خبر نصف قرن على احتلال فلسطين التاريخية هزيمة الانظمة وصعود المقاومة ..جميل هلال

الساعة 11:27 ص|02 يوليو 2017

حزيران1967؛ هزيمة الأنظمة العربية وصعود المقاومة الفلسطينية

أدخلت هزيمة حرب حزيران 1967 تغييرات جذرية على خارطة المنطقة السياسية لم تتوقف تداعياتها حتى اللحظة.  لكنها هيأت لولادة حركة مقاومة فلسطينية اختلفت من حيث تكوينها القيادي وقاعدتها الاجتماعية عن الحركة الوطنية الفلسطينية التي انهزمت في العام 1948.  ولا شك أن نهوض حركة المقاومة الفلسطينية وائتلافها في إطار منظمة التحرير واعتمادها المقاومة الشعبية انتفع من المناخ الشعبي الذي ولدته هزيمة حزيران المدوية.   لكن سر نجاح حركة المقاومة الفلسطينية استند إلى نحاجها في تمثيل الإرادة الوطنية لشعب مشرد ولاجئ ومحتل في التحرر وفي كسب مساندة الشعوب العربية ودعم القوى اليسارية والنيّرة في العالم. وهو ما يفسر كسب منظمة التحرير اعترافا عربيا وأمميا كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني بشكل سريع (عام 1974)، وتمكنها من أن تطرح قضية فلسطين كقضية العرب الأولى، ومن إدراجها على رأس قضايا التحرر الوطني في العالم. 

من أسباب العودة مؤخرا لطرح أسباب توالد الهزائم العربية بعد حزيران 1967 فشل الانتفاضات العربية من أجل الحرية والخبر والكرامة التي  شهدتها عدة عواصم  ومدن عربية في السنوات الأولى من العقد الحالي، ومنها كذلك ما شهدته الحركة الوطنية الفلسطينية في  العقدين الأخيرين، وبشكل أخص منذ منتصف العقد الماضي،  من تفكك وترهل وانقسام وما تولد  لدى فئات فلسطينية واسعة من غياب جدوى ما هو قائم سياسيا، وتراجع القضية الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو إلى شأن فلسطيني،  ومن اختزال فلسطين إلى جزئها الذي احتل عام 1967، واختصار السياسة الفلسطينية  إلى التنافس بين سلطتي حكم ذاتي إداري على كل من  الضفة الغربية وقطاع غزة.

  لن أعود إلى ما كتبه آخرون، وهم كثر، عن أسباب هزيمة حزيران 67، ومنهم صادق جلال العظم (الذي عرف كتابه « النقد الذاتي بعد الهزيمة » على نطق واسع)، ومنهم أيضا مهدي عامل ونديم بيطار وحليم بركات ومحمد حسنين هيكل وغيرهم. يكفي القول هنا أن سيرورة الأوضاع في العالم العربي خلال الخمسين عاما الماضية لا تشي بأن الدروس والعبر استخلصت من القائمين على الأوضاع العربية من مراجعة أسباب وحيثيات تلك الهزيمة وأن سياسات اجتماعية وسياسية وثقافية اعتمدت لمنع تكرار الهزيمة.

الكثير مما كتب عن هزيمة حزيزان رّك ما اعتقد أنه يحرك سلوك الفرد أو العقل العربي وكأن هناك نمط  سلوك نمطي  واحد وعقل جمعي خاص بالعرب؛ لذا كان الحديث عن « الذهنية » السائدة في المجتمعات العربية آنذاك،   حُدد منها؛ الجهل بالذات والآخر؛ سيادة عقلية قدرية وسلطوية؛ غياب مفهوم المواطنة؛ هيمنة الولاء للعائلة والقبيلة والطائفة والمجتمع المحلي؛ حضور واسع للفهلوه كنمط سلوكي؛  الميل لتسويغ إعفاء الذات من المسؤولية؛ وتحميل اللائمة  دوما على قوى خارجية (الإمبريالية والاستعمار وإسرائيل)  لكل  تقصير أو عجز ذاتي. أي لم تنل بنية المجتمعات العربية من حيث أشكال اللامساواة البنيوية السائدة فيها، وآليات انتاجها وإعادة انتاجها داخل كل مجتمع، وعلى الصعيد الإقليمي والدولي، اهتماما كافيا في تحليل أسباب الهزيمة.  غياب تكافؤ الفرص في الوصول إلى التعليم والعمل والعلاج والتمتع بالحقوق الاجتماعية الاقتصادية والثقافية، في المجتمعات العربية أرسى ووسع من ظواهر الحرمان والإفقار والبطالة والفساد، ومنح نخب (طبقية، عائلية، طائفية، جهوية، أثنية) امتيازات سلطة وثروة ونفوذ، وبالتالي قدرة غير منضبطة على ممارسة الاستبداد.

