خبر الانتفاضة في خطاب الشهيد فتحي الشقاقي.. بقلم: هيثم محمد أبو الغزلان

الساعة 11:29 ص|20 أكتوبر 2017

بقلم

ليس عبثًا اختيار دراسة الانتفاضة في خطاب الأمين العام السابق لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، الذي يعتبر الانتفاضة ضد الاحتلال الإسرائيلي « في أحد أهم جوانبها ومعانيها، عملية فوق العادة، وفعل استثنائي لاكتشاف الذات وتحقيق الهوية، تلك الذات وتلك الهوية التي حاولوا تغييبها وحاولوا طمسها، كما حاولوا سحق الجماهير التي تحملها وتطوي القلب عليها، تلك الجماهير التي حاولوا طرق أصابعها فوق السندان ودفعها وظهرها إلى الحائط.. ». ولهذا فإن أهمية دراسة هذا الخطاب جاءت كونه مارس دورًا مهمًا في تشكيل وعي الجماهير وموقفهم، وبالتالي سلوكياتهم تجاه الفعل المقاوِم للاحتلال.

وما بين تفجّر انتفاضة الحجارة في العام 1987، وإبعاد الشقاقي إلى الأراضي اللبنانية في (1/8/1988)، حتى اغتيال الموساد الصهيوني له في مالطا في العام 1995، استمرت حركة الجهاد الإسلامي في مقاومتها، واستمر الشعب الفلسطيني في انتفاضته ضد العدو الصهيوني. وهذا يشير إلى صوابية المنهج الذي اختطّه الشقاقي واخوانه، وصوابية الفكرة التي بذر بذورها ورُوِيت بالدماء.

وإذا كان الكثيرون لأسباب عديدة لا تتوافق خطاباتهم مع حركتهم الواقعية، إلا أن الشهيد الشقاقي كان خطابه موافقًا لحركته الواقعية، وقد نُقل عنه أنه قال: « لا تصدقونني إلا عندما ترون الدم على بطني ». وهو الذي ردّ على سؤال صحفي حول كونه المطلوب رقم واحد للعدو الصهيوني، فقال إنه عاش أكثر مما يتصور وأن العدو سيندم على اغتياله، وهو ما حصل فعلًا، إذ بعد اغتياله جاء الرد الإلهي بقتل رابين المسؤول عن أمر اغتيال الشقاقي رحمه الله.

الخطاب بين الشكل والمضمون

ارتكز خطاب الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي إلى منظومة فكرية إسلامية ثورية وطنية تحمل مفاهيم تثويرية وتسعى إلى تقديم تصورات محددة إزاء الصراع مع العدو الصهيوني. ولهذا نراه في خطاباته يؤكد على وجود الصعوبات في طريق المقاومة والجهاد، ويقارن بين « نارين نار الذل والهوان ونار الجهاد والمقاومة والاستشهاد، نار تقود إلى النقمة ونار تقود إلى النعمة والرضوان وعلينا أن نختار ».

وتميّز خطاب الشقاقي باستخدامه الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة، ووالإرتكاز إلى التاريخ، والأمثلة الواقعية، والشعر مما أغنى خطاباته وجعلها أكثر قدرة على التأثير وإيصال الرسالة المُراد إيصالها، خصوصًا أن ذلك ترافق مع قدرة على الاقناع بشكل موضوعي مستندًا إلى الواقعية الثورية، وتجاربه الشخصية في مقاومة الاحتلال والاعتقال والإبعاد..

أما لناحية شكل الخطاب فقد اتصف بمزايا عديدة فيها من التناسق الجمالي واستخدام جمل ومفردات تحث على المقاومة بانسيابية جمالية عالية تشد المستمع أو المشاهد حد التماهي، مع التركيز على مخاطبة عقل ووجدان المُخَاطب..

ولعل أفضل وصف جامع للشهيد الشقاقي ما قاله الدكتور رمضان عبد الله شلح الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي قي فلسطين الذي وصفه بأنه: « كان أصلب من الفولاذ، وأمضى من السيف، وأرقّ من النسمة، كان بسيطًا إلى حد الذهول، مركبًا إلى حد المعجزة!. كان ممتلئًا إيمانًا، ووعيًا، وعشقًا، وثورة من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، عاش بيننا لكنه لم يكن لنا، لم نلتقط السر المنسكب إليه من النبع الصافي »وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي« ، »وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي« ، لكن روحه المشتعلة التقطت الإشارة فغادرنا مسرعًا ملبيًا »وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى« .

سياقات الخطاب

توجد سياقات عديدة لما ورد من ذكر الانتفاضة في خطاب الشهيد فتحي الشقاقي، يمكن حصرها بأربعة سياقات محددة: تعرض وتُعرّف الانتفاضة وتوضحها، والتعرض إلى جهاد ومقاومة المنتفضين، والمطالبة باستمرار الانتفاضة ودعمها، وتأكيد الحرص على عدم حصر الجهد الجماهيري للانتفاضة بجهة محددة وإن كانت حركة الجهاد الإسلامي..

عرض عام تعريفي وتوضيحي

قال الدكتور فتحي الشقاقي خلال محاضرة في مدينة صيدا، جنوب لبنان، حول »الثورة الشعبية الفلسطينية: جذورها وآفاقها المستقبلية« ، بتاريخ (26/8/1988) إن »الانتفاضة حسب التاريخ الرسمي بدأت في 9 كانون أول (ديسمبر) 1987، ولكن كل مراقب يفهم الساحة الفلسطينية جيداً ويتابعها جيداً يدرك أنها بدأت في السادس من تشرين أول (أكتوبر) 1987 أي قبل شهرين من هذا التاريخ الرسمي الذي تعارفنا عليه. في هذا اليوم، قامت مجموعة من الشباب المجاهد، وكانت العملية الإستشهادية الجريئة في غزة في حي الشجاعية بالذات. هذه العملية الإستشهادية التي جاءت تتويجاً لعدة عمليات عسكرية جهادية بطولية، استيقظت الأمة على هذا الدم المجاهد الجديد وهو يخضب ثرى الوطن، استيقظت الأمة لترى هذا الفعل الكبير يوقظ في داخلها طاقة لم تكن في حسبان أحد. ومنذ ذلك اليوم وحتى كانون أول 1987 كانت تتفجر في قطاع غزة بالتحديد انتفاضة محدودة أو انتفاضة تمهيدية، مظاهرات هنا وهناك، وإضرابات هنا وهناك« .

ويضيف: »هكذا أدرك العدو بعد أيام ماذا يعني ما أسموه شغباً وأنها انتفاضة حقيقية.. المظاهرات العارمة، المظاهرات التي أمسكت بالحجارة المقدسة التي باركها الله ولذلك كانت على رؤوسهم كحجارة من سجيل.. لقد قذف شعبنا الفلسطيني المسلم حجراً ضخماً في مياه العالم الراكدة ولا زال هذا الحجر يفعل فعله العجيب..، ومن مرحلة إلى مرحلة كانت تمضي الانتفاضة« ..

ويوضح أن »شعبنا في فلسطين كان كمن يصعد سلّماً كلما تجاوز درجة من السلم احترقت وأصبح من غير الممكن العودة إلى الوراء، لم يبق أمامه من خيار سوى الصعود والاستمرار وتصعيد الثورة، وهنا علينا أن نقر أننا أمام ثورة حقيقية بكل معنى الكلمة وأننا أمام تغيير نوعي ومتميز في مسار الصراع مع المشروع الصهيوني« ..

ولفهم واضح للصراع ضمن منهجية قراءة العدو الصهيوني لها، قام الدكتور الشقاقي على تقوية خطابه من خلال الاستناد إلى كلام القادة الصهاينة بخصوص الانتفاضة، فأورد: »هكذا فنحن من جديد أمام ثورة حقيقية وصفها رابين وضمن سياق تصريحاته المرتبكة والمتناقضة بأنها « حرب أهلية » فرد عليه أحد العسكريين الصهاينة « لا.. إنها حرب عصابات من نمط جديد »« . كما ووصفها المعلق العسكري الصهيوني يورام بري بأنها حرب ثورية على غرار الحرب الفيتنامية والجزائرية ،وكتب في دافار تحت عنوان (الحرب السابعة): »إن صعوبة تصنيف هذه الحرب وفهمها ليس أمراً عفوياً، فهذه حرب تختلف عن كل الحروب الست السابقة لها« ، إنها حرب من نوع جديد، لم يعرفه الجيش الإسرائيلي من ذي قبل، فهي تختلف عن الحروب التي خاضها الجيش ضد الجيوش النظامية للدول العربية.. كما أن أوجه الشبه بينها وبين أحداث 1936 ضعيفة جداً.

