خبر هل حقاً يعزز المرض العقلي من العبقرية؟

الساعة 05:27 م|01 مارس 2016

فلسطين اليوم

يمكن لأي شخص أن يستشهد بأشخاص مشهورين كانوا مبدعين للغاية على الرغم من كونهم يعانون من مشاكل عقلية، من (فنسنت فان جوخ) و(فرجينيا وولف) لـ(توني هانكوك) و(روبن وليامز)، وغيرها الكثير من الأمثلة التي تجعل من الواضح حتمية وجود ارتباط بين المرض العقلي والإبداع، ولكن على الرغم من أننا قد نعتقد بأن البحوث ستدعم هذه الإدعاء الشائع بالتأكيد، إلّا أن الأمر ليس كذلك تماماً.

في الواقع هناك عدد قليل فقط من البيانات الجيدة التي بحثت في هذا الموضوع، فمن خلال مراجعة 29 دراسة أجريت قبل عام 1998، لم تجد 15 منها أي صلة، في حين وجدت تسعة منها علاقة بين الأمرين وأشارت خمس منها بأن الأمر غير واضح، لذلك بالكاد يمكن القول بأن هناك صلة مباشرة ما بين المرض العقلي والإبداع، ولكن بعض من هذه الدراسات كانت عبارة عن دراسات حالة ببساطة وليست محاولات صارمة لتحديد ما إذا كان هناك فعلاً وجود علاقة سببية.

إحدى الصعوبات التي تواجه مثل هذه الدراسات هو أنه ليس من السهل جداً تحديد أو قياس مدى الإبداع، لذلك فإن الباحثين غالباً ما يستخدمون وسائط للوصول إلى ذلك، فعلى سبيل المثال، اعتمدت دراسة تم إجراؤها في عام 2011 على المهنة ببساطة لتصنف الأشخاص وذلك على افتراض أن جميع الأشخاص الذين يعملون في مجال الفن، أو التصوير، أو التصميم أو العلوم يجب أن يكون مبدعين، وذلك بغض النظر عن مكانهم الوظيفي الدقيق، وباستخدام الإحصائيات الرسمية للحكومة السويدية، وجد الباحثون بأن الأشخاص الذين يعانون من الاضطراب ثنائي القطب كانوا أكثر عرضة بـ1.35 مرات لأن يكونوا في واحدة من هذه الوظائف الإبداعية، ولكن لم يكن هناك فروق عندما كان الاضطراب العقلي يتمثل بالقلق، والاكتئاب أو الفصام، ومع هذا، فلأن الدراسة لم تشمل سوى مجموعة صغيرة من المهن، لا يمكن القول بأن هذه البيانات يمكن أن تخبرنا فيما إذا كان الأشخاص الذين يشغلون المهن الإبداعية هم أكثر عرضة من غيرهم من الأشخاص للإصابة بالاضطراب ثنائي القطب أو ما إذا كان من غير المحتمل بالعادة للمحاسبين، مثلاً، أن يصابوا به.

غالباً ما كانت الدراسات تقتبس الصلة التي وردت في بحث تم إجراؤه من قبل (نانسي أندرياسن) ونشر في عام 1987، حيث قارن هذا البحث بين 30 كاتباً و30 شخصاً آخرين من غير الكتّاب، وكانت النتائج تشير إلى أن الكتّاب كانوا أكثر عرضة للإصابة بالاضطراب ثنائي القطب من غير الكتّاب، ولكن مع ذلك فإن هذه العينة كانت صغيرة، ولم تضم سوى 30 كاتباً تمت مقابلتهم خلال 15 عاماً، وعلى الرغم من أنه تم الاستشهاد بهذه التجربة على نطاق واسع، إلّا أنه تم انتقادها أيضاً، لأن تشخيص مشاكل الصحة العقلية كان قد تم عن طريق المقابلات وليس من الواضح ما هي المعايير التي استخدمت في ذلك، ومن جهة أخرى كان الأشخاص الذين يجرون المقالات على دراية تامة بالأشخاص الكتّاب وغير الكتّاب، وهذا يمكن أن يؤثر على النتائج، فضلاً عن أن الكتّاب كانوا قد اختاروا زيارة معتزل للكتابة، وهو مكان يقصده الأشخاص كملاذ، لذلك ربما كان هؤلاء الكتاب أكثر احتمالاً لأن يكونوا مصابين بالاضطراب في المقام الأول.

حتى ولو كان من الممكن اعتبار أن هذه النتائج تحتوي على قيمة ظاهرية، فإنها لا تخبرنا سوى القليل عن السببية، فهل الفوائد الإبداعية المفترضة للاضطراب ثنائي القطب هو ما جعل الكتاب أكثر احتمالاً لاختيار مهنتهم أم أن الأعراض جعلت من الصعب عليهم إيجاد وظيفة تقليدية؟ هذا أمر يصعب معرفته.

هناك دراستين أخرتين يكثر ذكرهما لدعم وجود صلة بين المرض العقلي والإبداع، تم إجراء الأولى من قبل (كاي ريدفيلد جاميسون)، المعروفة بكتابها الرائع “العقل المضطرب” (Unquiet Mind)، ومرة أخرى، استند البحث على المقابلات، ولكن هذه المرة مع شعراء وروائيين وكتاب سير ذاتية وفنانين، حتى وصل مجموع المشاركين في البحث إلى 47 شخصاً، ولكن لم يكن هناك أي مجموعة ضابطة، لذلك لا يمكن تطبيق هذه المقارنات سوى مع نسبة متساوية تقريباً من عدد السكان، علماً بأن البحث وجد مستويات مدهشة من الأمراض العقلية، فعلى سبيل المثال، تبين أن نصف عدد الشعراء كانوا قد سعوا لالتماس العلاج النفسي في وقت ما من حياتهم.