كما غاب عن عدد وافر من مراجعات اسباب هزيمة حزيران التدقيق في أدوات التغيير السياسي والاقتصادي-الاجتماعي والثقافي لصالح التركيز المبالغ فيه على سمات الدولة القائمة دون الالتفات لدور (أو غياب دور) الأحزاب والاتحادات الشعبية والنقابات والحركات الاجتماعية والثقافية في عمليات التغيير، ودون الانتباه لأهمية تكريس استقلالية الحقل السياسي عن الحقل الديني، واستقلالية الحقل الثقافي عن كليهما، ولا لأهمية الفصل بين السلطة السياسي والسلطة الاقتصادية. الانتباه لهذه مهم لعملية مأسسة الديمقراطية السياسية ولتوسيعها لتشمل الديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.  وغياب الديمقراطية (كتدابير مشاركة الفرد في انتخاب مسؤوليه وفي تقرير مصيره، وكقيم تعلي شأن الحرية والمساواة) من اسباب تفجر الحروب الأهلية واستدعاء الاعتداءات والتدخلات الخارجية   وما رافق ويرافق ذلك من تدمير وخراب وتهجير.

طرحت حركة المقاومة الفلسطينية على نفسها في سنواتها الأولى هدف تحرير فلسطين وأعلت شأن الكفاح المسلح، ونحت اللاجئ هوية الانسان المناضل، ورفعت شعار دولة ديمقراطية علمانية على أرض فلسطين التاريخية لليهود الإسرائيليين ولكل الفلسطينيين على قدم المساواة. ولكنها تكاسلت عن تحويل الشعار إلى برنامج سياسي  لكل الشعب  الفلسطيني  ويستميل  قوى  داخل إسرائيل وتتفهمه قوى إقليمية ودولية لاعتبارات عدة، منها؛  لم يجد  الشعار صدى  مشجع بين أوساط اليهود في إسرائيل، وبخاصة بعد انتصارها العسكري الساحق في حزيزان 1967؛ ومنها أن قضية الدول العربية بعد حرب حزيران  بات استعادة الأرض التي احتلتها إسرائيل  في تلك الحرب  كما قرار 242 لمجلس الأمن؛ ومنها أن  منظمة التحرير دخلت  في ابتداء من أوائل السبعينيات في صراعات دامية مع الأنظمة العربية التي أقامت على أرضها وجدت في هذه الإقامة ما  يتناقض مع مفهومها للسيادة، وبخاصة السيطرة العسكرية والأمنية.  من جاءت الصدامات المسلحة بين المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني في أيلول 1970 ومن ثم تورطها في حرب أهلية في لبنان، ودخولها مع حليفتها الحركة الوطنية اللبنانية أدخل كلتيهما في مواجهة مع سوريا التي دفعت بقواتها للبنان في العام 1976. وعودة المجابهات مع القوات السورية في لبنان في العام 1983 بعد إخراج منظمة التحرير من لبنان في العام بعد اجتياحه من إسرائيل وحصار العاصمة بيروت في صيف العام 1982.

حرب تشرين 1973 تقود لهزيمة سياسية

بعد وفاة عبد الناصر في العام 1970 تولي أنور السادات رأس السلطة في مصر وباشر في تبني أجندا إسلامية يواجه بها الناصرية واليسار. واتضح لاحقا أن شن السادات لحرب تشرين في العام 1973، كان هدفه تحريك المفاوضات مع إسرائيل وهو ما اتضح بعد توقيع اتفاق كمب ديفيد بين السادات وبيغن في أيلول من العام 1978، وهو الاتفاق الذي أخرج مصر، كأكبر دولة عربية وكقوة عسكرية وكمركز ثقل سياسي وثقافي في العالم العربي، من حالة مواجهة إلى حالة سلام مع إسرائيل.

