خبر فـي زمـن الفتنـة ..فهمي هويدي

الساعة 11:11 ص|06 يناير 2009

ـ السفير 6/1/2009

لا يفاجئنا الاجتياح الاسرائيلي، بقدر ما يصدمنا التفسخ العربي الذي يستدرجنا الى فتنة لا قبل لنا بها، والوهن الذي كشف عن تناقضات تجعل الحليم حيرانً.

هل يعقل مثلا ان تنقض اسرائيل على غزة لتسحقها، وفي ذات الوقت ينطلق القصف الاعلامي العربي العربي، حتى يقول احد المعلقين الاسرائيليين (زفاي باريل في »هآرتس« ٢٩/١٢) ان من يتابع الاعلام المصري يخيل اليه ان المعركة بين مصر وحماس، وليست بين اسرائيل وحماس. لقد فطن ابو مازن الى هذه المفارقة، فاصدر قراره بوقف الحملات الاعلامية بين فتح وحماس، بعد خمسة ايام من التراشق العبثي، الذي تبنت فيه بعض الابواق في رام الله نفس مقولة السيدة تسيبي ليفني وزيرة خارجية اسرائيل وكوندوليسا رايس الوزيرة الاميركية ، التي ما برحت تؤكد على ان حماس هي المسؤولة عما جرى. قرار ابو مازن كان عاقلا، وإن جاء متأخراً خمسة ايام، وان احتاج الى تكملة تتمثل في وقف الحملات الامنية ايضا وإطلاق اكثر من ٦٠٠ معتقل لديه.

ما حدث في الساحة الفلسطينية يستحق ان يحتذى في بعض الدول العربية الاخرى، وبوجه اخص في مصر والسعودية. وارجو في هذا الصدد ان نلاحظ امرين، الاول ان الانقضاض الاسرائيلي الراهن وان اعلن عَّرابوه انه موجه ضد حماس، الا انه يستهدف فكرة المقاومة في اساسها. آية ذلك ان اسرائيل قبل ان تحاول قتل قادة حماس، حرصت على ان تشيع اكبر قدر من الدمار والترويع بين سكان القطاع. ناهيك عن انها قبل الحملة العسكرية واصلت حصارها الاجرامي لغزة، لتجويع اهلها وتركيعهم، واقناعهم بان في المقاومة مقتلهم وليس حلمهم او عزتهم.

الامر الثاني المهم ان مظاهرات الغضب التي خرجت في انحاء العالم العربي والاسلامي تظل علامة صحة وعافية وان تخللتها تجاوزات تفهم في سياق الانفعال والحماس الزائد. وحين اصاب الموقف المصري بعض رذاذ ذلك الانفعال، فانه ينبغي ان يستقبل من جانب القاهرة ـ شأنها في ذلك شان كل الكبار ـ بتفهم ورحابة صدر. علما بانه يمكن تصويب التجاوزات باسلوب مهذب ورصين يصوب ولا يصعد. ويحتوي ولا يشتبك. وللعلم فان الانتقادات التي وجهت الى الموقف المصري يتردد اكثرها في الصحف المصرية المستقلة والمعارضة، لكنها تقابل بصبر مقدَّر.

ومن الامور التي تلفت النظر في هذا السياق، ان نقد الموقف او السياسة من جانب بعض المتظاهرين في الخارج، اعتبره البعض اساءة الى مصر. وهو امر يستحق اعادة النظر لكي يعطى حجمه الطبيعي. اذ لا ينبغي ان يختزل الوطن في قرار او اشخاص بذواتهم، لان مصر الباقية اكبر من كل ذلك. والذين يطوفون بارجاء العالم العربي ويحتكون بالمشاعر العربية في كل مكان، يعون هذه الحقيقة جيدا. وكما ان هناك في مصر من ينتقد اوضاعا بذاتها في البلد، في حين لا يتردد في ان يفدي البلد بحياته، فان نفس الشيء حاصل في العالم العربي، حيث يقف محبو مصر والغيورون عليها في مقدمة ناقدي بعض اوضاعها، منطلقين في ذلك من املهم في ان تستعيد عافيتها ودورها في تجسيد حلم الوطنيين العرب، الذين يستشعرون اليتم في غيابها.

ان السياسة الاميركية في عهد الرئيس جورج بوش لقيت من النقد والتجريح ما لم يحدث في اي مرحلة اخرى، وبوش شخصيا تعرض للضرب بالحذاء في بغداد، ولم يقل احد ان شيئا من ذلك اهانة للولايات المتحدة، بل ان كثيرا من المثقفين الاميركيين اعتبروا ممارسات بوش اكبر اساءة لامريكا ـ وما حدث مع بوش يسري بذات القدر مع نيكولا ساركوزي في فرنسا وجوردن براون في انجلترا وغيرهم من زعماء الدول الديموقراطية، التي تعتبر الاهانة الحقيقية ان يختزل الوطن في شخص او سياسة بعينها.

