خبر حركة «النهضة» إذ تفصل الدين عن الدولة.. فهمي هودي

الساعة 10:16 ص|31 مايو 2016

لا يكف الحدث التونسي عن إدهاشنا، الأمر الذي تجلى أخيرا في قرار إعلان حركة «النهضة» الانتقال من الإسلام السياسي والتفرغ للإسلام الديموقراطي.
(1)
الإعلان جاء مدويا، ولا تزال أصداؤه تتردد في داخل تونس وخارجها، برغم أنه تم منذ نحو عشرة أيام (يوم الجمعة 20 أيار الحالي). حين وقف رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي في افتتاح مؤتمرها العاشر في قاعة «رادس» الأولمبية بالعاصمة، وأعلن النبأ أمام حشد غفير من التونسيين تجاوز عددهم 12 ألف شخص. الذين حضروا لم يكونوا أنصار «النهضة» وأعضاء مؤتمرها العام وحدهم، ولكن الأهم من ذلك أن فعاليات المجتمع التونسي كلها كانت حاضرة. ولم يكن هؤلاء يمثلون مختلف الاتجاهات السياسية فحسب، وإنما لوحظ أيضا أن مقاعد الصف الأول جلس عليها بعض قيادات «الحزب الدستوري» ووزراء فترتي حكم الرئيسين بورقيبة وبن علي، بمن فيهم «الصقور» الذين قادوا الصراع بين التيارين الدستوري والإسلامي حينا من الدهر. وهو ما أدهش الجميع حتى قال أحدهم إن الصورة كان ينقصها بن علي لتكتمل ولو أن وزراءه قاموا بالواجب. وذهب آخرون إلى أن ذلك التقارب بين الدساترة والإسلاميين يمثل فصلا آخر في مسيرة التصالح التي حدثت في باريس بين الباجي قائد السبسي زعيم «حزب النداء» (قبل انتخابه رئيسا للبلاد) وبين «الشيخ» راشد الغنوشي. وجاء المشهد دالا على حرص قيادة النهضة على إجراء التصالح والتوافق، ليس فقط مع الاتجاه العلماني ومختلف القوى السياسية في المجتمع التونسي، وإنما أيضا على تحقيق ذلك التصالح بين الماضي والحاضر.
في خطابه أعلن الغنوشي أن حركته قررت الفصل بين الدعوي والسياسي. واختارت الالتزام بالتخصص والتفرغ لممارسة النشاط السياسي والانتقال من الأيديولوجية إلى الدولة، تاركة المجال الدعوي لمنظمات المجتمع المدني. ومن ثم فإن الشاغل الأساسي للحزب في المرحلة المقبلة سيظل مقصورا على السعي من خلال التوافق لتحقيق التنمية والنهضة وبناء الدولة الحديثة. نائبه الشيخ عبد الفتاح مورو لخص تلك الرؤية حين ردد شعار «الوطن قبل الحركة». وحين تحدث الرئيس التونسي الباجي السبسي فإنه أشار إلى أنه تردد في الحضور حتى يحتفظ بمسافة واحدة أمام الأحزاب التونسية (204 أحزاب) لكنه قرر المشاركة في الافتتاح، تقديرا للدور المهم الذي قامت به «النهضة» في تحقيق التوافق والحفاظ على الاستقرار في مرحلة الانتقال التي أعقبت سقوط النظام السابق. ودعا السبسي أبناء النهضة إلى التأكيد على أن حركتهم أصبحت حزبا مدنيا تونسيا ولاؤه لتونس وحدها، مضيفا أنه دأب على التصريح في المحافل الدولية بأن التيار الإسلامي في تونس لا يمثل خطرا على الديموقراطية.
(2)
ما إن أطلق الغنوشي المفاجأة حتى فرض الخبر نفسه على مقدمة نشرات الأخبار في مختلف العواصم الغربية فضلا عن العربية، فاعتبره البعض انقلابا وزلزالا سياسيين. وقال آخرون إن الشيخ راشد انضم إلى نادي العلمانيين. ورحب فريق ثالث بالإعلان بحسبانه تسليما بمبدأ الفصل بين الدين والسياسة، وذكرت بعض التحليلات أنه مجرد توزيع أدوار وأن القرار تعبير عن فشل الإسلام السياسي. وقرأ بعض الكتاب الخبر مستخدمين نظارة السلطة المصرية في تعاملها مع «الإخوان» واعتبارها حالة ميئوسا منها ومشكوكا فيها.