أما المعلق العسكري زئيف شيف فيصف بعد شهرين من الانتفاضة في 12/2/1988 ما يحدث بأنه حرب استنزاف جديدة، ومن نوع آخر لم نعهده من قبل خلال جميع حروبنا.. ويرى زئيف شيف الذي سبق وسمّى حرب تشرين بالزلزال أن مفاجأة (الانتفاضة) كانت مذهلة، وإن لم تنجح »إسرائيل« في العام 1973 في فهم ما كان يجري في القاهرة ودمشق، ففي سنة 1987 لم تنجح أيضاً في ملاحظة ما يحدث في بيتها في حجرة نومها. (هآرتس 5/3/1988) ».

ويصل الشقاقي إلى نتيجة أنه ..« بعد مرور أربعة عقود من الزمن على النكبة الأولى بضياع فلسطين عام 1948 وبعد مرور عقدين على النكبة الثانية بسقوط بيت المقدس عام 1967 وبعد سلسلة من التحولات التي عاشتها المنطقة تحت الهيمنة الأمريكية حتى كاد أن ينطفئ بريق القضية أو يطويها النسيان في المحافل الدولية، في ظل هذا، جاءت الانتفاضة ـ الثورة لتتميز بين ثورات الشعوب المعاصرة وعن غيرها من الأساليب التي واجهنا بها العدو سابقاً ولكنها ليست نبتاً غريباً أو طارئاً بل تأتي من تاريخنا الفلسطيني تتويجاً لتاريخ طويل من النضال والجهاد الذي مارسه شعبنا ولا زال منذ انتفاضة العشرين والحادي والعشرين من هذا القرن إلى هبة وثورة البراق العام 1929 إلى ثورة القسام وخروجه إلى أحراش يعبد وإعلانه الجهاد والثورة إلى الإضراب الكبير وثورة 1936 إلى ملاحم 1948 التي سطرها الثوار والمجاهدون من فلسطين وغيرها، إلى تجارب العمل الفدائي والمقاومة منذ منتصف الستينات إلى انتفاضة مارس /آذار 1979 ضد توقيع الصلح بين النظام المصري والكيان الصهيوني فيما عُرف باتفاق »كامب ديفيد« إلى انتفاضة أبريل / نيسان 1982 إثر الهجوم الذي شنه الجندي الصهيوني جودمان على المسجد الأقصى إلى انتفاضة ديسمبر / كانون أول 1986 إثر مقتل صهيوني في القدس واستشهاد طالبين في بيرزيت إلى انتفاضة فبراير / شباط 1987 وغيرها وغيرها من الانتفاضات والمواجهات ضد العدو الصهيوني، في زمن الاشتباك المستمر منذ الحرب العالمية الأولى وحتى الآن. وهكذا تؤكد الانتفاضة أنها جاءت في سياق نضال وجهاد شعبنا المتواصل وهي في الوقت نفسه تأتي في سياق جهاد الأمة العربية والإسلامية ضد المشروع الاستعماري منذ مطلع القرن التاسع عشر وإلى الآن ».

جهاد ومقاومة المنتفضين

ركّز الدكتور الشقاقي في حديثه عن الانتفاضة على استمراريتها وعلى المدة الزمنية لذلك، ويصف ذلك بأنه « ضرب من المعجزة »، خصوصًا مع « الحصار الدولي والعربي من حولها »، فهذه الانتفاضة تواجه « دولة حديثة وعصرية وجيش حديث وقوي وجهاز أمن من الأخطر في العالم »، ويتطرق إلى تجاهل العدو « الرأي العام وكل الأعراف الإنسانية وممارسته حرباً مباشرة وبشعة ضد شعبنا فقد أطلق النار على الأطفال والنساء والشيوخ حتى وصل عدد شهداء الانتفاضة مع نهاية عامها الثاني إلى أكثر من سبعمائة شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى والآلاف العديدة من المعتقلين »...