 وكان من تداعيات حرب تشرين توليد طفرة في اسعار النفط جيّر جزء عائداته الهائلة لتمويل حركات إسلامية أصولية في المنطقة وخارجها استهدفت إضعاف التيارات اليسارية والديمقراطية الليبرالية في العالم العربي، وخلخلة علاقاته مع الاتحاد السوفياتي القوة الأكبر في مواجهة الولايات الأمريكية.  لذا شهدت العقود الأخيرة تناميا للتيارات أصولية وجهادية إسلامية عديدة.  وتزامن مع   توقيع اتفاقية كمب ديفيد اندلاع الثورة الإسلامية في إيران التي أطاحت بنظام الشاة الموالي للولايات المتحدة ولإسرائيل، وهو حدث تاريخي ساهم ايضا في استنهاض التيارات الإسلامية الأصولية وفي تراجع اليسار والاتجاهات الديمقراطية الليبرالية على تنويعاتها.

أفقدت معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل منظمة التحرير الفلسطينية قوة إسناد عربية لا تعوض، ومهدّت الطريق لإسرائيل لاجتياح لبنان في صيف العام 1982 فرض، بمساندة نشطة من الولايات المتحدة، إبعاد منظمة التحرير عن لبنان وبعثرة قواها على بلدان عدة. الضعف الذي تلى إخراج منظمة التحرير من لبنان دفع بعض العواصم العربية تغذية المزيد من الإضعاف أملا في السيطرة على قرار المنظمة لتحسين مواقعها التفاوضية إقليميا ودوليا. الانشقاق داخل حركة « فتح »، عام 1983، وما تلاه من انقسام سياسي داخل منظمة التحرير أشغل مكوناتها الرئيسة في مفاوضات وترتيبات استعادة وحدتها وهو ما تم في العام 1987.  وفي نهاية ذلك العام انفجرت الانتفاضة الأولى وكان على قيادة المنظمة، وهي في حالة ضعف وعزلة في تونس الإشراف على انتفاضة شعبية في الضفة الغربية وقطاع غزة أغنت النضال الوطني الفلسطيني بأشكال مبدعة ومدهشة من المقاومة لكن بعد العلاقة ترك أثارا سلبية ليس هنا مجال مناقشتها، كما أن اقتحام الإسلام السياسي للحقل السياسي الوطني في تلك اللحظة التاريخية وتحديه لمنظمة التحرير لم يساهم في تماسك الحقل الوطني وبخاصة العزلة السياسية والمالية التي فرضت على المنظمة بعد حرب الخليج   في بدابة التسعينيات.

عالم رأسمالي يتوحّش

كان لانهيار النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي ودول أوربا الشرقية وما تبعه من احتفاء الرأسمالية الغربية بانتصار الرأسمالية والاندفاع في عولمتها بصيغتها النيوليبرالية المدمرة لدولة الرعاية والمطلقة العنان لحرية السوق والرأسمال الخاص (والمالي تحديدا) كمحددين وموجهين للعلاقات الاجتماعية. وساهم هذا التحول في تغذية الحركات الأصولية والقومية المتعصبة والشعبوية اليمينية. وشهد النخب الحاكمة في العالم العربي اعتمادا للنيوليبرالية كاستراتيجية اقتصادية اجتماعية ثقافية.  وتزامن هذا مع تراجع دور قوى اليسار والقوى الديمقراطية المستنيرة وبالتالي تراجعا في ادور القوى المدافعة عن مصالح الفئات المحرومة والمستغلة والمستثناة في المجتمع.  نتيجة كل هذه التحولات برزت في معدلات البطالة والإفقار المتصاعدة في معظم المجتمعات العربية وفي توسيع الفوارق في فرص الحياة بين المواطنين على أسس طبقية وجهوية وطائفية وأثنية وقومية ونوع اجتماعية، بالترافق مع تعاظم سطوة أجهزة الأمن والمخابرات وبيروقراطية الدولة وفساد الحياة السياسية والقطاع الخاص.

