذاجة تصور إمكانية التوصل إلى سلم تفاوضي دائم بين هذه الدولة وجوارها العربي. ليس ثمة حل لهذا الصراع، لأن الحل يتطلب سلوكاً عقلانياً من كافة أطرافه؛ وهذه الدولة توجد، وتحيا، وتحارب، وتنشط، وتعبر عن نفسها، فيما وراء حدود العقل. كيف يمكن لدولة أن تصل إلى سلم مع جوارها، وهي تكشف سوءات كل من غامر بعقد سلام معها، وهي تفترض لنفسها الحق في أن تقتل وتحاصر وتميت، ولا تحتمل جرحاً أو لحظة قلق أو جزع، دولة تعتقد أن دمها أسمى من دماء الآخرين، ورفاهها لا يتحقق إلا بجوع وإفقار الآخرين، ووجودها لا يضمن إلا بإلغاء وجود الآخرين؟

في الأسبوع الثاني من العدوان، لم يعد ثمة من شك في أن الغرب خسر الرهان على استبعاد القضية الفلسطينية من ميزان علاقته بالعرب والمسلمين. الملايين التي خرجت في شوارع اسطنبول، الرباط، الخرطوم، بيروت، الدوحة، مسقط، وصنعاء، أعادت التوكيد، للمرة الألف، وبصورة لا تحتمل الجدل أو الشك، على أن فلسطين هي المسألة المركزية في هذه المنطقة من العالم، وفي علاقة شعوب هذه المنطقة مع العالم. كان الرئيس الأمريكي المنتخب، وسط تشجيع أوروبي، قد أعلن عزمه على إطلاق مناخ جديد من العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب، يبدأ بتوجيه كلمة للشعوب من إحدى العواصم الإسلامية الرئيسية. دعم إدارة الرئيس بوش للهجمة الإسرائيلية على القطاع لم يكن مستغرباً، ويندرج في التماهي اللصيق بين السياستين الأمريكية والإسرائيلية طوال السبع سنوات الماضية. ولكن الرئيس المنتخب صامت صمت القبور؛ بينما الدول الأوروبية الرئيسية، تعلن دعماً صريحاً للعدوان الإسرائيلي، أو تتحدث بخجل وتردد عن وقف لإطلاق النار. ما الذي يمكن أن يقوله الآباء العرب والمسلمون لأبنائهم عن العدالة الغربية، عن قيم حقوق الإنسان، والسلم في العالم؟ كيف يمكن للآباء والأمهات العرب والمسلمين المساعدة في بناء عالم جديد، عالم يتجاوز أبو غريب وغوانتنامو ومئات الآلاف من الضحايا في شوارغ بغداد وكابل، وهم يرون المدارس تقصف في غزة، المساجد تقصف، المدارس تقصف، ومنازل الأهالي تنهار على رؤوس ساكنيها؟ إلى أي مدى أبعد يمكن للضمير الغربي أن يتحمل أعباء الوطن القومي اليهودي، الذي لم يعمل منذ أقامته القوى الغربية إلا على نشر الموت والدمار والحروب من حوله؟

في الأسبوع الثاني لم يعد هناك شك في أن هذه الحرب ستنتهي بإخفاق إسرائيلي جديد، إخفاق ستكون عواقبه أثقل من إخفاق صيف 2006. لتحقق الهجمة الإسرائيلية أهدافها عليها أن تدمر منصات إطلاق صواريخ قوى المقاومة المختلفة ومخازنها، عليها أن تقضي على عدد بين عشرة وعشرين ألفاً من المقاتلين، وأن تطيح حكومة حماس في قطاع غزة. سياق القتال خلال الأسبوعين الماضيين يشير بوضوح إلى أن أياً من هذه الأهداف، ناهيك عنها مجتمعة، غير ممكن التحقق. العودة إلى احتلال كامل وشامل للقطاع سيدخل قوات الاحتلال في وحل حرب استنزاف لن تتوقف؛ ومحاولة إقامة إدارة بديلة لإدارة حماس بقوة الدبابات والطائرات، ستكون محاولة قصيرة العمر وغير قابلة للاستمرار، هذا إن وجدت من الفلسطينيين من يتعاون معها. في المقابل، ليس من المطلوب من إدارة حماس في القطاع وقوى المقاومة والشعب سوى تحقيق الأهداف التالية لحظة إيقاف إطلاق النار: بقاء إدارة حماس في قطاع غزة باعتبارها حكومة شرعية، وصلت إلى الحكم بإرادة انتخابية فلسطينية، ولا يجب أن تتغير إلا بإرادة انتخابية جديدة وليس بالقوة العسكرية للجيش الإسرائيلي؛ بقاء قوى المقاومة، والمحافظة على قدراتها التسليحية وقدرتها على المقاومة، في حال تعرض قطاع غزة لهجمة أخرى؛ كسر الحصار المفروض على قطاع غزة منذ أكثر من عام ونصف العام، بما في ذلك فتح جميع المعابر، ورفع الحصار السياسي والبنكي والمالي على القطاع. وهذه، بالطبع، شروط بسيطة وممكنة التحقق، بل أن الحركة الدبلوماسية، بما في ذلك، التحرك المصري التركي، تتجه لقبولها.

السؤال الذي ينبغي أن يسأل الآن ما الذي سينجم عن الإخفاق الإسرائيلي، فلسطينياً وإقليمياً ودولياً. كيف ستتداعى الخارطة السياسية ابتداء من صباح اليوم التالي؟

' كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث