خبر الشقاقي على قدر يجيء... الشيخ: نافذ عزام

الساعة 06:16 ص|26 أكتوبر 2017

فلسطين اليوم

بقلم : الشيخ: نافذ عزام

من حق الشقاقي علينا أن نعرض سيرته على الأجيال كلها كواحد من عظماء  هذا الشعب وهذه الأمة، وما فعله في عمره القصير أثّر ولازال في هذا الصراع وفي حاضر الشعب الفلسطيني ومستقبله أيضا..

في شخصيته اجتمعت أخلاق الإنسان والسياسي والمفكر والزعيم وهذا شيء لافت في زمن غلب التناقض فيه على سلوك القادة وسياساتهم.. فمن عاش معه أو اقترب منه أدرك هذا الجوهر النادر حيث لم يغادر الشقاقي صدقه وطهره وهو يمارس السياسة ويواجه عالماً مليئاً بالمتناقضات والتعقيدات، وهذا ربما ما جعله يطبع روحه على كل مكان وكل مناسبة وكل حادثة ولا نظن أن هناك ما هو أقوى من الموقف المطبوع بروح صاحبه وأنفاسه..

رحلة الشقاقي القصيرة الطويلة في آن، كانت تعبيراً صادقاً عن رحلة أي باحث عن الحقيقة، وساع من أجل عالم أقل قبحاً، ولد بعد نكبة شعبه الأولى بثلاث سنوات في مخيم لجوء أُجبرت عائلته على الهجرة إليه، وفي عمر الثلاث السنوات انتقل إلى مخيم آخر في جنوب فلسطين وجنوب قطاع غزة، في مدينة رفح، شكّل المخيم ملامحه الأولى فكراً وسلوكاً ووجعاً، ولذلك لم تكن السياسة طارئة على حياته، ولم تكن الثقافة الواسعة التي حازها بقصد الاستمتاع والرفاهية، فكل شيء انتظم عنده وبشكل مبكر لتعديل مسار الحياة.

من أطلع على رسائله القديمة حين كان طالباً في معهد بيرزيت شعر بتوجعه واحتراقه، ومن سمعه بعد أن توجه لدراسة الطب في جامعة الزقازيق قرب القاهرة، أدرك أنه أمام طراز فريد من البشر .. كل همه وحيرته وحواراته وأبحاثه كانت تتمحور حول الإسلام ودوره في حياة الناس، حول فلسطين وموقعها في الإسلام والتاريخ.. وحول التاريخ وضرورة وعي مراحله ومحطاته.. وقبل كل شيء حول الإنسان الذي يستحق حياة أفضل.. كان مسكوناً حد التماهي بهمّ الإنسان ووجعه وجوعه وفقره، وتوقه للحرية والعدالة بغض النظر عن المعتقد والهوية.. وكان مؤمناً حد اليقين بقدرة الأمة على استعادة مجدها وبناء نموذجها من جديد، واعتبر أن النظر إلى فلسطين يصحح كل شيء فعندما يكون النظر إليها بروح القرآن وإشراق التاريخ، ستكون هي مركز الجهد والفاعلية، وستكون نقطة ارتكاز الأمة كلها لإبداع مشروع النهوض الجديد فهو لم يتعامل مع المأساة الفلسطينية على أنها قضية سياسية عادلة فحسب، بل اعتبرها معيار الخير والشر، وبوصلة القلب والعقل، ولذلك قدم كل شيء يمتلكه لتكون فلسطين أزهى وأكثر نضارة، ابتعد عن المساومات وأنصاف الحلول وكرّس  حياته كلها لتقوية تمام الحق في مواجهة تمام الباطل.

أذكر لقائي الأول به صيف عام 1978 في مناسبة اجتماعية .. كنا طلاباً في كلية الطب لما نزل...كان وقتها  من كوادر الإخوان المسلمين والحضور خمسة أو ستة من كوادر الإخوان أيضا.. تحدث وقتها عن أهمية الوقت في حياة الانسان والفرد المسلم على وجه الخصوص.. حديثه لم يكن مألوفاً، وشعرت أنني أمام إنسان مختلف .. بعدها بشهور قدر الله أن أسكن معه في شقة واحدة في مدينة الزقازيق المصرية، وأظن أنه ساهم وبقوة في جعلي وجعل جيل كامل ننظر إلى الحياة نظرة أخرى .. كان بالضبط ينفض الغبار عن تاريخ الإسلام وقيمه ويجعلها تبدو كما أريد لها، فاعلة وحية وملهمة ووضع فلسطين في المكان الذي احتلته منذ رحلة الإسراء بعد أن تدخلت عناصر وظروف عديدة لتنتزعها من ذلك المكان المقدس.

 لم يبخس الشقاقي حق أحد من الذين سبقوه، لذا من حقه علينا أيضاً أن نقول إنه أسهم وبقوة في تغيير معادلة الحياة في فلسطين، من حقه علينا أن نذكر دوره في تصويب البوصلة، وابتكار خطاب جديد، بدأ غريباً في سبعينيات القرن الماضي لكنه بات جزءاً لا يتجزأ من وعينا وثقافتنا ومشاعرنا .. وكان له دور كبير في تعزيز الأمل واليقين بالمستقبل..

وحتى في الأدب والشعر كان الشقاقي رائداً وصاحب رؤية متميزة، اعتبر أن الأدب ضروري لرؤية الحياة على حقيقتها وطالما ردد أن الشعر يطهر الإنسان ويسمو بكيانه.. هو الذي أدخلنا إلى عالم محمود درويش وبدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل.. وكان له دور كبير في الإطلالة على أدب نجيب محفوظ ويوسف ادريس والطيب صالح وعبد الرحمن منيف، وحتى على صعيد الأدب العالمي، كان يؤكد على عدم وجود حواجز تمنع من الاستفادة والانفعال بتجارب الآخرين.

أذكر أنه في اليوم الأول لخروجه من السجن عام 1984 وأثناء زيارتي له للتهنئة والسلامة، حدثي عن رواية استثنائية قرأها في السجن واعتبرها أيقونة في الأدب الروائي ونصحني بقراءتها دون تأخير.. وقال إنها تمثل صورة عن المواجهة الممتدة بين الخير والشر.. بين الحق والباطل.. وكانت رواية» المسيح يصلب من جديد «فعلاً كما وصفها .. إذا نزعنا فيها الاسماء والأمكنة، تصبح سرداً للحياة الإنسانية باضطرابها وزخمها وتناقضاتها وما يعيشه الإنسان الذي يهفو لعالم متوازن وأخلاقي.. كان الشقاقي يرى أن الحياة نعمة كبيرة تستحق المثابرة والنضال لتخليصها من الظلم والاستبداد والقبح وانسحبت رؤيته تلك على مناحي الحياة كلها .

من حقه علينا بعد اثنين وعشرين عاماً على غيابه أن نفتقده وأن نحكي عنه لإخواننا وأبنائنا وكل من سيأتي.. أن نحكي عن فتحي الشقاقي الومضة التي أضاءت علينا وأعطتنا قدرة مدهشة على الإبصار مهما اشتدت العتمة ومهما زاغت الأبصار.. فيا فتحي الشقاقي يا أنت .. سلاماً إليك وعليك!

كلمات دلالية