خبر مئوية بلفور بين الذكرى والمستقبل .. بقلم حياة الحويك عطية

الساعة 03:23 م|01 نوفمبر 2017

فلسطين اليوم

مئوية بلفور بين الذكرى والمستقبل بقلم الكاتبة حياة الحويك عطية 

في منطقتنا، طرح الكثيرون مفاهيم مقاربة، لكن أحداً لم يبلور هذه الرؤية بوضوح منذ الثلاثينات، كما فعل انطون سعادة: القومية الاجتماعية، المتجاوزة للعرق والإثنية والدين والطوائف، إلى نعت واحد؛ المواطنة الناتجة عن تفاعل الإنسان مع الأرض فترة زمنية تسمى التاريخ، تفاعل تنجم عنه ثقافة ولغة وخط فكري ذو خصوصية عامة توحّد الجميع وتصون لهم خصوصياتهم وحرياتهم الدينية والدنيوية على حد سواء.

في البادية السورية (الأردنية الفلسطينية) سلسلة قصور تسمى بالقصور الأموية، يبعد كل منها عن الآخر 30 كيلومتراً بحيث يشكل مجموعها المسافة التي فصلت عاصمة بني أمية عن الحجاز. أحدها اسمه قصر المشتى، تميّز بواجهة رائعة مزخرفة على شكل الدانتيلا، قلّ نظيرها في العالم. بهاؤها سَحَر السلطان العثماني فأهداها إلى الامبراطور غليوم، وهي تقبع حتى الآن في متحف برلين. من لا يملك أهدى ما لا يملك إلى من لا حق له بالملكية. بالطبع لم يدعِ الألمان، حتى في عز عنصريتهم، يوماً ملكيتهم لسوريا الطبيعية ولكن العثمانيين فعلوا وما زالوا يحلمون بعثمنّة تعيدهم إلى السلطنة. قبلهم الفرنجة فعلوا باسم الصليب، وبعدهم اليهود باسم وعدين، واحد إلهي والآخر استعماري.

نموذجان صارخان، الاستعمار في بُعده المصادر لحقوق الشعوب، وربط الحق بهذه المصادرة بالدين. الأول أعطى فلسطين هدية والثاني ادعى بأن الله وهبه أرض اللبن والعسل. في هذا لم يكن بلفور هو الأول، فالوعود تكررت منذ نابوليون. ولكن الوعد تحقق عندما أصبح الوضع الصهيوني، والوضع الدولي مؤاتيان. والأهم عندما أصبح وضعنا نحن مؤاتياً.

هذا ما يحيل إلى منطق الأشياء: لا قيمة للوعود إلا بمدى إمكانية تحقيقها، وبالتالي بالسعي الجاد والصحيح لذلك. على مسافة 100 عام من بلفور، أين نحن اليوم؟ كيف تطور الوضع الصهيوني؟ الوضع الدولي؟ ووضع العرب وتحديداً تلك المنطقة التي يدور كل الرهان على ما إذا كانت سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟ أسئلة يمكن مقاربتها من زوايا متعددة، كلها على نفس القدر من الأهمية، ولكن في أساسها، يبقى الموضوع الفكري.

في محاكمات « نورنبرغ » قال منظر النازية جوليوس شتراير إنه استلهم في فكره مفاهيم التوراة، خاصة سفر اشعيا، كما استلهم التشريعات اليهودية من مثل تحريم الزواج المختلط. وفي تاريخ أوروبا الحديث وقائع مذهلة عن التعاون الصهيوني - النازي، والصهيوني – الفاشي. الأول تترجم بمكتب للهجرة اليهودية في الغستابو، وإقامة جسر بحري بين هامبورغ ويافا، لنقل المهاجرين بعد تدريبهم على يد الألمان على إنشاء مستعمرات زراعية في ملكيات أديرة للراهبات صودرت لهذا الغرض. والثاني تترجم بزيارات وايزمن لموسوليني وإعلان الأخير دعمه للصهيونية، وتخريج أول نواة لسلاح البحرية الإسرائيلي من قاعدة في إيطاليا. ( وفي تفاصيل هذين التعاونين مئات الكتب بمختلف اللغات الأوروبية).

المهم أن عنصرية المشروع الصهيوني التي كان الغرب والشرق، على حد سواء، يحظران الكشف عنها، بفعل تحول الصهاينة في فلسطين إلى امتداد لانتصار الحلفاء، من جهة وبفعل العلاقة الوثيقة بين الحركة الشيوعية واليهود، وبفعل العداء المشترك بين كل هؤلاء لألمانيا النازية. هذه العنصرية باتت إسرائيل نفسها تكشف عنها بوقاحة بالغة مطالبة جهاراً بيهودية الدولة.