ورغم كل ذلك اعتبر الشقاقي أن هذا « الاستمرار والانتشار والتصاعد يشير إلى حيرة العدو وارتباكه وهذا ما لم يحدث من قبل كما يشير إلى قوة الإرادة الشعبية وقوة المخزون الروحي والإيماني الذي يطلق كل هذا الفعل ويحافظ على استمراريته وصموده »، فقد اكتشف ـ بحسب الشقاقي ـ، الشعب الفلسطيني المجاهد موطن القوة فيه في الوقت نفسه الذي اكتشف موطن الضعف في العدو، فضرب ضعف العدو بقوته، وقتل داود جالوت« ..

ويتضح من الكلام الذي يورده الشقاقي الإصرار الجماهيري من خلال فعل الانتفاضة على مطاردة » العدو في داخل المنطقة المحتلة منذ 1948 وشن حرباً نفسية واقتصادية عليه... مما جعل العدو يصرخ: إن هؤلاء لا يريدون غزة والخليل بل يافا وحيفا والناصرة أيضاً« . وبناءً على ذلك فإن الشقاقي يرى أن فعل الانتفاضة جعل العدو الصهيوني يقف لأول مرة »أمام مأزق حضاري وسياسي وتاريخي، والتأزم والتفسخ الاجتماعي يصل إلى مداه داخل المجتمع الصهيوني« .

المطالبة باستمرار الانتفاضة ودعمها

كان همّ الشهيد الشقاقي واخوانه هو استمرار الانتفاضة / الثورة، رغم كل المعيقات، ورغم الإجرام الصهيوني المتزايد والمتصاعد. لقد كانت نداءاته المسمّاة (نداء الانتفاضة) تعبيرًا عن حالة الغليان، والرؤية الواضحة لما يتم التحضير له من مفاوضات مع العدو.. ورغم الظروف الصعبة التي أحاطت بالانتفاضة، فقد كان خطابه الثوري واضحًا، ومُتّسمًا بالأمل، إذ يقول مخاطبًا الجماهير الفلسطينية (15-9-1989): »أيها الخارجون بالانتفاضة من القوة الكامنة إلى الفعل المعجز ومن القوة إلى الحرية لتسجلوا بسلاح الإرادة والحجر والاستشهاد، التاريخ الشعبي الحقيقي ضد التاريخ المزيف يا من برق الحجر في أيديكم حين صدأ السلاح في المستودعات. لم يصدأ الحجر حين لم تصدأ الإرادة وصدأ السلاح حين صدأت الروح والقلوب« .

ولم تقف نداءاته على ذلك، بل تعدّته إلى التحذير من محاولات إجهاض الانتفاضة، فقال محذرًا: »..منذ بدء الانتفاضة/ الثورة مرر البعض مناخاً يدعو لإيقاف الكفاح والجهاد المسلح بحجة أن الحجر يكفي سقفاً للانتفاضة، حتى تستقطب الرأي العام وبحجة الخوف عليها وكي لا نعطي العدو فرصة قمعها بالقوة ولكن يعلم الله، يعلم شعبنا وتعلم طلائعه المجاهدة أن هذا الموقف أو القرار بعدم إطلاق النار لا يعكس تخوفاً على الانتفاضة بقدر ما يعكس نهجاً سياسياً نفض يديه من إمكانية حسم الصراع بالقوة، هذا الصراع والذي من دون صراعات العالم اليوم لا يمكن حسمه إلا بالقوة وبالقوة فقط. إن الموقف والقرار يعكس رغبة ما في كيفية التعامل مع الانتفاضة. رغبة يرى أصحابها في تصعيد الانتفاضة عبئاً عليهم وتجاوزاً لسقفهم يمنعهم من استثمارها عاجلاً وسريعاً« ..

وتساءل: »لماذا يُطلب من الانتفاضة ـ الثورة أن تبقى تحت العين وتحت قبضة اليد وهي التي تملك من السحر الكامن من القوة والفطنة أن تكون الطوفان.. الطوفان الواعد والمقدس في زمن القحط والعجز لماذا يُطلب من هذا الطوفان أن يتمهل.. أن يتعقل أن يتبعثر قبل أن تبتل العروق التي أعياها الظمأ، لماذا يُطلب منا وقف النار فيما السارق والقاتل والمغتصب المحتل يُمعن في القتل؟!« ..

