الأمن وهو «يحتضن الشارع»…أسرار وخفايا «الربيع الأردني»

الساعة 10:38 ص|07 يونيو 2018

فلسطين اليوم

ما الذي يمكن لعسكري أمني أردني أن يفعله في مواجهة شاب معتصم يهتف له وللملك ويحمل علم الأردن ويتبادل معه لقمة السحور خلال وظيفته؟ السؤال الاهم في الواجهة الأردنية اليوم: إلى اين يمكن ان يتجه رجل الدرك المحيط بالاعتصامات وهو يسمع شاباً من الطبقة الثرية يحتج على قانون الضريبة ويعلن أمامه: «أنا هنا من اجلك»…لا يوجد عموما في تقاليد الأردنيين شعباً وحكومة طقوس تسمح بنقاش سياسي مع العسكر.

لكن في أزمة الشارع الأخيرة هتف المعتصمون..»إحنا والأمن اخوان» ورصد مدير عام قوات الدرك الجنرال حسين حواتمه وهو يسهر مسجلاً انه المسؤول الوحيد في هرم السلطة الذي نزل للشارع وتحاور مع المعتصمين في عمان العاصمة. يفاجئ حواتمه الجميع بمقالات ونقاشات ميدانية عن الوضع الاقليمي وسياسة التصحيح الاقتصادي فيما يغيب تماماً عن الناس كل المسؤولين السابقين والحاليين مع الاكتفاء بالتمتع في «قرية الفرجة».

الأهم أن ذاكرة الحراك الشعبي الأخير تحتفظ بمشاهد غير مسبوقة في السياق فالمهندس وليد عادل الذي شارك مرتين على الأقل في الاعتصامات قال لـ»القدس العربي» إن أحد ضباط الامن طالبه بعدم التوقف دون إعاقة السير حتى يسقط قانون الضريبة. وفي الكرك جنوبي البلاد أمسك ضابط أمن بمواطن يريد إشعال إطار فخاطبه قائلاً: أرجوك اشعله الآن أو احتفظ به للغد، لكن تحرك، نريد ان نتناول سحورنا. وفي الميدان تداول الأردنيون شريط فيديو لقائد أمني برتبة عميد يقول لرجاله: «لا تعتقلوا أي مواطن… من يعتقل أي معتصم سأرفش في بطنه».

لاحقاً رصدت بكثافة الصور التالية: ولي العهد الامير حسين بن عبدالله وسط المحتشدين وحرس الدرك ويطالبهم بـ»حماية المعتصمين»… محتج يقدم كأس ماء لدركي خلال الوظيفة وآخرون يتبادلون الاحضان مع رجال الامن وعجوز وسط الشباب يهتف بصوت مرتفع: تعالوا نقهرهم.. تبادلوا القبل مع رجال الدرك. ولاحقاً ايضاً شوهد القائد الدركي على الكاميرا وهو يقترح على المتظاهرين الصيغة التالية: إسمعوا تعالوا ننتقل معكم للساحة المقابلة للمستشفى بقرب مقر الرئاسة ونسهر معاً حتى الصباح وتهتفون مرتاحين فقد جهزنا الساحة لكم وتتسع لخمسة آلاف. المشهد لم يقف عند هذه الحدود ففي الوقت الذي ينظم فيه الدركيون استعراضات عسكرية لأغراض الحماس يقابلهم المعتصمون بأهازيج للأردن وللهاشميين وهم ينظفون مخلفات الاعتصام الذي ينظر له اليوم كإعصار سياسي. في الأثناء ولمدة اسبوع غابت تماماً مظاهر «الولاء الفوضوية» المألوفة فلا ملثمين يرتدون ألوان العلم ولا نواب موالاة يزاحمون على المايكروفونات ولا «بلطجية» يشاركون فجأة في المشهد لصالح الولاء ولا مواكب سيارات تخالف القانون وتهتف للقصر وتلقي بالحجارة على المعتصمين.