الانتفاضات الشعبية التي تفجرت في أوائل العقد الثاني من القرن الحالي في عدد من الدول العربية هي النتيجة الطبيعية للسياسات التي أشرت إليها، لكن عفوية هذه الانتفاضات وقصورها على صعيد التنظيم وعدم بلورة برامج ملموسة لتوليد التغيير الاقتصادي-الاجتماعي  لصالح القوى المهمشة والمحرومة،  وغياب  برامج ملموسة لتوليد نظام سياسي ديموقراطي  يرعى مصالح وحقوق جميع المواطنين دون تمييز بما في ذلك المرأة والأقليات،  مكّن قوى الثورة المضادة  المسنودة من قوى إقليمية ودولية من إعادة فرض سيطرتها وتجديدها للنظام القديم وإن بوجوه جديدة.  لكن بقاء الأوضاع التي ولّدت هذه الثورات الشعبية كما كانت، وبالتالي تواصل انتاج اللامساواة والفساد والمظالم يبقى الأوضاع في حالة متفجر.

Top of Form

Like

 دول عربية تتفكك واستعمار استيطاني يتغوّل

مسارعة قيادات عربية زيارة الرئيس الأمريكي الجديد في واشنطن رغم اتضاح انحيازه لسياسة اليمين الصهيوني المتطرف في إسرائيل وعدائه للإسلام وقضايا التحرر والحداثة مؤشر على واقع حال النظام العربي الرسمي الراهن. كما هي دلالة قرار حكومة إسرائيل، في نيسان من هذا العام، بناء مستوطنة جديدة في صلب الضفة الغربية بعد يوم واحد من تجديد التزام القمة العربية بالشروط التي كانت قد طرحتها عام 2002 لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل. بعد ثلاثة أيام من إعلان المبادرة العربية في ذلك العام قامت إسرائيل اجتياح واحتلال الجيش الإسرائيلي لمدن الضفة الغربية ومحاصرة ياسر عرفات في مقر إقامته في رام الله. 

في حزيران عام 1967 استكملت إسرائيل احتلالها لما تبقى من أرض فلسطين (بالإضافة لسيناء والجولان)، وعلى الجزء الذي تسمية إسرائيل « يهوذا والسامرة » لارتباطه بجغرافيا الرواية التوراتية التي تسند عليها الصهيونية مسوّغها الديني لاستعمارها الاستيطاني لفلسطين.  لذا باشرت باستعمارها الاستيطاني، وهو ما لم يتوقف للحظة خلال العقود الخمسة الماضية. كما أوجد احتلال هذا الجزء من فلسطيني العذر لظهور مجموعات قومية دينية يهودية متطرفة وعلى توطيد نفوذ المستوطنين في كل مؤسسات الدولة الصهيونية. 

احتلال بقية الأرض الفلسطينية في حزيران الفرصة وفر لإسرائيل الفرصة للإعلان عن ضم القدس الشرقية ولاعتبار القدس الموحدة عاصمتها الأبدية.  وهي تعاطت مع سكانها الفلسطينيين كمهاجرين في مدينتهم، يمنحوا إقامة دائمة، مع الحرص على اعتماد تدابير متنوعة لتغيير التركيبة السكانية والجغرافية للمدينة، شملت مصادرة مساحات واسعة من أراضي القدس وجوارها، وتشييد أحياء يهودية جديدة داخلها وفرض قيود صارمة على البناء في الأحياء الفلسطينية مقابل تشجيع المستوطنين على التمدد في هذه الأحياء، والتمييز تمويلا وخدماتيا، ضد كل ما هو فلسطيني. ولجأت مع بداية عقد التسعينيات لوضع الحواجز العسكرية واعتماد نظام حصول الفلسطينيين من بقية الضفة الغربية وقطاع غزة على تصاريح لدخول القدس. وزاد بناء جدار الفصل العنصري (بدء في العام 2002) من القيود المفروضة على حركة الفلسطينيين كما أدى إلى ثمانية أحياء مقدسية عن المدينة بعد أن باتت على الجانب الأخر من الجدار، مع استمرار إلزام سكانها تسديد الضرائب دون أن توفر لهم الخدمات التي توفرها للأحياء اليهودية.