ثم يرد على من يسعى لوقف الانتفاضة: »..ماذا فعل الرأي العام؟! ماذا يُجدي الرأي العام؟ هل يحيي مقتولاً! هل يُعطى صاحب حق حقه؟ هل يرفع عن المظلومين الظلم؟ هذا الرأي العام الذي يمكن لبعض منه أن يشفق حيناً وهو يشهد تكسير عظامنا.. لا يزال أسير الوعد المشؤوم وعد اللورد البريطاني بلفور حيث لنا المواطنية الثانية أو الثالثة أو العاشرة ولليهود حق الوطن وحق الأمان« ..

ويعيد شرح موقفه ليؤكد أن الحق لا يمكن أن يؤخذ بالاعتماد فقط على الرأي العام، فيقول: »لقد استنفذت الانتفاضة منذ شهورها الأولى أهدافها الاعلامية والدعائية وبقي الطريق إلى الوطن وهذا الرأي العام لا يعيد للضعفاء وطناً ولكنه يحترم من يزد عن حوضه بسلاح فأشهروا سلاحكم أيها المظلومون وانتظروهم على قارعة الطرقات ولا تخافوا جوعاً ولا تركنوا إلى الأرض« ..

ويؤكد الشقاقي في كلامه أن الدولة اليهودية ما كان ممكناً أن تستمر دون الاعتماد على  سياسة العنف والبطش والارهاب المستمر ضد شعبنا المظلوم وبدون العنف وبدون الإرهاب اليومي، ويقول: »إن دفاعنا عن وطننا بالقوة والعنف هو حق شرعي وقانوني ضد الإرهاب الصهيوني والدولي فوق كونه واجباً مقدساً، كما أنه يُعمّق أيضاً أزمة الكيان الصهيوني..« .. ويرى أن »الجهاد المسلح يعطي الثقة لشعبنا بنفسه وبطلائعه المجاهدة التي تنتقم لشهدائه ويدفعه إلى مزيد من التضحية والعطاء وهو يرى الكيان الصهيوني يدفع الثمن مثلما يدفع هو ويألمون مثلما يألم« ..

وكان في كلامه تحذير من تبديد البعض منجزات الانتفاضة ففي (نداء إلى المرابطين، 22-9-1989) قال: »لقد انتفضتم.. وكلّ يوم يُبدّد الآخرون الأشقاء وغير الأشقاء جهودكم كي لا تنجحوا« ، ويرى أن »مشكلة الانتفاضة ليست فقط في هؤلاء الذين يريدون الهيمنة عليها واستثمارها عاجلاً وسريعاً في أي مشروع سياسي هزيل، ولكن المشكلة أيضاً أن هناك من المخلصين والشرفاء من يصدق دعاواهم وأنهم قادرون على ذلك فيتركوهم وهم يائسون ولو أننا دققنا النظر وشددنا ضرباتنا لاكتشفنا الوهم وكسرنا هذا الحصار ولانطلقنا إلى آفاق النصر والتحرير، فشعبنا المجاهد لم يأتمن على انتفاضته إلا من يحفظها ولا يفرط فيها« . وفي كلمة له بعنوان (الانتفاضة بعد حرب الخليج 1991)، عدّد الشروط اللازمة لتحقيق نصر على العدو، وأن ذلك لا يتأتّى من وجود السفارات في العالم، وإنما »قوة ومصداقية وشرعية « م.ت.ف » كاطار سياسي جامع لقوى الشعب الفلسطيني لا تتأتى من عدد سفاراتها أو من تواجدها في المحافل الدبلوماسية، بل تكمن في تصعيد الكفاح المسلح، واستنفار الأمة وتجسيد وحدتها وتعبئة طاقاتها وقواها المجاهدة كشرط لازم لكسر وتجاوز توازن القوى الظالم والمستند على التجزئة والهيمنة الاستعمارية، وصولًا إلى إعادة بناء توازن قوى في صالح قضيتنا العادلة والذي هو أيضًا شرط لازم لأي انجاز على المستوى الدولي« .