في اليوم التالي للافتتاح بدأت أعمال مؤتمر «النهضة» في منتجع الحمامات الذي يبعد مسافة أكثر من 100 كلم عن العاصمة. وحضر المؤتمر 1200 عضو من الرجال والنساء يمثلون قواعد الحركة في داخل تونس وخارجها. ووزع على الجميع تقرير في 156 صفحة، تضمن تقييم تجربة المراحل التي مرت بها الحركة، مستعرضا العثرات التي تعرضت لها والأخطاء التي وقعت فيها. كما تضمن عناصر رؤية المستقبل في ظل الانحياز للتخصص الوظيفي واختيار التحول إلى حزب سياسي مع التخلي عن الأنشطة الدعوية والمجتمعية والثقافية الأخرى، لكي تنهض بها منظمات المجتمع المدني. في هذا الصدد، ذكر التقرير أن مشروع حزب حركة «النهضة» خطوة على صعيد التطور الفكري والاجتماعي السياسي. وهو «مشروع إصلاحي حضاري يستند إلى المرجعية الإسلامية ويحتكم للدستور التونسي وسائر القوانين المرعية المنبثقة عنه».
حين سألت الشيخ راشد عن رأيه في الأصداء التي أحدثها إعلانه ذكر في ذلك ما يلي:
ـ انه لم يتحدث عن فصل الدين عن السياسة، لكن استراتيجية الحزب تنطلق من التمييز بينهما. لأن شمولية الإسلام لا تعني شمولية الأنظمة العاملة له. ولأن مجالات تلك الأنظمة متعددة، فإن التخصص أصبح يفرض نفسه في الوقت الراهن. بوجه أخص فإن فصل السياسي عن الدعوي يسمح للدعوة بأن تستمر من دون أن تتأثر جهود القائمين عليها بتقلبات عوامل المد والجزر التي يتعرض لها الحزب أثناء التدافع السياسي.
ـ إن حركة «النهضة» ظلت تطور أفكارها طول الوقت كما طورت عنوانها، فقد بدأت باسم «الجماعة الإسلامية» ثم حملت اسم حركة «الاتجاه الإسلامي»، وبعد ذلك اختارت «النهضة» عنوانا لها. وفي مرحلة بورقيبة التي هبت فيها رياح التغريب قوية على تونس، كانت الحركة عقائدية تخوض معركتها من أجل الهوية. وفي مرحلة بن علي ونظامه الشمولي والاستبدادي تحولت الحركة إلى احتجاجية تقاوم ظلمه وترفضه. وبعد إطاحة النظام السابق وحسم مسألة الهوية بالنص في الدستور على أن دين الدولة هو الإسلام، فإن الحركة ارتأت أن تتحول إلى حزب ديموقراطي وطني له مرجعيته الإسلامية والتزامه بمقتضيات الدستور وروح العصر. بالتالي فالتطور الأخير لم يكن نتيجة لإكراهات الواقع، وإنما هو تتويج لمسار تاريخي طورت فيه موقفها تبعا لمقتضيات التفاعل مع الواقع ومواجهة تحدياته.
ـ إن تونس تعاني من التطرف على الصعيدين الإسلامي والعلماني، ومن أسباب التطرف الإسلامي أن الدولة في العهدَين السابقين، وخلال 22 سنة، فرضت حالة من التجريف الديني في تونس، وهي التي أطلقت الدعوة إلى «التحريض الديني». وحين ركزت على مواجهة حركة «النهضة»، فإن ذلك فتح الأبواب واسعة لانتشار السلفية بمختلف أشكالها. وحين قامت الثورة أطلق سراح نحو 3000 سلفي، وهؤلاء استولوا على المساجد خلال السنوات الثلاث الأولى للثورة التي انشغلت خلالها السلطة بترتيب البيت التونسي. وإلى جانب هؤلاء نمت حركة التطرف العلماني الذي كان تأثره قويا بالعلمانية الفرنسية المخاصمة للدين والمعاندة له. ومن تجربة حركة «النهضة» التي تداخل فيها الدعوي مع السياسي، أدركنا أن السياسة أضرت كثيرا بالدعوة التي ظلت ضحية الصراع ضد النظامَين السابقَين.
(3)
فكرة التمييز بين السياسي والدعوي ليست جديدة في الساحة الإسلامية، ولكنها أحدثت رنينها القوي لأن إطلاقها في تونس تم في أجواء عربية ودولية غير مؤاتية، ذلك أن نموذج «داعش» ومن قبله «القاعدة» صار مهيمنا على الفضاء العام، إضافة إلى أن صراع النظام المصري مع حركة «الإخوان» فوت فرصة إخضاع تجربتهم للنقد واكتفى بتصنيفهم ضمن «أهل الشر». وأسهمت ظروف أخرى متعلقة بالصراعات الفكرية وبالعوامل الإقليمية في تعميم الاتهام على جميع تجليات الظاهرة الإسلامية، فاختلط العاطل بالباطل، بحيث علت أصوات رفضت التمييز بين المعتدلين والمتشددين. وآثرت وصف الجميع باعتبارهم متطرفين وإرهابيين. لذلك اعتبر الحدث التونسي تطورا استثنائيا وصفه البعض بأنه هزيمة للإسلام السياسي وانتصار للعلمانية.