 مع إخلائها لمستعمراتها داخل القطاع في أيلول من العام 2005 اعتبرت إسرائيل أنها أنهت احتلالها لقطاع غزة. وهي لا ترى، خلافا للقانون الدولي، في محاصرتها التامة لقطاع عزة أرضا وجوا وبحرا (منذ عشر سنوات) واحكامها قبضتها الأمنية والعسكرية والاقتصادية على القطاع وحركة السكان والسلع منه وإليه هو، احتلال وفرض عقوبة جماعية، كما أنه ممارسة لشكل من أشكال الإبادة الجماعية المتدرّجة. فقد أشار تقرير للأمم المتحدة (UNICTAD للعام 2015) أن قطاع غزة مرشح لأن يصبح مكانا غير قابل للحياة البشرية في العام 2020 إن استمر وضعه على ما هو عليه وبعد أن تجاوزت نسبة البطالة 44%، وحيث يعاني ما لا يقل عن 72% من السكان من غياب الأمن الغذائي، ونسبة عالية منهم تعتمد على المساعدات الإنسانية. كما باتت البنية التحتية والخدمات العامة في وضع مزرٍ إذ أن ما يزيد عن 95% من مياه الأنابيب لم يعد صالحا للشرب، كما لا تتوفر الكهرباء إلا لعدد قليل من الساعات يوميا.  من هنا لا يختلف وضع قطاع غزة عن معسكر اعتقال يضم قرابة مليونين من البشر له سبع بوابات (« معابر ») تسيطر إسرائيل عليها سيطرة تامة باستثناء بوابة رفح المتخصصة للمغادرين والوافدين من مصر.  كما تسيطر إسرائيل سيطرة تامة على سماء القطاع ومياهه الإقليمية وتتحكم بعلاقاته التجارية والاقتصادية الخارجية. وهي شنت عليه ثلاثة حروب تدميرية ما بين العامين 2008 و2014، وهي تهدد بشن حرب تدميرية جديدة.

تعاملت إسرائيل مع الضفة الغربية عند احتلالها عام 1967 كما تعاملت مع الأراضي الفلسطينية التي استعمرتها في العام 1948 أي كأرض تقع في نطاق سيادتها بشكل مستدام.  لذا فهي تفرض سيطرتها على الأرض والموارد الطبيعية والحياة الاقتصادية وعلى حركة السكان والسلع وتمارس الاعتقال الإداري ( وهو تعسفي تماما لأنه يتم  ويتجدد بدون محاكمة) و تفرض على سكان الضفة الفلسطينيين لقضاء العسكري حيث يتم محاكمة آلاف الفلسطينيين سنويا وأغلبهم من منطقة « أ » و « ب » (المناطق المفترض أن تكون تحت السيطرة الأمنية والإدارية الفلسطينية) في الضفة الغربية، كما هو إجراء هدم بيوت أسر كعقوبة لأي فرد منها يقاوم الاحتلال أو كإجراء لحصر ممارسة النشاط العمراني الفلسطيني ضمن  مناطق مقيدة بمخططاتها التوسعية.

استثمرت إسرائيل اتفاق أوسلو في مواصلة سياستها تجاه الأرضي الفلسطينية التي احتلتها عام 1967 لتوليد وهم أن السلطة الفلسطينية هي المسؤولة عن واقع الفلسطينيين في هذه الأراضي، في حين أن لا قرار تأخذه السلطة مهما كان صغيرا إلا ويستدعي موافقة إسرائيلية، علنية أو ضمنية.  أهمية وجود سلطة فلسطينية بالنسبة لإسرائيل قائمة على كون الأولى من يتحمل تكلفة احتلالها لهذه الأراضي وأن السلطة هي مسؤول عن الانفاق على خدمات التعليم والصحة وعلى البنية التحتية في مناطق « أ » و « ب »، عبر ما تتلقاه من تحويلات ومساعدات خارجية وما تجبيه من ضرائب مباشرة وغير مباشرة من المواطنين.  ومستندة أيضا من كون السلطة أخذت على عاتقها توفير الحماية للإسرائيليين بما فيهم المستوطنين، وهذا هو مغزى التنسيق الأمني.