ثم هناك بحث تم إجراؤه من قبل (أرنولد لودفيغ) شمل عدداً أكبر بكثير من الأشخاص، حيث أنه قام بدراسة السير الذاتية لأكثر من ألف شخص مشهور بحثاً عن مشاكل عقلية يعانون منها، ووجد بأن أنماط المشاكل كانت تختلف تبعاً لاختلاف المهن، ولكن المشكلة هنا هي أنه بالرغم من أن الأشخاص المشاهير كانوا استثنائيين بلا شك (ونستون تشرشل وأميليا إيرهارت، على سبيل المثال) فإنهم لم يكونوا بالضرورة مبدعين بالمعنى الحرفي للكلمة، وعلى الرغم من أنه كثيراً ما يستشهد بدراسته المطولة كدليل لصحة وجود الصلة، إلّا أن (لودفيغ) نفسه يعترف في بحثه بأنه لم يثبت بأن المرض العقلي يكون أكثر شيوعاً في أوساط المشاهير أو أنه ضروري لتمييزهم.

يبدو أن الدراسات التي يتم إجراؤها على الشخصيات البارزة تحظى بشعبية كبيرة بين الباحثين، لكنها لا تحقق دائماً نفس النتائج، فبالعودة إلى عام 1904 درس (هافلوك إليس) أكثر من 1000 شخصاً من الشخصيات المشهورة، ولم يستطع التوصل لوجود علاقة بين المرض العقلي والعبقرية، في حين جاءت الدراسة تم إجراؤها في عام 1949 وشملت 19.000 من الفنانين والعلماء الألمانيين خلال ثلاثة قرون بنفس النتيجة، ولكن هذه الدراسات جميعاً تمتلك ذات المشكلة المتمثلة باعتمادها على كتاب السيرة الذاتية الذين عرفوا واختاروا ذكر المشاكل الصحية العقلية التي يعاني منها موضوعهم.

على الرغم من ضعف الأدلة، أو افتقارها للكمال، يختار الأشخاص التمسك بفكرة وجود صلة بين المرض العقلي والعبقرية، ولكن لماذا؟ أحد الأسباب التي تقف خلف ذلك هو أنه قد يبدو لنا من البديهي أن يساعد التفكير بطرق غير عادية، أو اختبار الطاقة والتصميم الناجمان عن الهوس، على الإبداع، في حين يرى البعض بأن العلاقة بين المرض العقلي والإبداع أكثر تعقيداً، حيث أن مشاكل الصحة العقلية تسمح للأشخاص بالتفكير بطريقة أكثر إبداعية من غيرهم، ولكن هذا الإبداع يتراجع إلى مستويات متوسطة أو قليلة خلال النوبات الشديدة من المرض، وأحياناً بالطبع يمكن لمشكلة الصحة العقلية أن تمنع الأشخاص من فعل ما يسعون للقيام به على الإطلاق، فالاكتئاب مثلاً يمكن أن يستنزف الدافع لفعل أي شيء على الإطلاق.

تبعاً لعالم النفس (آرني ديتريش)، الذي يعطي تفسيراً لطيفاً مبنياً على ما أشار إليه (دانيال كانيمان) الحائز على جائزة نوبل، فإن ميلنا للتركيز على كل ما هو أمامنا هو ما يجعلنا نتمسك بهذا المعتقد، فحكاية (فان كوخ) مثلاً، الذي قطع أذنه في لحظة من الجنون، تجعل هذه القصة حية في أذهاننا، كما أننا لا نمتلك صوراً عقلية لفنانين استطاعوا المضي بسعادة في حياتهم، كما أننا نقدر مقدار حدوث الأشياء بمدى السهولة التي يمكن فيها أن تتبادر إلى أذهاننا، لذلك، فإذا ما طلب منا أن ننظر فيما إذا كان هناك رابط بين العبقرية والمرض العقلي، فنحن غالباً ما نقرر ذلك اعتماداً على الأمثلة الأولى التي نفكر بها.

من الممكن أن يكون هناك بعض الجوانب السلبية المحتملة للاعتقاد بهذه العلاقة، فبعض الأفراد يجدون مرضهم يعزز بالفعل من قدراتهم الإبداعية، وهذا يردعهم عن تناول الدواء خوفاً من أن تناوله سيطفئ من إبداعهم، ولكن هل يمكن أن يكون هناك خطر يتمثل باعتقاد الأشخاص بأن نجاحاتهم الإبداعية تعود إلى مرضهم وليس لمواهبهم الخاصة؟ وماذا عن أولئك الذين يعيشون مع مشاكل عقلية، ولكنهم لا يمتلكون موهبة استثنائية؟ هل يمكن لهذا أن يشكل ضغطاً عليهم ليشعروا بأنه ينبغي عليهم التفوق بالتأكيد، ويجعلهم في حالة من الضيق إن لم يفعلوا ذلك؟

في النهاية، يمكن لهذا الأمر أن يطرح تساؤلاً آخر، هل ما يزال المجتمع متمسكاً بهذا الاعتقاد لأنه يوفر له بعض الراحة، سواء بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من مشاكل عقلية لأنه يفتح أمامهم إمكانية الجانب الإيجابي لذلك، أو بالنسبة للأشخاص الذين لا يمتلكون لأي مواهب لأنه يجعلهم يفكرون بأن العبقرية الخلاقة يمكن أن تأتي بثمن باهظ؟ اعتقد بأن الاعتقاد بوجود رابط بين المرض العقلي والإبداع ما زال مستمراً ببساطة لأننا نريد له أن يستمر.