خبر الهروب إلى أوسلو مجدداً ..د. محمد السعيد إدريس

الساعة 11:17 ص|19 مارس 2016

بين حين وآخر يجد «الإسرائيليون» أن اتفاق أوسلو مع السلطة الفلسطينية منذ عام 1993، والذي وأده «الإسرائيليون» بعد أن استنفدوا أغراضه الواحد تلو الآخر، أن تجديد الدوران حول هذا الاتفاق حتى ولو في صيغة «إعادة إحياء» قد تكون مفيدة لهم إما لتحقيق مكاسب تبدو سانحة لسبب أو لآخر، أو لدرء مخاطر قد تكون محتملة. هذه المرة يبدو أن «الإسرائيليين» وجدوا أن في «إعادة إحياء» أو «إعادة تدوير» اتفاق أوسلو يمكن أن يؤدي إلى تحقيق مكاسب وأيضاً يمكن به درء مخاطر.

فقد كشفت صحيفة «هآرتس» (14/3/2016) عن وجود توجه «إسرائيلي» جرى بحثه مع ممثلين للسلطة الفلسطينية يقوم على أساس العودة إلى مبادئ اتفاق أوسلو بشأن السيطرة الأمنية في مدن الضفة الغربية ابتداءً من رام الله وأريحا. ويقضي هذا التوجه بوقف الكيان الصهيوني أنشطته العملياتية في المناطق الخاضعة ضمن التصنيف (أ) باستثناء الحالات التي يجري الحديث فيها عن وجود «قنبلة موقوتة»، وخلال المحادثات التي جرت بهذا الخصوص مع مسؤولين بالسلطة الفلسطينية عرض المفاوضون «الإسرائيليون» أن تكون مدينتا رام الله وأريحا أول مدينتين يتركهما الجيش «الإسرائيلي»، وأنه في حال نجاح ذلك، يمكن أن تتوسع الخطة لتشمل مدناً أخرى في الضفة.

مضمون تلك المحادثات كان فعلياً أشبه ب «طحن الهواء» لأنها لا تقدم إضافات إيجابية، فهي مجرد دعوة إلى ما كان قد تم الاتفاق عليه وفقاً لأوسلو، وجرى تطبيقه جزئياً، ثم انقلب «الإسرائيليون» عليه عندما اقتحمت قوات الاحتلال المدن الفلسطينية في عهد رئيس الحكومة الأسبق ارئيل شارون في العام 2002 أثناء الانتفاضة الثانية. أي أن البحث كان يدور حول إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل اقتحامات شارون حيث إن المنطقة «أ» تضم وفقاً لاتفاق أوسلو المدن الفلسطينية الكبرى والقرى القريبة منها في الضفة وهي تشكل حوالي خمس مساحة الضفة، وبحسب اتفاق أوسلو فإن المسؤولية المدنية والأمنية في هذه المنطقة تقع على كاهل السلطة الفلسطينية.

للأسف قبلت السلطة الدخول في مثل هذه المحادثات وهي تدرك أن «إسرائيل» تحاول بشتى الطرق الخروج من أجواء الانتفاضة التي بدأت تحفز الأوروبيين والأمريكيين للتحرك لفعل شيء إيجابي يمكن أن يؤدي إلى إنجاح حل الدولتين وبالذات المبادرة الفرنسية من ناحية، والتحسب لتوجه من جانب الرئيس الأمريكي باراك أوباما لتحريك الجمود في محادثات السلام وتحقيق إنجاز بهذا الخصوص في الأشهر القليلة المتبقية من ولايته في وقت يمكن أن تدخل فيه «إسرائيل» بجدية مع الإدارة الأمريكية في محادثات لزيادة المساعدات العسكرية الأمريكية السنوية ل «إسرائيل».

إخماد الانتفاضة الفلسطينية، بات هدفاً استراتيجياً لحكومة نتنياهو في هذا الوقت بالذات لأسباب كثيرة.