 مع وصول اتفاق أوسلو لطريق مسدود، وتواصل الانقسام والتفكك في الحركة السياسية الفلسطينية، تفاقم تغوّل اليمين الإسرائيلي الديني والقومي الأصولي في ممارساته ليس فقط في تجاه الأراضي التي احتلت عام 1967 بل وأيضا اتجاه تلك التي احتلت العام 1948.   وهي ممارسات محركها تعميق غرس سيطرة إسرائيل على أرض فلسطين وحشر سكانها الأصليين في معازل وقضم ما صنّف بمنطقة « ج » وغور الأردن، بالإضافة إلى الكتل الاستيطانية والقدس، واتاحة حكم ذاتي إداري للسلطة الفلسطينية - تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية والهيمنة الاقتصادية - على معازل  سكانية فلسطينية.

ما يخشاه بعضنا هو أن يقود التوهم بأن الإدارة الجديدة في الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لأن تأخذ موقفا منصفا للشعب الفلسطيني، إلى قيام قيادة السلطة الفلسطينية إلى اتخاذ إجراءات قاسية تجاه قطاع غزة باعتبارها إجراءات ضاغطة على حركة « حماس » تهدف استعادة سيطرتها على قطاع غزة. وهي إجراءات مرشحة إلى مفاقمة البؤس والشقاء للغالبية العظمى من السكان دون المساس بسلطة حركة « حماس » وتخليها عن سلطتها لصالح سلطة حكومة توافق وطني تقودها حركة « فتح » وهو أمر لن يقود في سوى إلى المزيد من تهميش وتشوش القضية الوطنية الفلسطينية.

 صناعة وعي جديد

 نحن بحاجة لوعي جديد بعد خمسين عاما هزيمة حزيزان وما تلاها من هزائم وكوارث ودمار وبعد كل هذا الكم من الاستعمار الاستيطاني وبناء المعازل والاعتقال والتمييز العنصري، وبعد ربع قرن من إنكار الكارثة التي أورثنا إياها اتفاق أوسلو. جوهره، عربيا وعي الحاجة الماسة إلى تفكيك آليات إنتاج اللامساواة والتمييز والاستبداد وسيطرة نخب صغيرة على القرار الوطني السياسي والاقتصادي والاجتماعي.  جوهره فلسطينيا الحاجة إعادة بناء الحركة السياسية الفلسطينية على أسس ديمقراطية تمثيلية جامعة وتخطي حالة إنكار غياب فرص إقامة دولة فلسطينية مستقلة لا تفرط بحق العودة.  لقد عرض الجري وراء سراب اتفاق أوسلو التجمعات والمجتمعات والجاليات والمخيمات الفلسطينية داخل فلسطين التاريخية وخارجها لأشكال من الانكشاف المرعب، رأينا أمثله صادمة منه في العقدين الأخيرين في جميع التجمعات الفلسطينية.  

ليس في الأفق ما يؤشر إلى قرب التوصل لتسوية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي تتجاوز صيغة حكم ذاتي إداري   بائس على « معازل » محاصرة بمستعمرات صهيونية وطرق التفافية للمستوطنين وحواجز عسكرية إسرائيلية دائمة وطارئة. أي ليس في الأفق ما يشي بقيام، على المدى المنظور، دولة فلسطينية قادرة ممارسة السيادة على شبر واحد من أرض فلسطين وإن سُمح لها إن ترفع العلم الفلسطيني وأن تعزف النشيد الوطني وأن تستقبل زوارها الرسميين بالبساط الأحمر، والسلطة الفلسطينية تقوم بهذه كلها الآن. كما لن يغيّر من واقعها الفعلي اعتمادها كل مسميات الدولة السيادية، كما تفعل الآن. أما مكونات الشعب الفلسطيني خارج الضفة والقطاع، فسوف يحظر على الدولة العتيدة التكلم باسمهم، لآن « التسوية » التي يهيأ لها سوف تشترط إنهاء جميع المطالب بما فيها حق العودة.

 لقد استغلت المفاوضات الثنائية لتعميق الاستعمار الاستيطاني وترسيخ نظام الأبرتايد وبناء المعازل ولتهويد القدس وللتغطية على والاعتقال التعسفي والإذلال اليومي على الحواجز واقتحامات المدن والقرى والبيوت. لذا علينا التخلص نهائيا من الوعي الزائف بقدرة المفاوضات على توصلينا لحل، واستبدالها بالثقة  بأن لا قوة قادرة أن تلزم الشعب الفلسطيني على قبول تسوية تفصّلها دولة استعمارية عنصرية متوحشة وترعاها إمبراطورية هي الأشرس والأقل أخلاقية في التاريخ المعاصر.

