خبر اللهاث وراء سراب التسوية.. بقلم/ حسن نافعة

الساعة 08:13 ص|22 نوفمبر 2017

فلسطين اليوم

في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 1977، أقلعت طائرة أنور السادات، رئيس أكبر دولة عربية، متجهة نحو مطار بن غوريون، وشبه بعضهم لحظة هبوطها على أرضه بلحظة هبوط أول إنسان على سطح القمر. وعلى رغم شكوك عميقة راودت كثراً، كنت واحداً منهم، حول إمكان أن تفضي زيارة السادات إلى القدس، والتي لم تكن لتخطر على بال أكثر الحالمين بالسلام جنوحاً، إلى تسوية نهائية وعادلة للصراع العربي- الإسرائيلي، إلا أنها نجحت في شد أنظار العالم كله وفجرت آمالاً عريضة تجاوزت بكثير ما يمكن أن تحتمله حقائق وموازين الصراع على الأرض.

ما زلت أذكر وقائع تلك اللحظة الفريدة، من عمر إنسان قضى مرحلة شبابه كلها في عهد عبدالناصر. فقبل ذلك اليوم المشهود بأيام قليلة، كنت قد عدت إلى مصر في نهاية بعثة للدراسة في فرنسا استمرت سنوات عدة، وتوجهت عقب وصولي إلى القرية التي تقطنها أسرتي في محافظة البحيرة لقضاء إجازة عيد الأضحى المبارك، حيث تزامنت زيارة القدس، إذا لم تخنّي الذاكرة مع وقفة عرفات. خفق قلبي بشدة حين بدأت عجلات الطائرة التي تقل السادات تلامس مطار بن غوريون، بينما كنت أتابع المشهد وأنا ممدد على سريري في مواجهة تلفاز أمامي، وما إن أطل السادات برأسه من جسم الطائرة حتى بدأ جسدي يرتعش من نوبة حمى شديدة أصابته فجأة، وما إن بدأ يصافح مستقبليه، وبينهم قادة عسكريون شاركوا في القتال في حرب 1973 التي لم تكن دماء الشهداء المصريين فيها قد جفت بعد، حتى انتابتني نوبة بكاء لم أتمكن من السيطرة عليها إلا بعد جهد جهيد.

لم أستطع حتى يومنا هذا أن أتبين نوع المشاعر التي كانت تجيش في صدري في تلك اللحظة، وما إذا كانت تعكس إحساساً بالمهانة من خطوة بدت لي وقتذاك نوعاً من الاستسلام ليس له ما يبرره، أم بالسخط على حاكم بدا لي متهوراً، أم بالخوف على مصر ومستقبلها من مغامرة غير مأمونة العواقب، خصوصاً أن المقدمات لم تكن توحي مطلقاً بنتائج مطمئنة. لكن ما إن هدأت مشاعري المضطربة حتى أصبحت في حالة أقرب ما تكون إلى الاستسلام لقضاء الله وقدره، وبدأت أحاول استيعاب حقيقة ما يُجرى أمامي شيئاً فشيئاً وأتابع ردود الفعل المحلية والإقليمية والدولية بقدر أكبر من الهدوء وصفاء الذهن. وحين شاهدت جموع الشعب المصري تتوجه نحو المطار لاستقبال السادات عند عودته من القدس، كأنه بطل منتصر، بذلت جهداً كبيراً قبل أن أهتدي إلى سبب مقنع وقلت في نفسي: ربما كان الحنين الجارف للعيش في سلام أو الرغبة العارمة في الخروج من شظف العيش الذي فرضته أوضاع الهزيمة التي لحقت بنا عام 1967. لكن، ما هي إلا شهور قليلة حتى بدأت الأحلام الوردية تتراجع ويستعيد الناس وعيهم على وقع طبول الصلف الإسرائيلي الذي بدا صادماً لكل مشاعر إنسانية نبيلة. ولأن السادات راح ينغرس عميقاً في وحل الطريق الذي اختاره بنفسه فلم يجد في نهايته من خيار آخر سوى التوقيع عام 1978 على اتفاقيتي كامب ديفيد، ثم على معاهدة سلام منفصلة عام 1979.

بعد إبرام هذه المعاهدة بفترة وجيزة، كتبت بحثاً حمل عنوان «مصر والصراع العربي- الإسرائيلي: من الصراع المحتوم إلى التسوية المستحيلة»، نشره مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عام 1984، خلصت فيه إلى أن المعاهدة التي أبرمها السادات ستلحق أفدح الضرر ليس فقط بالقضية الفلسطينية وإنما بمصر وبالعرب أجمعين، وأن النهج الذي سار عليه لن يفضي إلى تسوية شاملة أو عادلة وأن تحقيق سلام حقيقي مع إسرائيل، في ظل موازين القوى القائمة، هو المستحيل بعينه وهو نوع من الجري وراء سراب يحسبه الظمآن ماءً. اليوم، وبعد مرور أربعين عاماً على زيارة السادات للقدس علينا أن نسأل أنفسنا: لماذا ظل السلام غائباً حتى الآن وقبلنا الاستسلام رافعين شعاراً مخادعاً يسمى «السلام البارد»؟ وإلى متى سيظل العرب يلهثون وراء إسرائيل طلباً للسلام، على رغم أنهم يدركون تمام الإدراك أن السلام الحقيقي معها لن يصبح ممكناً إلا بعد تصحيح معادلة الخلل التي تحكم موازين الصراع؟ ولماذا يقبل العرب في كل منعطف تقديم المزيد من التنازلات بحثاً عن «سلام» ثبت بالدليل القاطع أنه «سراب» لأن إسرائيل تصر على إلحاق الهزيمة الكاملة بالعرب، بدلاً من العيش في سلام معهم وتسعى إلى فرض تسوية بشروطها هي وليس تسوية «عادلة» وفقاً للمفهوم العربي المتسق مع مفهوم القانون الدولي؟

