ألمٌ خلق أمل

بالصور "لم يبقَ أحد".. إبادة جماعية يرويها ناجٍ من عدوان 2014 على غزة

الساعة 10:35 م|08 سبتمبر 2018

فلسطين اليوم

"أرى دخانًا كثيفًا ودماءً وأشلاءً تتناثر، هو ليس حُلمًا وليس واقعًا أيضًا، إنها الذاكرةُ التي تؤرقني وتذبحني ببطء في السادس والعشرين من يوليو كل عام، مما جعله يومًا أسودًا لا حياة فيه".

هذه الكلمات ليست مطلعًا لرواية، أو بدايةً مشوقةً لفيلم سينمائي، بل هي واقعٌ يعيشه ويرويه الشاب الفلسطيني محمد النجار، الذي اجتاح الاكتئاب فكره طويلًا، وأرقته الكوابيس والخيالات المؤلمة منذ عام 2014 وحتى الآن.

البداية..

"لم نكن نعدُّ أيام الحرب القاسية على غزة من شدتها، فكل يوم كان بعام، وفي الـ25 من يوليو 2014 كنت أستعد مع زوجتي إيمان لاستقبال طفلنا الثاني، عدتُ من المستشفى برفقتها وقد كان منزلنا شرق مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة مكتظاً بسبب فرار العديد من أقربائنا المجاورين للحدود مع الاحتلال نحونا، لكننا كنا نحاول أن نعيش أجواء رمضان رغمًا عن القصف والموت والدمار" يروي محمد لمراسل "فلسطين اليوم الإخبارية".

الحبكة..

دخل محمد إلى المطبخ بعد تناوله لوجبة السحور مع العائلة فجر السادس والعشرين من يوليو وفي يده فنجان من القهوة، كان كل شيء يبدو طبيعياً لولا ذاك النور الذي لمع فجأة ولحقه كتلة من اللهب الحارقة التي اجتاحت المنزل، وتركت محمداً ملقى والركام يمطر عليه زخاتٍ زخات.

كان نصفَ واعٍ لكنه لا يدري ما العمل وقتها، أهو البكاء أم الصراخ، لم يجرب الشاب العشريني الموت تحت أنقاض القصف الإسرائيلي الغاشم قبلًا حتى يختبر آلامه أو يعرف الطريق إليه، لكنه عرفَ ذلك جيدًا حين تذَّكر من في المنزل، فقد كان يسمع صراخهم وبكاءهم الذي اختفى رويداً رويداً، ثم انقطعت الحياة من عيني محمد.

استفاق النجار في المستشفى الذي زاره بالأمس للاطمئنان على صحة الجنين، لكن هذه المرة كان هشاً لا يشعر بعظامه، محترقًا لا يقوى على مشاهدة جسده، يأكله الخوف على أفراد عائلته وعلى طفلته الجميلة غالية، وفي كل مرة يحاول السؤال عنهم، يكتم الطبيب حشرجة صوته ويمسك دمعته ويقول: "لا تخف جميعهم بخير، إنهم يتلقون العلاج في الغرف المجاورة".

"لم أدرِ كيف وصلت المستشفى لكنهم أخبروني أن المسعفين أنقذوني من تحت الركام، وكنت أشعر أنني فقدت الكثير من عائلتي، فأصوات انهيار المنزل بفعل صواريخ الاحتلال كانت مرعبة، صرخت يومها كثيرًا حتى جاء ابن عمي سعيد ونظر إلىَّ نظرة أذكرها جيدًا وفهمتها جيدًا، احتضني سعيد المخضب بالدماء وقال: لم يبقَ أحد". يقول النجار الذي بدأ صوته يخفت ويهتز في حديثه لـ"فلسطين اليوم الإخبارية".

19 شخصًا من إجمالي 22 كانوا بالمنزل ارتقوا إلى ربهم من بينهم زوجة محمد وابنته وجنينها وابنته غالية، في حدث يعجز الكلام عن وصفه، فكيف هو حال من عاشوه أمثال محمد، الذي حين ذكر أخته كفاح المصابة بالشلل الدماغي أخذ يبكي بحرقة، لأنها لم تكن قادرة حتى على الصراخ أو الاستنجاد بأحدهم.

"تسللت إلى المقبرة يوم وداع أحبائي ولم يكن الأطباء ليسمحوا لي بذلك بسبب وضعي الصحي، لكنني لم أكن لأحرم نفسي من نظرة الوداع، بكيت يومها حتى انهرت نهائياً، ولم أكن أصدق بعد أن منزلنا الدافئ ذو الثلاثة طوابق قصف ومات كل من فيه، وماتت أصواتهم، وذهبت زوجتي وطفلتي والجنين الذي كنت أنتظره بشغف وشوق كبيرين". أضاف محمد.

العقدة.. 

نصف عام ومحمد يتعالج من كسوره وحروقه، لكن 4 أعوام حتى الآن لم تكفِ لخلع الوجع النفسي والضيق من صدره. أعوامٌ زار خلالها النجار طبيبًا نفسيًا، والتف حوله من بقي من الأقرباء حتى ينتشلوه من ماضيه المؤلم، رغم حدته معهم ومزاجه الصعب جدًا بعد الحادث الأليم.

إبراهيم النجار عم محمد أكثر من حاول أن يقف بجانبه ويساعده للعودة إلى الحياة من جديد، فقام بتجديد محل والدته لبيع الدواجن حتى يدمجه مع الناس، الذين صبروا على تصرفاته الحادة، حتى بدأ يعود إلى طبيعته الأولى.

الحل.. 

وفي موقف "مضحك مبكي" قال محمد: "حاول عمي أن يقنعني بالزواج كثيرًا لكنني كنت أرفض الأمر جملةً وتفصيلًا، لكن قلبي مال في يومٍ لشابة مرت صدفة أمام محلي، فأخبرت عمي بذلك الذي لم يصدق الأمر، ولم ينتظر لأفكر، فقام باليوم الثاني بخطبتها لي".

اليوم يحتضن النجار طفلتين جميلتين غالية وغزل، في بيت أعيد بناؤه من جديد لكن بطابق واحد، وزوجة صبورة جدًا تحملت هول الأعباء النفسية التي تكدست في جسد زوجها، وليله المرعب المليء بالصراخ والبكاء والكوابيس، لكن دومًا ما كان الأمل وليد الألم.

2200 شهيد ارتقوا خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014، الذي استمر لمدة 51 يومًا، بينهم 2200 قصة لم يسمع العالم إلا القليل منها، وفي كل يوم تخرج فيه قصة أحدهم، حتى يتجدد الحزن، وتعود الذكريات الموحشة، فالحرب لم تنتهِ بعد عند الكثير من العائلات الغزية.

 

لا نهاية.. فألم هذا الشعب لا ينضب

 

 

محمد النجار فقد كل عائلته شرق خان يونس خلال الحرب (5)
محمد النجار فقد كل عائلته شرق خان يونس خلال الحرب (4)
محمد النجار فقد كل عائلته شرق خان يونس خلال الحرب (3)
محمد النجار فقد كل عائلته شرق خان يونس خلال الحرب (1)
محمد النجار فقد كل عائلته شرق خان يونس خلال الحرب (2)
 

كلمات دلالية