الحاجة لوعي جديد تستدعيها المتغيرات التي شهدتها المنطقة العربية والإقليم والعالم في العقود الأخيرة، وما دخل على حقل السياسة الفلسطينية من تبدلات طالت تكوين وأهداف قواه السياسية والاجتماعية والثقافية وعلاقات هذه مع بعضها البعض ومع قوى خارجية.

ليس على الحركتين السياسية والثقافية الفلسطينية ما يبرر التردد في توليد رؤية كفاحية جديدة بأبعادها المختلفة استندا إلى الرؤية الأولية للحركة الفلسطينية. فمقولة أن موازين القوى لا تسمح بتجاوز مطلب إقامة دولة فلسطينية على حدود الأراضي التي احتلت عام 1967 هي دعوة لانتظار ما يتيح به ميزان القوى القائم، متجاهلة أن العديد من التحولات ذا الأثر والقيمة في العالم (بما فيها في المنطقة العربية) تمت بالضد مما تقترحه موازين القوى المرئية في حينه. ويسري هذا على انطلاق الثورة الفلسطينية في الستينات.  وينبغي التمتع في مدلولات فشل ربع قرن من المفاوضات المباشرة مع إسرائيل لقيام دولة مستقلة على حدود الخامس من حزيران 1967. كما بات جليا، على ضوء ثلاثة حروب على قطاع غزة، حدود المقاومة المسلحة كما مورست فلسطينيا بعد الانتفاضة الأولى.  لا ينبغي التفريط بما امتلكته الثورة الفلسطينية من فوق أخلاقي يمثله نضال الشعب الفلسطيني من قيم تحررية وانعتاقية، وهي القيم التي على الرؤية الفلسطينية الجديدة تجسيدها.

على الوعي التحرري الجديد أن يتلمس حقوق ومصالح الكل الفلسطيني وما لحق بهم من ظلم تاريخي ومن إنكار لحقوقهم التاريخية والسياسية والإنسانية الراهنة، وعليه أيضا أن يخاطب يهود إسرائيل وأنهم لن يكونوا أحرارا ما دام الاحتلال والتشريد والتطهير العرقي والتمييز يمارس من قبلهم ضد الشعب الفلسطيني، وما دامت الصهيونية كحركة عنصرية هي المهيمنة في مجتمعهم.  قد يعني هذا رفض تقسيم فلسطين إلى دولتين و قد يعيد الحاجة إلى لإعادة بنائها كوطن تعددي قائم على المساواة والإنصاف للجميع، وعلى حق عودة كل شرد من الشعب الفلسطيني إلى وطنه، وبحقة في التعويض عن الأضرار التي لحقت به جراء الاستعمار الاستيطاني والتطهير العرقي.

 هذا ما حاولت طرحه منظمة التحرير، غداة هزيمة حزيران، لكنها لم تحوله إلى مشروع سياسي ديمقراطي نضالي وكبديل تحرري وتقدمي إنساني للمشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني العنصري. الخطوط الأولية لهذه الرؤية تطرحها حركة المقاطعة لإسرائيل لكنها مبادرة بحاجة إلى استكمال لتتحول لرؤية ديمقراطية تقدمية بديلا عن مشروع الدولة اليهودية الواحدة العنصري وعن مشروع الدولة الإسلامية الواحدة الإقصائي وعن مشروع « حل الدولتين » الذي يشكل غطاء لدولة الأبارتايد الصهيونية الواحدة.

 ولعل في إضراب الأسرى في السجون الإسرائيلية عن الطعام الذي بدأ في أواسط شهر نيسان الماضي، وبالتفاعل والتضامن الواسع لنضال أسرى الحرية، ما يبشر بعودة الوعي للسياسة الفلسطينية وما يحث على الحاجة لجمهرة وتنويع فعل المقاومة ضد الاحتلال ومستوطنيه، ولحالة نهوض جديدة في مواجهة محاولات شيطنة النضال الوطني الفلسطيني ووصمه بالإرهاب.          
 

نشر في مجلة الدراسات الفلسطينية،  العدد 111  (صيف 2017)

كلمات دلالية