أظن أننا لن نستطيع العثور على إجابة شافية عن أي من هذه الأسئلة الملحة والمشروعة، إلا إذا أدركنا حقيقتين على جانب كبير من الأهمية:

الحقيقة الأولى: تشير إلى أن إسرائيل تعاملت مع كل «مبادرات السلام العربية» التي قدمها العرب في ما مضى، وسوف تتعامل مع أي مبادرات قد يتقدمون بها في المستقبل باعتبارها دليل ضعف وليس قوة، وتعبيراً بالتالي عن «حاجة المضطر» لأن إسرائيل تعتقد أن العرب هم الأحوج دائماً إلى السلام. ولأنها تدرك يقيناً أن موازين القوة تعمل دائماً لمصلحتها، تتصرف إسرائيل دائماً على أساس أن ما سيرفض العرب قبوله الآن سيضطرون للهث وراءه غداً أو بعد غدٍ، بل وقد لا يستطيعون الحصول عليه لأنهم سيجدون أنفسهم حينئذ أمام أمر واقع جديد يجبرهم على تقديم المزيد من التنازلات!

الحقيقة الثانية: تقول إن إسرائيل تدرك تمام الإدراك أن السلام الحقيقي يبرم بين الشعوب وليس الحكومات. ولأنها تعلم يقيناً أن الحكومات العربية ليست منتخبة، وبالتالي لا يمكنها التعبير عن تطلعات شعوبها، فأي سلام تبرمه معها سيكون بالضرورة مدفوعاً بالحرص على إنقاذ نفسها وليس للمحافظة على مصالح شعوبها التي تتناقض تماماً مع مصالحها. لذا، فإسرائيل تجد نفسها دائماً في وضع يسمح لها بابتزاز النظم العربية الحاكمة والحصول منها على تنازلات لا تتوقف عند حد وتضطر دائماً لتقديم المزيد منها.

دعونا نذكّر هنا ببعض الحقائق المتعلقة بزيارة السادات للقدس، التي تحتفل إسرائيل بذكرى مرور أربعين عاماً عليها:

1- لم يتشاور السادات مع أي من المسؤولين المصريين أو العرب في شأن قراره زيارة القدس، ولم يخضعه لأي دراسة مسبقة.

2- أجريت قبل هذه الزيارة محادثات سرية في المغرب بين حسن التهامي وموشيه دايان، اتضح من خلالها أن أقصى ما يمكن لمصر أن تحصل عليه هو عودة سيناء فقط بشروط، ولا مجال لأي تسوية شاملة، وبالتالي كان السادات يدرك قبل زيارته إسرائيل أن إبرام معاهدة سلام منفرد مع مصر هو الطريق الوحيد المفتوح أمامه. ومن الطريف أن كمال حسن علي، رئيس المخابرات الحربية المصرية في ذلك الوقت، كلف بالتوجه إلى المغرب مع حسن التهامي من دون معرفة الهدف من الزيارة ولم يتعرف حتى إلى دايان الذي كان يضع نظارة سوداء على عينيه! (راجع مذكرات نبيل العربي ص 94)

3- استقال إسماعيل فهمي، وزير الخارجية المصري وقتذاك، بسبب عدم استشارته مسبقاً، واعتبر محمد رياض، وزير الدولة للشؤون الخارجية، مستقيلاً لأنه تردد في إعداد برنامج زيارة «غير بروتوكولية».

4- رفض الفريق الجمسي، وزير الدفاع وقتذاك، رفضاً قاطعاً اجتماع «اللجنة العسكرية» التي كان يفترض أن يرأسها في القدس وقال لوزير الدولة للشؤون الخارجية حين علم منه بأمر هذا الاجتماع أنه يرفض «كجندي مصري يحترم البذلة العسكرية التي يرتديها أن تطأ قدماه أرض إسرائيل، قبل أن انسحاب آخر جندي إسرائيلي من آخر شبر من الأراضي المصرية المحتلة».

5- رفض محمد إبراهيم كامل، صديق السادات ووزير خارجية مصر المعين بعد فهمي المستقيل احتجاجاً على زيارة القدس واتفاقيتي كامب ديفيد، وقدم بدوره استقالته التي لم يعلنها إلا بعد عودته إلى مصر.

بعد أربعين سنة من زيارة القدس، التي اتخذ السادات قرارها منفرداً، لم تحصل مصر على استقرار أو ازدهار، وتحولت سيناء المنزوعة السلاح إلى مرتع للإرهابيين، ومع ذلك، يحاول بعضهم قلب الموازين فمتى نتعلم الدرس؟

كلمات دلالية