عندما يقدم الانسان على الانتحار أو يحاول الانتحار أو يسلك سلوكاً انتحارياً يعني أنه قد وصل إلى قناعة بأن الموت أفضل من الحياة أو على الأقل سيان ، وأن بطن الأرض خيرٌ من ظاهرها أو على الأقل تتساويان ، ويعني أن اليأس قد تقدم عنده على الأمل ، وأن الجزع قد سبق الصبر ، ويعني أيضاً أن الحزن قد استحكمت حلقاته وأُغلقت ، وأن الاحباط قد بلغ عنده مبلغه ، وأن العجز قد وصل لديه إلى نهايته ، وأن القنوط من رحمة ربه قد وجد طريقه إليه وغاب عنه أنه لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ، وأن اليأس من روح الله قد تمكن منه ونسي أنه لا ييأس من روح الله إلا الكافرون ، وأصبحت الحياة هي مصدر شقائه وتعاسته بعد أن فقدت رونقها ومتعتها وبهجتها ، وغلب الظن الخاطئ عليه واهماً بأن الموت سيضع حداً لمعاناته ، ونسي المسكين أن جناية المرء على نفسه أكبر إثماً عند الله وأعظم جرماً من جنايته على غيره ، ولو علم ما في الانتحار من اثم لما هان عليه أن يخسر سعادته الأخروية خسراناً مبيناً أسفاً على تعاسته الدنيوية ، ولو بحث عميقاً في نفسه لربما وجد في انفتاح العقل وإيمان القلب واطمئنان النفس سعادته المفقودة .
ولا شك أن الحكم الشرعي للانتحار أنه حرام وإثم كبير نهى الله ورسوله عنه ، لقوله تعالى « ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً. » وليس أكبر من قتل النفس جريمة ، وكذلك لقوله تعالى « ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » وليس أعظم من الانتحار تهلكة . وبيّن الرسول الكريم-عليه الصلاة والسلام- في الحديث الشريف أن من قتل نفسه بحديدة أو سم أو إلقاء من علٍ ...فهو يعذّب في النار خالداً فيها أبداً على الطريقة التي قتل بها نفسه . فالنفس ملك لله والحياة هبة الله للإنسان فليس للإنسان استعجال الموت بإزهاق روحه لأن في ذلك تدخل فيما لا يملك ، إضافة إلى أنه يأس من روح الله « إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون » وقنوط من رحمة الله « ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون . » ولكن الانتحار ليس كفراً مخرجاً من الملة –كما يعتقد البعض- بل هو من كبائر الذنوب والآثام التي تستحق العذاب في النار يوم القيامة ولكنه في مشيئة الله إن شاء غفر له أو عذبه إلا إذا كان مستحلاً للانتحار أي يعتقد أنه حلال في الاسلام .
والمسؤولية الشرعية الفردية التي تقع على عاتق المنتحر كونه الجاني والمجني عليه في آن واحد لا تعني إعفاء المجتمع بأسره من مسؤوليته الاجتماعية لجريمة الانتحار ومرتكبيها ، فصحيح وجود أسباب شخصية وأُسرية لبعض حالات الانتحار أو محاولات الانتحار ، إلا أن الكثير منها ناتج عن الوضع الاقتصادي المتردي لاسيما في قطاع غزة ، بل حتى الأسباب الشخصية والأُسرية محصلة لوضع المجتمع في جانب منها ، فهنالك علاقة طردية بين سوء الأوضاع العامة والاقتصادية خاصة وحالات الانتحار ، التي من ضمن مدلولاتها أنها رسالة احتجاج ضد المجتمع خاصة أولي الأمر فيه . ومأساة الانتحار تجلي واضح لمأساة أكبر أصابت جيل كامل من البؤساء الذين اصطدمت طموحاتهم بصخرة الاحتلال البغيض التي لم نستطع تحطيمها بعد ، وأُحبطت أهدافهم أمام سد الحصار المنيع الذي لم نستطع اختراقه بعد ، وتوقّف قطار حياتهم عند محطة الانقسام النكدة الذي لم نستطع مغادرتها إلى محطة الوحدة الوطنية ، وضاعت أحلامهم في دهاليز المناكفات السياسية وأزقة الردح السياسي المتبادل بعد كل جولة مفاوضات للمصالحة الوهمية .
ومسؤولية المجتمع هي مسؤولية شرعية أيضاً يتحملها أولي الأمر منهم ويشاركهم فيها كل مؤسسات المجتمع الرسمية والأهلية ، فقد جعل الله تعالى عدم كفالة اليتيم وعدم مساعدة الفقراء والمساكين نوع من التكذيب بالدين نفسه ، وأمر رسولنا الكريم-صلى الله وعليه وسلم- بالتكافل الاجتماعي عندما أمر من عنده فضل زاد بأن يعود به على من لا زاد له ، ولم تُفرض الزكاة والصدقة إلا لهذا الغرض ، وهذا ما فهمه أبو ذر الغفاري –رضي الله عنه- عندما تعجب من الفقراء الذين لا يتمردون على واقعهم ويثورون ضد ظالميهم بقوله « عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه ». ذلك بأن الفقير لا يجوع إلا بسبب تخمة الغني ، ولا يزداد الفراء فقراً إلا بازدياد الأغنياء غنىً ، ولا ينتشر الفقر والجوع في بلدٍ ما إلا بانتشار الظلم والفساد والاستغلال فيها ، ولا تزداد الهوة بين الأثرياء والفقراء إلا بازدياد الفجوة في توزيع الثروة بين الأقلية المترفة المحظوظة و الأقلية البائسة المحرومة ، وقد يموت الفقير في مخمصة بينما يموت الغني في بطنة .
والخلاصة إذا تجاوزنا مسؤولية الاحتلال الأساسية عن الفقر والبطالة التي تقف وراء الكثير من حالات الانتحار ومحاولات الانتحار ، فإن مسؤولية المجتمع وأولي الأمر فيه تقتضي معالجة هذه الظاهرة – إذا ما اعتبرناها ظاهرة – بكافة الطرق الممكنة والإمكانيات المتاحة.....أما لأولئك المساكين الذين طحنتهم الحياة وألقت بهم في مهاوى الردى وراودتهم أنفسهم بالانتحار أوحدثتهم بالانسحاب من الحياة الدنيا فلا فأقول لهم ما قاله أحد الدعاة (لا تحزن إن كنت فقيراً فغيرك محبوس في دين ، وإن كنت لا تملك وسيلة نقل فسواك مبتور القدمين ، وإن كنت تشكو من آلام فالآخرون مرقدون على الأسرة البيضاء ومن سنوات ....لا تحزن وانتظر الفرج ففي الحديث الشريف« انتظار الفرج عبادة » ، وفي القرآن الكريم: « ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ».)