كثيرون كتبوا بأن إذكاء المفهوم الديني للدولة في محيط إسرائيل يبرر لها هذه المطالبة، سواء كان هذا المفهوم مسيحياً أو إسلامياً. وذلك ما تتوج بـ « الدولة الإسلامية في العراق والشام ». ولكن قلة هم الذين تجاوزوا إلى القول بأن أي مداراة لمبدأ فصل الدين عن الدولة، ولمبدأ المساواة في المواطنة بصرف النظر عن العرق والدين، سيبقي الأداء الإسرائيلي مقبولاً واعتراضنا عليه مهزوزاً.

كل يوم نقرأ أن إسرائيل هي دولة عنصرية وأن الصهيونية هي حركة عنصرية. وقد نجحنا في موسم الخير انتزاع قرار أممي بذلك، ثم عدنا في مواسم القحط فخسرناه. لكن الكلام عن العنصرية لا يتساوق مع التمييز بين العربي والكردي والسرياني والآشوري والقبطي والشركسي والازيدي، في دولة واحدة. سواء كان هذا التمييز سلبياً باجتزاء الحقوق أو إيجابياً بمنح إثنية معينة حكماً ذاتياً. وإذا أخذنا المسألة الكردية على سبيل المثال، لقلنا إن صدام حسين أخطأ بمنح كردستان حكماً ذاتياً، وسوريا أخطأت في تأخير الجنسيات عن الأكراد، والكل أخطأ في عدم السماح بتدريس اللغة الكردية لمن يشاء، وكذلك السريانية والآرامية  والأشورية، مع الإبقاء على العربية لغة رسمية للبلاد ولغة الثقافة الوطنية. نابوليون يقول: وطني هو اللغة الفرنسية، ولكن ذلك لا يمنع أهل مقاطعة بروتانيا من تعلم لغة خاصة بهم، ولا يمنع المهاجرين العرب من إنشاء مدارس لتعلم العربية، ولكن تحت سقف اللغة الوطنية التي تظل الإلزام الوحيد ولغة التعليم والثقافة والتعامل. إنها التعددية ضمن الوحدة التي طالما كررناها كليشيه ولم نفكر بها جدياً. وهي السؤال الذي يجب أن يوجه إلى الفرنسي الداعم للانفصالية الكردية: هل تقبل بانفصال كورسيكا، أو بروتانيا أو الألزاس؟ هل تقبل باستقلال الفرنك عن الغوليين؟ سيجيبك بالطبع كلهم فرنسيون. ولنتذكر الفزعة غير المعقولة التي قامت بها الدولة الفرنسية العام الماضي إثر الانتخابات المحلية في كورسيكا. لنسأل روسيا بوتين: ماذا فعلت بمحاولة الشيشان الانفصال؟ ولكننا لا نستطيع أن نسال إلا بعد أن نراجع مفهومنا للوطن وللدولة وللقومية. وننتبه إلى أن أي شطط في هذا سيجعل من بلفور حقاً لا وعداً.

في منطقتنا، طرح الكثيرون مفاهيم مقاربة، لكن أحداً لم يبلور هذه الرؤية بوضوح منذ الثلاثينات، كما فعل إنطون سعادة: القومية الاجتماعية، المتجاوزة للعرق والإثنية والدين والطوائف، إلى نعت واحد هو المواطنة الناتجة عن تفاعل الإنسان مع الأرض فترة زمنية تسمى التاريخ، تفاعل تنجم عنه ثقافة ولغة وخط فكري ذو خصوصية عامة توحد الجميع وتصون لهم خصوصياتهم وحرياتهم الدينية والدنيوية على حد سواء.

ولكننا ما نزال، بيسارنا ويميننا، نتحدث عن القومية الكردية والقومية التركمانية وووووو... ونجعل العربية واحدة منها ثم نريد فرضها على الآخرين. فكيف إذاً نريد بناء دولة؟ وكيف نرد على بلفور؟ والسؤال الأخطر: كيف نحمي أنفسنا من التفتت والتشرذم، دينياً مرة، وعرقياً، مرة أخرى، تشرذم يجعل من بلفور، لا مجرد ذكرى تاريخية، نرفضها حقوقياً، بل أساساً قائماً متحققاً لأجيال قادمة؟

 

كلمات دلالية