اختراع "أرض إسرائيل" و محاولات الإبادة الجماعية للحقيقة التاريخية

الساعة 05:04 م|19 ابريل 2018

كتب: حسن لافي

في الوقت الذي تمكّن فيه الفلسطيني من خلال مسيرات العودة الشعبية ذات الطابع السلمي من بعث الروح لقضيته الفلسطينية من جديد كطائر الفينيق من تحت ركام زلازل الربيع العربي، لتعود مجدّداً رواية نكبة الشعب الفلسطيني اللاجئ والمُهجّر من أرضه ووطنه على يد القوّة الصهيونية الاحتلالية الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية إلى واجهة الإعلام والنقاش الدولي.

في هذا التوقيت بالذات تخرج علينا زُمرة من التصريحات الصهيو _ عربية، التي تتنافس في ما بينها على الاعتراف بأحقيّة "إسرائيل" الصهيونية اليهودية في أرض فلسطين العربية، كجزءٍ من الوطن التاريخي لأجداد الشعب اليهودي، فهل يا تُرى هذه التصريحات تأتي في سياق التحضيرات لتمرير صفقة القرن؟، واستكمالاً لمسيرة ابتدأها سيّدهم الأميركي في محاولته لشطب تاريخ القدس العربي الفلسطيني، مُنصِّباً بذلك نفسه قائداً لمسيرة كيّ الوعي العربي، ومؤرّخاً لحقبة تاريخية يكتب فيها نتنياهو رسالة رمزية إلى مؤسّس دولة الاحتلال " ديفيد بن غوريون" قائلاً فيها: " لقد طوّرنا علاقات مع العرب كانت بالنسبة إليك خيالية، واليوم هي حقيقة واقعة، لقد زرعنا في الدول العربية إننا لسنا عدواً بل حليفاً حيوياً لهم".
إن كان الأمر كذلك، أعترف أن الرد على تلك الزُمْرَة ليس في أسطر هذه المقالة، ولكن بما يصنعه المقاومون على حدود غزّة، والمرابطون في أكناف بيت المقدس، ويعزّزه حرّاس شجر الأرز الشامِخ، ويؤكّد عليه حُماة أبواب دمشق الأبيّة، حتى لا تمرّ مخطّطات الإبادة الجماعية للذاكِرة التاريخية العربية.
لكن إن كانت هذه المواقف صادرة عن جهلٍ في تاريخ الصهيونية، تصبح محو الأميّة العربية بها واجباً وطنياً، وأداة حقيقية من أدوات المقاومة العربية، وسلاحاً من أسلحة صراعها في مواجهة المشروع الصهيو _ أميركي في ظلّ استهداف الرواية التاريخية الفلسطينية.
دأبت الحركة الصهيونية في تصوير أرض فلسطين العربية على أنها بقايا زمن الآباء في فترة الكتاب المقدّس، هادِفة من وراء ذلك تفريغ "أرض الميعاد" من سكانها الفلسطينيين الأصليين ، التي أطلقوا عليها الوطن القومي اليهودي، وطمْس التاريخ الفلسطيني المستمر على هذه الأرض بلا انقطاع لأكثر من ثلاثة آلاف عام، بل اعتباره فترة خلاء تاريخي، وتسويقه على أنه لحظة خارجة عن السياق الحقيقي للتاريخ المقدّس لأرض الميعاد، الذي لا يتجلّى جوهر تاريخها الإلهي إلا بعودة اليهود "شعب الله المُختار " إليها، وبذلك يمثل وجود الشعب الفلسطيني في الرواية التاريخية الصهيونية دور الحارس للأرض فقط حتى مجيء اليهود، وبالتأكيد مع عودتهم لابدّ من إفراغ الأرض من الفلسطيني، لأن دوره في التاريخ قد انتهى ، وهذا ما عبّر عنه "ثيودور هرتسل" عندما كتب" إذا كنت أرغب في استبدال مبنى قديم بجديد، فعليّ أن أُدمّر القديم قبل أن أبدأ بالبناء"، لذلك ارتبط بناء الوطن القومي الاستيطاني "إسرائيل" بعملية أدّت إلى اقتلاع الفلسطينيين الأصليين من أرضهم " نكبة عام 1948"، التي تسوّقها الصهيونية على أنها "عودة" وليست غزواً واستلاباً، ولادة ثانية في "أرض الأجداد"، وليس استعماراً استيطانياً عنصرياً لأرض فلسطين.
هذا المنطق الصهيوني المُرتكز على كمٍ هائلٍ من الأساطير الدينية والتاريخية اللصيقة بأسفار العهد القديم التوراتية، وخاصة سفر "يشوع" ، التي تمت إعادة صوغها بمفاهيم علمانية، مصبوغة بالأفكار القومية الأوروبية ذات النزعة العنصرية، ليس باستطاعة هذا المنطق الحفاظ على استمرارية الخداع، والنجاح في التمويه والتعمية على أن المشروع الصهيوني ليس في حقيقته إلا مشروع كولونيالي استيطاني إحلالي، يؤدّي دوراً وظيفياً في إطار خدمة الدوائر الاستعمارية الغربية داخل منطقة استراتيجية حسّاسة لمصالحها العالمية، بل إن مشروعيّة قيام دولة يهودية اعتماداً على حق تاريخي أو ديني على أرض فلسطين بات غير مقبول، ليس من الخارج الإنساني فقط، بل أيضاً من الداخل الصهيوني نفسه، حيث أصبحت هناك ظاهرة داخل الأوساط الأكاديمية الصهيونية تُسمّى بالمؤرّخين الجُدُد, الذين يعملون على تقويض الأسُس السردية التي ارتكزت عليها الصهيونية في تسويق شرعية روايتها.
البروفيسور "شلومو ساند" أستاذ التاريخ المُعاصِر في جامعة تل أبيب ، ألّف ثلاثة كتب هي "اختراع الشعب اليهودي" ، " اختراع أرض إسرائيل"، و" كيف لم أعد يهودياً؟"، والتي من خلالها يُقدّم دراسة تحليلية جذرية لمجموعة من المُسلّمات الصهيونية الصنمية الكاذبة ، وذلك عبر إخضاعها إلى محاكمة تاريخية ذات منهجية علمية صارِمة، أهم هذه المُسلّمات أن فلسطين هي عبارة عن "أرض إسرائيل" الوطن التاريخي للشعب اليهودي ، وفي هذا السياق يخلُص ساند إلى أن الحركة الصهيونية في سبيل إثبات صلة الشعب اليهودي_ المخترَع أصلاً_ بفلسطين تم اختراع إسم لها هو "أرض إسرائيل"، وجرى استخدامه كأداة توجيه، ورافِعة للتخيّل الجغرافي للاستيطان الصهيوني منذ أن بدأ قبل أكثر من مئة عام ، بل ويثبت أن الحركة الصهيونية هي التي سرقت هذا المُصطلح، وهو ديني في جوهره ذو بُعدٍ روحي عاطفي ليس إلا، وحوّلته إلى مُصطلحٍ جيو سياسي بالمفهوم المُعاصِر، بموجبه جعلت تلك الأرض وطناً لليهود.
في الخلاصة، مهما كانت الدوافع التي تقف من وراء تهافُت البعض العربي تجاه تبنّي الرواية الصهيونية الزائِفة، لا يمكن لأيّ كاتب للتاريخ أن يستثني الحق الفلسطيني في القدس العاصمة الأبدية لأرض فلسطين العربية.

كلمات دلالية