خذ ايضا ذلك الفصام المدهش الذي يعيش في ظله العالم العربي الآن. فالجماهير العربية تقف كلها الان في صف الغضب والنقمة على اسرائيل وما ترتكبه من جرائم يومية. بينما الاغلبية الساحقة في القمم العربية تعيش في واد اخر، يخيم عليه الهدوء والدعة، الامر الذي يعطي انطباعا قويا بان المسافة شاسعة للغاية بين الجسم والرأس في العالم العربي، وان التحام الاثنين بات ضرورة ملحة، حتى لا يبدو احدهما غريبا عن الاخر.

لقد سئلت اكثر من مرة في الفترة الاخيرة، لماذا لم يؤد الغضب العارم الذي يجتاح العالم العربي الى تحريك السكون في بحر العرب الراكد. وكان ردي من شقين، اولهما ان غضب الشارع العربي والاصوات العالية التي تتردد فيه، اخترقت ذلك السكون، فاوصلت صوت الشارع الى مسامع القادة العرب، كما انه كان ولا يزال لذلك الصوت صداه في العالم الاسلامي، فضلا عن العالم الخارجي. والصور التي نشاهدها على شاشات التلفزيون صباح مساء ـ شكرا لقناة الجزيرة ـ دالة على ان صوت الغضب العربي لم يذهب سدى، وان هناك من يتسلم الرسالة فينتبه وينتفض متضامنا مع شعب غزة الصابر والصامد.

ولئن قيل ان الغضب لم يغير شيئا في المواقف العربية المعلنة ـ فان هذه الملحوظة تبدو صائبة تماما، ولكنها تكشف عن حقيقة اخرى يتعين الانتباه اليها، تشكل الشق الثاني في اجابتي على السؤال سابق الذكر. هذه الحقيقة تتمثل في ان المجتمعات العربية ما زالت اضعف من ان تؤثر في القرارات السياسية التي تتعلق بمصيرها. ان شئت فقل انها باتت عالية الصوت وقليلة الفاعلية. فهي تحدث ضجيجا ولا تغير واقعا. صحيح ان ذلك الضجيج يختزن في اعماق الادراك العربي، لكن ذلك المخزون قد يستغرق وقتا طويلا لكي يتحول من فكر الى فعل. وهذه الثغرة لا سبيل الى علاجها الا من خلال الحل الديمقراطي الذي يفتح الابواب لتقوية المجتمع بما يجعله شريكا في القرار وقوة ضغط حقيقية تعلق عليها آمال الاصلاح والتغيير، ذلك ان المناخ الديمقراطي الذي يفتح الابواب واسعة لتنامي دور القوى السياسية والمؤسسات المدنية والمنظمات الاهلية. يوفر للمجتمع تلقائيا »العضلات« التي تمكنه من فرض ارادته، بحيث يصبح شريكا لا تابعا وفاعلا لا خانعا.

خذ كذلك ما جرى حين أراد العرب ان يتواصلوا فيما بينهم لاتخاذ موقف ازاء المذبحة الاسرائيلية، فادركوا انه لا سبيل الى تحقيق ذلك الا تمت الاستعانة »بصديق« من غير العرب. في الوقت ذاته اكتشفنا نحن »المشاهدون« العرب ان الاطراف الفاعلة التي تتحرك على المسرح السياسي العربي، كلها من غير العرب. اذ فوجئنا حين وقعت الواقعة ان ثمة فراغا عربيا هائلا، وان اللاعبين الحقيقيين في تلك الساحة الفارغة هم الجيران الاتراك والايرانيون والاسرائيليون، اضافة الى القوى الغربية بمختلف مسمياتها.

لقد دعي الاتراك لاصلاح ذات البين بين المتخاصمين العرب، وحمل الدعوة التي فوجئت بها انقرة السيد احمد ابو الغيط وزير الخارجية المصري، الذي قدم اليها افكارا للتعامل مع الازمة الراهنة، التي لم تكن تركيا طرفا فيها. وكان يمكن ان تنتقل هذه الافكار مباشرة الى دمشق والى قيادة المقاومة الفلسطينية، ولكن مصر وجدت نفسها امام لحظة استثنائية لم تستطع فيها ان تخاطب تلك الاطراف العربية، فلجأت الى الوسيط التركي، الذي لا سابق خبرة له بالتناقضات العربية العربية، وانحصرت خبرته فيما حققه من نجاح في حل الصراعات التركية مع الجيران بمن فيهم سوريا والعراق وايران.