ذكرنا محمد عمارة في مؤلفه «إسلامية الدولة والمدنية والقانون» بأن عبد الرزاق السنهوري أبو القانون الدستوري في مصر نشر دراسة في العام 1929 بمجلة «المحاماة» تحدث فيها عن التمييز بين الدين والدولة في الفكر الإسلامي وعارض فكرة الفصل بينهما. وقد انحاز عمارة إلى فكرة التمييز التي تبناها آخرون في مصر ودعوا إليها، في المقدمة منهم المستشار طارق البشري. ومن الكتابات المهمة التي عمدت إلى تأصيل الفكرة مؤلف سعد الدين العثماني الذي صدر في العام 2009 بالدار البيضاء تحت عنوان «الدين والسياسة تمييز لا فصل». والعثماني من أبرز قيادات حزب «العدالة والتنمية» في المغرب. وكان أمينا عاما للحزب حتى العام 2008 وعين وزيرا لخارجية المملكة في العام 2012.
على الصعيد العملي، فإن الحركة الإسلامية العربية عرفت الفصل بين السياسي والدعوي في ثلاثة أقطار عربية هي الأردن والمغرب ومصر. كانت حركة «الإخوان» قد تشكلت في الأردن العام 1946، لكنها أسست العام 1992 حزبا تخوض به الانتخابات باسم «جبهة العمل الإسلامي». أما المملكة المغربية فإن الحركة الإسلامية التي تشكلت في العام 1996 حملت اسم «حركة التوحيد والإصلاح»، اختارت أن تؤسس حزبا في العام 1997 باسم حزب «العدالة والتنمية». وبرغم التشابه في الشكل، فإن التجربتين اختلفتا بصورة نسبية. ففي الأردن تداخلت الحركة مع الحزب حتى بدا كأنهما يخضعان لقيادة واحدة، وبرغم مشاركة الحزب في الانتخابات إلا أنه لم يستطع لأسباب عدة أن يحقق الأغلبية التي تمكنه من تشكيل الحكومة. ولذلك ظل تمثيله مقصورا على المشاركة في البرلمان أو الحكومة.
في المغرب اختلف الموقف إلى حد كبير، فاستقلال حزب «العدالة والتنمية» عن حركة «التوحيد والإصلاح» ظل محسوما. وحقق الحزب نجاحات متزايدة في الانتخابات التشريعية إلى أن احتل المرتبة الأولى في انتخابات العام 2011. فتولى أمينه العام عبدالإله بنكيران رئاسة الحكومة في العام 2012 بالتحالف مع ثلاثة أحزاب أخرى. ولا تزال الحكومة مستمرة إلى الآن.
التجربة في مصر كانت محدودة ومتواضعة. ذلك أن جماعة «الإخوان» التي تأسست في العام 1928، شكلت حزب الحرية والعدالة في عام 2011، بعد «ثورة 25 يناير»، لكن الحزب ظل متداخلا مع الحركة، إلى أن انهار مع انهيار الجماعة وحظرها في العام 2013. إلا أن مصر عرفت حزبين سياسيين التزما بالمرجعية الإسلامية خارج الجماعة، هما حزبا «الوسط» و «مصر القوية»، وإلى جوارهما شكل السلفيون حزب «النور». وهي أحزاب لم تثبت حضورها في الفضاء المصري بعد، برغم أن حزب «النور» حقق تقدما ملحوظا في الانتخابات التي تمت تحت حكم «الإخوان».
هذه الخلفية تسوغ لنا أن نقول إن الخطوة التي أقدمت عليها حركة «النهضة» أقرب إلى التجربة المغربية في الفصل بين الدعوي والسياسي. إلا أنها تقدمت عليها في الخروج من فضاء الدعوة. وهي أقرب إلى النموذج التركي في الاكتفاء بالنشاط السياسي وان اختلفت عنها في المرجعية، لأن حزب «العدالة والتنمية» التركي (المقتبس من التجربة المغربية) مرجعيته علمانية وليست إسلامية.
(4)
سُئلت في تونس عن رأيي في التحول الذي أقدمت عليه حركة «النهضة»، فقلت إنه يمثل خطوة جريئة عبرت عن طموح قيادات «النهضة» وعلى رأسها الشيخ راشد الغنوشي، وهو من تبنى منذ أمد بعيد موقف الدفاع عن الديموقراطية. وسجل ذلك في كتابات عدة، كان أحدثها مؤلفه «الديموقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام» الصادر العام 2012.
قلت أيضا إننا ينبغي أن نتريث لكي نرى مدى تأثير هذه الخطوة على تماسك الحركة وموقف تيار الصقور منها، وبرغم تأييدي لها فإنني أخشى أن تترك ساحة الدعوة للسلفيين ومن لف لفَّهم. فيكون الضرر فيها أكثر من النفع. كما أنني أخشى على مشروع ورسالة النهضة من الغوايات والفتن الكامنة في ثنايا الحزب وتطلعه المشروع إلى السلطة. وإذا تم تجاوز هذين الاعتبارَين بنجاح، فإننا سنكون بصدد تجربة تاريخية فريدة في نوعها.

كلمات دلالية