في مقدمة هذه الأسباب أن هذه الانتفاضة تحدث في وقت غير مناسب البتة بالنسبة للكيان الصهيوني. ففي الوقت الذي يرى فيه «الإسرائيليون» الدول العربية تواجه خطر الانقسام والتفتيت والحروب الداخلية والتخبط في تحالفاتها وعلاقاتها الإقليمية، وفي الوقت الذي بات يدرك فيه «الإسرائيليون» أن الأعداء الجدد للعرب سواء كان الإرهاب الأصولي أو الخطر والتهديد الإيراني يمكن أن يؤدي إلى تقارب عربي مع «إسرائيل»، فإن تفجر الأوضاع الأمنية داخل الأراضي الفلسطينية وتورط قوات الاحتلال في صدامات مع أهالي الضفة وعرب 1948 يضع من يفكرون في التقارب أو التفاهم مع «إسرائيل» والدخول في تنسيق أو تعاون أمني لمواجهة ما تعتبره «إسرائيل» مخاطر وتهديدات مشتركة، في حرج بالغ أمام شعوبهم قد يؤدي إلى التراجع عن هذا التوجه. كما أن التمادي ««الإسرائيلي» في سياسة الاستيطان» وإنهاء أي فرصة لإنجاح مشروع حل الدولتين يعد مسؤولاً عن تحريك الدبلوماسية الأوروبية ضد «إسرائيل» وخاصة الدبلوماسية الفرنسية التي صاغت مبادرة حملت اسم لوران فابيوس وزير خارجيتها السابق بعقد مؤتمر دولي تحت رعاية الأمم المتحدة للبحث في التسوية السلمية للنزاع الفلسطيني- «الإسرائيلي» وإذا فشلت محادثات هذا المؤتمر في الوصول إلى حل فإن فرنسا ستقدم على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو أمر لا ترغب فيه «إسرائيل» وتريد احتواءه، بالتظاهر بوجود إطار تفاوضي بديل حتى لو كان التفاوض على الوهم.

التحسب «الإسرائيلي» مرجعه الخشية من أي ربط أمريكي في الاستجابة للمطالب «الإسرائيلية» بزيادة المساعدات العسكرية ل «إسرائيل» وبين الانخراط «الإسرائيلي» في التفاوض مجدداً حول «حل الدولتين» وتحقيق إنجاز بهذا الخصوص. فمن المقرر أن يتم التوصل إلى مذكرة تفاهم جديدة بخصوص المساعدات العسكرية الأمريكية المقرر منحها إلى «إسرائيل» بدل المذكرة التي تنتهي في العام المقبل. كانت واشنطن مستعدة لرفع تلك المساعدات أثناء مفاوضات أزمة البرنامج النووي الإيراني لكن «إسرائيل» ماطلت وتورطت في مواجهة مع الإدارة الأمريكية، ورغم ذلك، وحسب مجلة «ديفنس نيوز» فإن الإدارة الأمريكية مازالت مستعدة لزيادة مبلغ المساعدات الأصلي الذي يبلغ حالياً 3,1 مليار دولار إلى 3,8 مليار دولار.

مؤشرات الطموح الأمريكي التي تلحظها «إسرائيل» بخصوص الربط بين زيادة المساعدات العسكرية والانخراط «الإسرائيلي» في مشروع جديد للسلام عبر عنه جون بايدن نائب الرئيس الأمريكي أثناء زيارته الأخيرة للكيان الصهيوني (8/3/2016) في مؤتمره الصحفي المشترك مع بنيامين نتنياهو بقوله إن «الطريق الوحيد للحفاظ على الطابع اليهودي والديمقراطي ل«إسرائيل»يتمثل بالخروج من الطريق المسدود نحو تطبيق حل الدولتين للشعبين»، ودعوته للطرفين الفلسطيني و«الإسرائيلي» إلى «اتخاذ إجراءات في هذا الاتجاه».

كل هذه الضغوط الخارجية تحفز «الإسرائيليين» للتظاهر بفعل شيء لا يساوي ثمناً عندهم ولا يمثل تنازلاً ولا يعيق مشروع الاستيطان والتهويد وفرض خيار «الدولة اليهودية» كبديل لخيار «حل الدولتين».  ميزة إجراء مثل تلك المفاوضات السرية مع السلطة الفلسطينية حول انسحابات «إسرائيلية» متوازنة تقود إلى إعادة سيطرة الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية على مناطق الانسحاب خاصة المنطقة «أ»، خطوة تراها «إسرائيل» ضرورية من ناحية عدم المس بالتنسيق الأمني وتثبيت الوضع الميداني وتقليل الاحتكاك بين الطرفين على أمل احتواء الهبة الشبابية ومنع انجراف الدول الأوروبية والإدارة الأمريكية نحو ممارسة ضغوط على «إسرائيل» لتقديم تنازلات لا ترغبها، لكن من ناحية أخرى، وهو الأهم، أنها خطوة تخاطب «الوعي العربي الجديد» الراغب في التفاهم مع «إسرائيل»، وتهيئة الظروف الموضوعية لتخليق تحالفات «إسرائيلية» - عربية لمواجهة المخاطر الجديدة بعيداً عن «الهم الفلسطيني» الذي ظل، حسب الرؤى «الإسرائيلية»، عائقاً على مدى عقود طويلة لتأسيس علاقات تعاون «إسرائيلية» - عربية.