الـوطـنــيـــة شـيــكــا بـيـكــا- بقلم د. وليد القططي

الساعة 08:09 ص|30 أغسطس 2018

فلسطين اليوم

 بقلم د. وليد القططي

شيكا بيكا اسم أغنية كتبها الفنان صلاح جاهين في سبعينات القرن الماضي، الكلمة لا تُعبّر في ذاتها عن أي معنى مُحدد، تعبيراً عن عصر السادات الذي أصبح بدون معنى، بعد أن انقلب على عصر جمال عبدالناصر وقيمة القومية الاشتراكية. عبقرية الأُغنية تتمثل في قدرة الشاعر صلاح جاهين على وضع معانٍ حزينة في كلمات ساخرة، وإيصال معانٍ موجعة في كلمات أُغنية ظاهرها التفاؤل وباطنها التشاؤم، ومطالبته للناس بالضحك علاجاً لحالة الفوضى والكآبة والحزن في مطلع الأُغنية «شيكا بيكا وبوليتيكا ومقالب انتيكا»، ولا تزعل ولا تحزن، اضحك برضه ياويكا»، وتفسيره الغامض لمعنى الشيكا بيكا في آخر الأُغنية «هتقولي الشيكا بيكا ايه هيَّ؟.. هيّ الحركات إلّي مش هية.. الفرقة والحرقة والغرقة والزمبة في البمبة الذرية.. بدل ما نطق لأ نضحك».

شيكا بيكا هنا تعني الضحك بدلاً من الموت حُزناً، والسخرية بدلاً من الهلاك قهراً، والتهكّم بدلاً من الاحتضار نكداً. وهو نوع من الكوميديا السوداء التي تتحوّل فيها المواقف الجادة المأساوية المُحزنة إلى مواقف هزلية ساخرة مُضحكة، كمخرج لمعالجة حالة العجز عن مواجهتها، وحالة الفشل عن تجاوزها، وحالة الشلل عن تغيير واقع البؤس وشعور التعس وإحساس النحس، ويختصر هذه الحالة التي وصفها صلاح جاهين بالشيكا بيكا المثل الشعبي (شرُّ البلية ما يُضحك). بعد الأُغنية استُخدمت الكلمة في العديد من الأعمال الفنية أهمها: مسرحية استعراضية وفيلم سينمائي وبرنامج تلفزيوني، وجميعها تُعبّر عن نفس المعنى الساخر في المواقف المحزنة المؤلمة.

النسخة الفلسطينية لكوميديا الشيكا بيكا تتمثل في العديد من المواقف التراجيدية التي لا مخرج و لاحل لها في المدى المنظور على الأقل، والحديث هنا لا يشمل الاحتلال وما سببه من مآسٍ طالت كل الشعب الفلسطيني فهو إلى زوال حتماً، ولكن ينسحب على المآسي التي صنعتها أيدينا، والسجون التي صنعنا قيودها بأنفسنا، وأولها مأزق أوسلو، وما تبعه من مأزق الانقسام، وجدل الدجاجة والبيضة السابق في أيهما يسبق الآخر: حل اللجنة الإدارية أم إلغاء الإجراءات العقابية، والجدل العقيم الحالي في أيهما الأول: تحقيق التمكين أم رفع العقوبات، وبأيهما نبدأ: المصالحة أم التهدئة. ولم نعد ندرك أن القضية الوطنية محورها التحرير والعودة والاستقلال وليس إدارة سلطة تحت الاحتلال، وأن الوطن الضائع قبل كل هذا الهراء ويسبق كل هذا الهذاء.

وتطبيقاً لكوميديا الشيكا بيكا في نسختها الفلسطينية لا بأس من أن نأخذ الحكمة من أفواه المجانين، وأن نتعلم الفضيلة من سلوك الفاسدين، وأن نمارس الصدق اقتداءً بأفعال الكذابين... وقياساً على ذلك لمَ لا نأخذ دروساً في الوطنية من أفواه الخائنين، ونستمع لمحاضرات الثورية من عتاولة المنبطحين، وننصت لعظات الشجاعة من كبار المهزومين، ونتعلم الزُهد من خطب المُترفين، وأذا وصلنا إلى هذه المرحلة من فوضى المفاهيم ولخبطة الموازين وخربطة المعايير، تصبح الوطنية شيكا بيكا، فنضحك كي لا نموت قهراً ونهلك كمداً و»بدل ما نطق لأ نضحك... والضحك ده مزيكا كهربا على ميكانيكا».

وكيف لا نضحك من القهر، وقد خرج علينا أحد الوطنيين الكبار، بكل عنفوان الثوار الأبطال، العائدين لتوهم من ميادين النزال، ليعطينا درساً في أصول الوطنية، وجذور الثورية، مُعلناً بشجاعة يتخللها شيءٌ من الوقاحة، أن التهدئة مع الاحتلال خيانة، والسعي لرفع الحصار أكثر من جناية، والمطالبة بإلغاء العقوبات إثم وفاحشة، وبمفهوم المخالفة تُصبح الحرب وآلامها والحصار ومآسيه والعقوبات ومعاناتها هي الوطنية بعينها والثورية بشحمها.

وكيف لا نضحك من القهر، وقد خرج علينا أحد الثوار العظام، بكل حماسة الفدائيين الشجعان، الخارجين في الحال من خنادق القتال، وسيماهم في كروشهم من أثر النضال، ليُذّكرنا بالمشروع الوطني الفلسطيني الذي سيُدّمر مع أدراج رياح صواريخ التهدئة، ولينبهنا إلى أن ظهر القضية الوطنية سيُقصف بقنابل رفع الحصار. وكأن المشروع الوطني الفلسطيني لم يتحوّل إلى مشروع استثماري للربح السريع والغنى غير البطيء، وبمفهوم المخالفة عند من يملك قدراً متوسطاً من الذكاء، وقليلاً من الفطنة والدهاء يدرك أن المحافظة على الحصار والعقوبات سيحفظ المشروع... ويصون القضية...

وكيف لا نضحك من القهر، وقد خرج علينا أحد الخطباء المفوّهين، بكل بلاغة المتفيهقين، المنغمسين في نعمة الانقسام، والمتمرغين في نعيم الخصام، فدعا الناس إلى الصبر والقناعة، وحرّضهم على الصمود والشجاعة، والحرص على نعيم الدار الآخرة الآجلة، وهو يتقلب في نعيم الدار الدنيا العاجلة، وقد كان من قبل يعيش حد الكفاف، وبعد تغيّر الحال وتبدل المآل تجاوز حد الكفاف، ثم تجاوز مرحلة البحبوحة والثراء، إلى مرحلة الرفاهية والرخاء، وزاده اللهُ بسطةً في العقارات والسيارات والأتباع. ونكح ما طاب له من النساء مثنى وثلاث ورباع.

بعد استعراض مفهوم الشيكا بيكا، كنوع من الكوميديا السوداء، وتطبيقه على الحالة الفلسطينية، التي يمتزج فيها الجد بالهزل، والمأساة بالملهاة، والحزن بالضحك، في تصوير كاريكاتوري لشخصيات يناقض قولها فعلها، لا مجال أمامنا سوى أن نضحك بدل الموت قهراً وكمداً، ونقهقه بدل الانفجار غماً وهماً؛ استجابةً لنصيحة الفنان المُبدع صلاح جاهين «ولا تزعل ولا تحزن اضحك برضه يا ويكا، ها ها ع الشيكا بيكا... والضحك دة مزيكا.. كهربا على ميكانيا... بدل ما نطق لأ نضحك».

 

كلمات دلالية