انني هنا اسجل المفارقة فقط، منبها الى انني لست ضد الوساطة التركية، لاقتناعي بان الوسيط التركي سيكون اكثر نزاهة واستقامة من وسطاء آخرين اخفوا تحيزاتهم عن الأعين، فافسدوا اكثر مما اصلحوا. ومن ثم اصبحوا جزءا من المشكلة وليسوا جزءا من الحل. لقد تمنيت ان تتم الوساطة التركية في ظروف افضل، ومع ذلك ادعوا الى تشجعيها والتجاوب معها، لكن لا اعول عليها كثيرا، لان الامور اشد تعقيدا وتركيا حديثة الخبرة بالخرائط والصراعات العربية ـ العربية.

التناقضات ظهرت بصورة اشد وضوحا حين طرحت فكرة عقد القمة العربية للبحث فيما يمكن ان يفعله القادة العرب في مواجهة المذبحة الاسرائيلية. ذلك ان صيغة المحاور ظهرت على الفور في الافق، ولاحت بوادرها اثناء اجتماع القمة الخليجية التي تمت في مسقط. ففي حين تحمس بعض القادة لانعقاد القمة العربية، فان آخرين عارضوا الاقتراح. وفيما علمت من بعض من شاركوا الاجتماع فان المؤيدين تطلعوا الى ان يتوافق الزعماء العرب على خطوات عملية في مواجهة العدوان، وتردد ان احدهم راودته فكرة التلويح بسلاح النفط، من خلال اقتراح تخفيض انتاجه أسوة بما جرى في عام ،١٩٧٣ حيت ذهب الملك فيصل رحمه الله الى ابعد، وقاد حملة وقف انتاج النفط وتصديره الى الدول الغربية، تعبيرا عن التضامن مع الرئيس انور السادات.

الذين عارضوا الاقترح انتقدوا رفض استمرار التهدئة، وحملوا حركة حماس المسؤولية عما جرى. وذهب احدهم الى انها وحزب الله يتحركان في اطار المشروع الايراني. بل ان احد وزراء الخارجية انفعل اثناء المناقشة ووصف المقاومين في حركة حماس بانهم »شرذمة« لا تتوقف عن اثارة القلاقل في المنطقة.

في ما علمت ايضا فانه حين تصاعد الخلاف بين الطرفين، طرح اقتراح دعا الى الاسترشاد برأي احد الزعماء العرب في الموضوع. ورشحت شخصية خليجية من مؤيدي عقد القمة للقيام بالتشاور المطلوب. وحين تمت الاتصالات التمهيدية للقيام بالمهمة، فان الرد جاء سلبياً، فلم يعقد اللقاء، وصرف النظر عن الاقتراح.

في تلك الاثناء كانت الدعوة قد اطلقت لعقد اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب ولم يكن باعثا على التفاؤل في البداية ان يتحدد موعد الاجتماع بعد مضي اربعة ايام من وقوع المذبحة (بدأت يوم السبت والاجتماع عقد يوم الاربعاء). وكانت وجوه بعض الوزراء الخارجيين في ختام الاجتماع وعلامات خيبة الامل التي ظهرت عليها معبرة بشكل كاف عما دار في الجلسة المغلقة. ذلك ان الحوار الذي دار كان صورة مكبرة لما حدث في قمة مجلس التعاون الخليجي. ومن طريف ما حدث بعد الاجتماع ان احد وزراء الخارجية العرب اجرى اتصالا هاتفيا باحدى القنوات الفضائية لكي يعلن على شاشتها براءته من البيان الذي صدر باسم الوزراء.

اسوأ ما في البيان الذي خيب آمال الذين احسنوا الظن بالاجتماع، خصوصا في اعقاب الخطبة العصماء التي القاها السيد عمرو موسى في بدايته، ان وزراء الخارجية نفضوا ايديهم من المشكلة واجهضوا فكرة اجتماع القمة العربية. وكانت وسيلتهم الى ذلك انهم قرروا الاحتكام الى مجلس الامن اولا، وقالوا في بيانهم انهم اذا فشلوا فانهم سيتشاورون في مسألة القمة بعد ذلك. وهم اكثر العارفين بان مهمتهم فاشلة، لان الفيتو الاميركي يتربص بايقاف اي محاولة للتعبير المتوازن عن مظلومية الشعب الفلسطيني، وهو ما حدث بالفعل.

كانت النتيجة ان العرب عجزوا عن ان يخاطبوا بعضهم البعض فوسطوا تركيا. وتنصلوا من عقد القمة العربية باحالة الامر الى مجلس الامن. ثم راحوا يلومون المجلس لانه تباطأ او سوف في اتخاذ القرار الذي يريدونه، في حين ان المجلس اقتدى بهم، ولم يكن موقفه افضـل من موقفهم هم.