خبر عندما يكتشف الشعب قوته / بقلم: راغدة عسيران

الساعة 10:15 ص|26 يوليو 2017

فلسطين اليوم

أمام باب الأسباط، في القدس المحتلة، حالة ثورية لا تقل أهمية من كل التجمعات في ساحات « الربيع العربي » قبل سنوات، بل هي الأهم، لأنها في القدس، وتدافع عن سيادة المسجد الأقصى ضد المحتل الصهيوني، ولأنها خط الدفاع الأول عن المقدسات في فلسطين المحتلة، ولأنها مرتبطة بالتاريخ، تاريخ فلسطين وتاريخ الأمة. المشهد أمام باب الأسباط، لمن يريد أن يراه على حقيقته، هو مشهد ينسف في العمق كل ما خطّط له الصهاينة منذ احتلال الجزء الشرقي من القدس، بما فيه المسجد الأقصى.

كل يوم، وقبل صلاة المغرب، تتجمع الناس، الشباب والشيوخ والأطفال، الرجال والنساء، في هذا المكان بالذات، لتصرخ في وجه الاحتلال المدجج بالسلاح، بأنهم يرفضون وجوده ولا يعترفون بكذبه حول « قدسية » المكان بالنسبة لليهود. رفضهم للبوابات الالكترونية كشف لهم أنهم الشعب الذي لا ينكسر إذا توحّد وواجه صفا واحدا ومتراصا المحتل الصهيوني، وأن سلاح العدو لا يساوي شيئا أمام إرادتهم. كل يوم، ومنذ أكثر من اسبوع، يزداد عدد المصلين والوافدين الى منطقة باب الأسباط بشكل مذهل. في البداية،كانوا بالمئات، أما اليوم، وبعد قمع الاحتلال للمرابطين، فأصبحوا يتوافدون بالآلاف، بحيث لم يعد يتسع المكان لكل من وصل ويصل، بعد المشي على الأقدام لساعات أحيانا، لأن العدو نصب حواجزه وأقفل معظم الطرقات المؤدية الى البلدة القديمة. رغم ذلك، فهم بالآلاف، جاؤوا من كل مناطق القدس وضواحيها، وبعضهم من الداخل المحتل عام 1948 ومن الضفة الغربية، ليرابطوا على أبواب المسجد ويتحدّوا الاحتلال، غير مكترثين بسلاحه ومياهه العادمة التي يرش بها المصلين، وقنابله الصوتية وهيئته الكريهة.

اكتشف المقدسيون المرابطون حول المرجعيات الدينية في باب الأسباط وحوله أهمية تواجدهم اليومي في هذا المكان. قال العديد منهم أمام كاميرات الإعلام إنهم يعيدون ترابطهم كأبناء المدينة الواحدة، ويعيدون بناء ما دمّره الاحتلال بعد خمسين سنة، عندما شرع بتقطيع المدينة الى معازل غير مترابطة ومحاطة بالحواجز والمستوطنات. اكتشف المقدسيون أهمية وحدتهم وتلاحمهم، في مواجهة الاحتلال وغطرسته، وقضوا على محاولات التطبيع التي انتشرت في أنحاء القدس، بسبب التفرقة والتجزئة والعزلة. يحضر المقدسيون كل مساء الى المكان، حاملين ما يقدمونه للوافدين من شرب وأكل، ويتعرفون على بعضهم البعض، ويبنون العلاقات بين الأحياء المجزأة بقوة السلاح. وجودهم أمام باب الأسباط وأبواب أخرى (باب المجلس وباب حطة) هو بحد ذاته تحدٍ ومواجهة مع الاحتلال وسلاحه.

جاؤوا لتأدية الصلاة، أمام مسجدهم ومسجد المسلمين، رافضين المسّ بسيادته، وتجمعوا حول الشعار الذي رفعته المرجعيات الدينية والمدنية المقدسية، وهو وجوب إبقاء سيادة الفلسطينيين على المسجد، رغم الاحتلال. يميّز الشيخ عكرمة صبري رئيس، الهيئة الإسلامية العليا، بين الاحتلال الذي يفرض وجوده بقوة السلاح، كما فرضه على كافة الأراضي الفلسطينية، وبين السيادة التي تعني فعلياً رفض لإجراءات الاحتلال، مهما كانت. في المسجد الأقصى، يفرض الاحتلال بقوة سلاحه اقتحام المستوطنين وتدنيس المسجد يومياً ومنع المصلين دون سن معين من الصلاة فيه، ومنع التصليحات اللازمة فيه. وفي القدس، يفرض بناء المستوطنات وهدم منازل المقدسيين، ويقتلع الأشجار ويحفر ويشوّه، ويغيّر من معالم المسجد الأقصى والقدس ويمنع الأذان، كما يفعل في كل فلسطين، كل ذلك بسلاحه، غير قادر على بسط سيادته، أي فرض الاعتراف الضمني من قبل الفلسطيني بأحقيته بفلسطين والقدس والأقصى، والإقرار بتحكمه على كل مفاصل حياته. عدم الاعتراف بالسيادة الصهيونية على فلسطين والقدس والمسجد الأقصى وكل المقدسات يعني أولاً إبقاء حالة الصراع في المنطقة، ورفض الأمر الواقع ومواجهته قدر الإمكان، وهذا ما لا يتحمله كيان العدو ولا المجتمع الدولي الحامي له، ولا الأمم المتحدة، ولا الدول العربية، ولا كل من اعترف بالكيان الصهيوني، من سلطة فلسطينية ومطبعّين في أرجاء العالم العربي. لأن المعركة حول سيادة المسجد الأقصى ليست معركة هامشية، كما يحلو للبعض أن يروها، بل هي معركة حول كرامة الفلسطيني، والمسلم والعربي، كما أن بمقدورها أن تتوسّع وتشمل محطات أخرى، المقدّسات وغيرها، إن وقف المرابطون أمام تجزئة صفوفهم، من قبل الأنظمة العربية أو ما يشببها، كما فعل « الملوك العرب » في ثورة 36-39 وكما فعل أشباههم بعد ذلك.

اكتشف المرابطون والمقدسيون قوة وحدتهم وتلاحمهم في تحدّيهم للاحتلال الصهيوني، وأسقطوا البوابات الألكترونية، والآن، ترفض المرجعيات المقدسية الكاميرات « الذكية » التي تقوم بمهام تجسسية على الوافدين الى المسجد، أكبر وأخطر من الأبواب الالكترونية. الكاميرات ليست إلا تحايل صهيوني آخر، ولكن يبدو أن اقتراح نصبها تم بموافقة عربية، أرادت مساعدة نتنياهو على « النزول من الشجرة » دون إزالة الخطر على سيادة المسجد، وعلى حلّ أزمته بوجه المرابطين. رغم تقديم يد المساعدة العربية للاحتلال، كما ساعد « الملوك العرب » الاحتلال البريطاني على إنهاء الثورة الكبرى، وبسبب رفض المرابطين والمرجعيات المقدسية التحايل الصهيوني على إرادتهم، ستفتح معركة يتدحرج نتنياهو خلالها وسيضطر « الملوك العرب » الى سحب حلولهم « الوسطية ».

في هذا المكان، حول أبواب المسجد الأقصى، يصنع المقدسيون والمرابطون التاريخ، بقوة إرادتهم ووحدتهم وايمانهم بحقهم، لأن المسجد الأقصى ليس كباقي المساجد، ولأن القدس ليست كباقي المدن، ولأن الصهاينة ليسوا كباقي المحتلين في العالم، بل أشرسهم، ولأن فلسطين تبقى القضية المركزية للامة.

كلمات دلالية