السؤال الأخطر: أين إختفت كل هذه الظواهر فجأة ولماذا؟

أي إجابة هنا تحديدًا تشرح تلك الجزئية التي أدهشت جميع الاطراف في معادلة الأزمة الاقتصادية الأردنية التي تحولت لأزمة سياسية اقليمية بفضل «مدنية وحضارية» الحراك والاعتراض. لا يوجد أساس للقول بأن الحرس الكلاسيكي في ادارة الدولة تحول فجأة للسلوك المدني. وأغلب التقدير ان الدولة العميقة رصدت مثل الجميع حجم تعاطف كادر الامن الذي يقوم بواجبه بكل حال مع المعتصمين كما رصدت حجم التفهم لحراك الناس لأن الكادر الأمني كبقية المواطنين من ضحايا التضخم وارتفاع الاسعار وبالتالي وبعد الرصد برز القرار السياسي العميق الذي قرر «التنفيس» على الجميع. وبكل حال بدا ان الدولة وفي ظل الوضع المحتقن الذي وضعت فيه حكومة الرئيس هاني الملقي البلاد والعباد تطور نظرتها «الحكيمة» لمسار الأحداث وتقرر ان «تفلت حرية التعبير» وتراقب في الأثناء «اي انفلات» فالأمن موجود ويحيط بالتحركات الشعبية ووظيفته أولاً حمايتها وينتقل لـ»قمعها» عندما تنحرف البوصلة.

المجازفة كانت كلفتها كبيرة في حال إقرار قواعد «الخشونة» مع الشارع والمنظومة الامنية اظهرت مرونة كبيرة في التعاطي مع المشهد بعدما اعترضت مبكراً ولفتت النظر للاحتقان الذي ينتجه في الناس طاقم التأزيم الوزاري في حكومة الملقي المقالة والذي تصادف انه الطاقم المحسوب على مؤسسة القصر حيث وزير التخطيط عماد فاخوري ونائب الرئيس جعفر حسان وكلاهما كان مديرا لمكتب الملك.

وحيث عمر ملحس وزير المالية الذي رفض طوال الوقت أي تسوية من أي نوع تدفعه لإظهار ولو قدر من احترام كلفة الاصلاح على شرائح المجتمع وعلى اساس ان تلك «ليست وظيفتي» كما قال مباشرة رداً على استفسار لـ»القدس العربي» ومرتين في مناسبتين.

ثمة في الافق التحليلي طبعاً من يتصور بان المنظومة الامنية اضطرت للنعومة والاسترخاء لأن كلفة الاتجاه المعاكس كانت كبيرة ولأن دوائر القرار تعرف «ما الذي حصل الصيف الماضي» أو لأن «الضربة» عبر تحريك الشارع او توظيفة إذا تحرك لا يمكن تحديد الجهة الراعية لها. العزف هنا واضح على نغمة «خوف السلطة» من احتجاجات يمكن استثمارها إقليمياً من أكثر من جهة معادية او تستهدف الأردن وعليه تقرر «احتضان الشارع» أمنيًا بدلا من تركه للآخرين خصوصاً مع غموض تفاصيل «الإضراب الاول» الناجح الذي افلت الامور من عقالها.

وثمة من بات واثقاً من أن عناصر الدهاء الخبيرة في إدارة الدولة العميقة نجحت في استعمال حراك الأردنيين المنظم الواعي في إطار عملية «مقايضة» سياسية اقليمية تستثمر على المستوى الاقليمي.

بكل حال وبصرف النظر عن الخلفيات وعناصر الدهاء من المتوقع ان وجه الأردن بعد الثلاثين من الشهر الماضي يختلف عنه بعد نجاح الاضراب الاول وإن كانت قوى الشد العكسي قد اظهرت خلف الستارة بعض المقاومة وحاولت استعادة الاسلوب النمطي في التصدي لحراك شعبي مدني حضاري باستدعاء ظاهرتين مؤسفتين: استعراضات «الولاء» الكلاسيكية البدائية أولاً، وبعض مظاهر الحراك العنيفة خصوصاً في الأطراف ثانياً.

حراك المدن الرئيسية فوّت الفرصة وأجهض هذا النمط من التآمر الميداني على الاعتصامات ومن المرجح ان الدولة العميقة لم تعترض هنا والنظام له مصلحة في مدنية الاحتجاج والشارع نفسه أوعى الان من اي وقت سابق. لكن بعد التقاط الانفاس قد يحاول رموز التأزيم خصوصاً من داخل المؤسسة مجدداً.

كلمات دلالية