وحذر من استمرار خط التسوية مع العدو، وكانت كلماته استشراف للمستقبل، إذ حذر من »أن التسوية المطروحة ستؤدي إلى انقسام عميق في الساحة الفلسطينية، يمتد من القوى السياسية إلى القواعد الشعبية وإلى نقل المعركة من ساحة المواجهة مع العدو إلى الساحة الفلسطينية ذاتها« .

ولهذا كان يرى الحل الوحيد في استمرار الانتفاضة والمقاومة، فخاطب الجماهير الفلسطينية المنتفضة في أكثر من مناسبة بقوله: »إن جهادكم واستمرار تصعيد انتفاضتكم هو الرد الحاسم كي تنطلق الاتتفاضة من حالة الوحدة إلى مشروع للبعث والنهضة والاستقلال الحقيقي« .

وكان للشهداء والجرحى والأسرى نصيب في كلماته، ففي المؤتمر الدولي لدعم القضية الفلسطينية الذي عقد في طهران، جدد الدعوة إلى استمرار الانتفاضة والجهاد، فقال: »..ولتمضوا به في شوارع الوطن قبضاتكم مشرعة وأيديكم على الزناد، فلا مجد ولا عزة إلا لمن يشحذون الآن أسلحتهم لا مجد ولا عزة إلا للسيوف المشرعة، لا مجد اليوم إلا للطلقة، لا مجد إلا مجد الشهداء شهداء السادس من تشرين وكل شهداء الوطن« .

عدم حصر الجهد الجماهيري بجهة

كتب الدكتور محمد مورو في كتابه المعنون: (فتحي الشقاقي صوت المستضعفين في مواجهة مشروع الهيمنة الغربي) »..ويرصد الدكتور الشقاقي العديد من العمليات الجهادية والنضال السياسي اليومي لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين طوال الثمانينيات وحتى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في 6/12/1987، وأن تلك الانتفاضة كانت تتويجاً لجهود ونضالات طويلة... وإن كان الدكتور الشقاقي ـ بسبب تواضعه وأدبه ـ لم يقل أن نضالات أبناء حركة الجهاد الإسلامي في طول الوطن المحتل وعرضه كانت السبب الحقيقي لاندلاع الانتفاضة أولاً، ثم لاستمرارها ثانياً، لأن الحركة استطاعت أن تعطي مضموناً واعياً وجهادياً لحركة الشعب الفلسطيني، وأن الحركة كانت تمتلك الالتحام الجماهيري والأدوات السياسية القادرة على تفجير الانتفاضة وتصعيدها إلا أن الحقيقة أن الانتفاضة الفلسطينية في أكتوبر 1987 كانت ابنة شرعية لنضال حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وأن الآخرين كل الآخرين قد لحقوا بمؤخرة القطار عندما أقلع بالفعل وهذا بالطبع يرجع إلى أن أي حركة أخرى ـ ليست جماهيرية بالضرورة ولا تستند إلى الجماهير بل إلى تنظيم مثلاً، يمكن أن تنظم مهرجاناً حافلاً ناجحاً أو مظاهرة واحدة أو اثنتين منظمة وبراقة ولامعة وكبيرة ولكنها لا تقدر على الانتفاض الشعبي المستمر، لأن هذا من شأن القوى التي تثق في الجماهير وتلتحم بها وتعتبرها مادتها الأساسية في الصراع، وهذا بالتحديد لا ينطبق إلا على حركة الجهاد الإسلامي وبديهي أن الانتفاضة ـ كما يقول الشقاقي « لم تكن إلا مرحلة في نضال طويل وشاق وشرس وأن الجهاد المسلح هو الطريق الأكيد لتفكيك هذا المشروع الصهيوني الاستعماري »".

في الختام، إن أهم ميزة لخطاب الشهيد الشقاقي هي في قدرته على إيصال فكرته بصدق المجاهد؛ قولًا وفعلًا، ترسّخ ذلك ببنائه مع اخوانه حركة الجهاد الإسلامي، وصولًا إلى استشهاده وكتابته بالدم لفلسطين..

المصدر: مجلة الوحدة الإسلامية

كلمات دلالية