لو أننا لجأنا إلى مجموعة الخطوات الرياضية والمنطقية المتسلسلة التي يسمونها « الخوارزمية »، لكي نفك شفرة المصالحة الفلسطينية؛ لاعترضتنا، ابتداءً، إشكالية التسمية نفسها. فهي ليست مصالحة فلسطينية، ولا حتى مصالحة بين النُخب، لأن الأحاديث والتلاقي بين هذه النخب، من حركتي فتح وحماس، لم تتوقف مثلما يتوقف التخاطب بين المتخاصمين. بل كانت لافتة، على الدوام في الصور، ضحكات أو قهقهات عزام الأحمد وموسى أبو مرزوق، ونعلم الكثير عن القفشات في أثناء اللقاءات. أما المجتمع الفلسطيني، فلا خصومة بين أبنائه. صحيح، إن هناك اختلافات وانتماءات فصائلية متباينة، لكن وشائج القربى، وعلاقات الصداقة، وضرورات التواصل الاجتماعي في سائر الأيام؛ ظلت قائمة وراسخة. فما الذي نحن بصدده إذن؟ إنه انقسام نظام سياسي، وتعارض مديد، بين نهجين، لفريقين في وطنٍ واحد، فقد كل منهما الكثير من عناصر رؤيته، وأهمها على الجانبين أن التسوية لم تعد متاحة، وقد تحولت وظيفة فريقها إلى ممارسة مبتذلة للتنسيق الأمني، والصبر البائس على المقسوم، على النحو الذي أفقده احترام الناس وتأييدها، فيما، على الجانب الآخر، تحولت المقاومة إلى التزام قهري بالتهدئة، وإلى قوة حُكم، في غزة، بقدر ما يفقد من صدقية ما يقول، عن الأخذ بناصية الدين الطهرانية، يفقد ثقة الناس وتأييدها.
هذا هو واقع حال الفريقين، ما يدعو إلى تأسيس قاعدة جديدة، لشرعية حكم واحد في كل من الضفة وغزة.
لن يكون التوافق صعباً، إن توفرت الإرادة التي تحفّز عليها قراءة موضوعية وواقعية للحال الفلسطينية الراهنة. فالتحلي بالإرادة، والثقة المتبادلة القائمة على طمأنة كل فريق للآخر، على حقه في دوره السياسي، وفي المنافسة الديموقراطية، في إطار الشراكة لصنع التهيؤ الفلسطيني الشامل لمواجهة التحديات والشراكة في إحراز مستقبل جماعي كريم، للفلسطينيين؛ باتت ضرورات يُحمل عليها بمسؤولية، بدل استمرار كل طرفٍ في المناورة على الآخر. فمن يأنس في نفسه الفطنة والجدارة لن يفلح، إن لم يسهم في تخليق أوضاع سياسية ــ اجتماعية، تنعكس عن الأفكار والرؤى التي يبشر بها من فوق المنابر، أو عبر شاشات التلفزة وصفحات التواصل.
أدرك شقا النظام السياسي المنشطر أن أياً منهما لن يستطيع حسم التعارض لمصلحته، لا سيما وأن لكل منهما مساحة من الأرض يلعب عليها، وظلت عين كل منهما على الآخر، بينما خسارتهما تزداد على صعيد المجتمع. والمفترض أن يكون خيار التوافق قد نضج في هذا الخضم الفلسطيني العسير. فقد آن الأوان لوقف إهدار ماء الوجه، وترك الناشئة والأجيال، يكبرون بمشاعر الإحساس باللا جدوى وبمرارة الفرقة والتهاجي. فمن يطمح إلى تغيير في الوجهة، فإن كُلفة بلوغ ما يطمح إليه، أو كلفة إحباط ما يريده الطرف الآخر، هي أكبر بكثير من كُلفة التوافق والصدام.
لكن شروط إحراز التوافق لن تُلَبى من خلال الصيغ والاتفاقات التي باتت حبراً على ورق، وإنما هي رهنٌ بوعي نوعي، من طرفي الخلاف المديد، بأن أياً منهما لا يمكنه احتكار السلطة إلى الأبد، وممارستها بلا محددات وقيود، فتنعقد له القدرة على إقصاء الآخرين. كل الكيانات السياية في العالم تتغير هي وتتغير معها قواعد شرعيتها، ولا تجدي نفعاً، لا العصا الغليظة، ولا القوى الأمنية، ولا العصبيات الجهوية والفئوية، لأن التغيير من سنن الحياة. ففي حال العناد، وإن طال أمده، تظل خيارات التغيير متاحة للشعوب.
واقع الانقسام الفلسطيني، على فداحته التي طاولت كل شيء، لا يزال سبباً في تخفيض الثقافة السياسية الديموقراطية، وفي تضييع بوصلة المجتمع، ودفع أبنائه، آحاداً، إلى البحث عن خلاص فردي، وهنا مقتل المشروع الوطني الفلسطيني العام. على هذا الأساس، ينبغي فك ما اصطُلح على تسميته « المصالحة الفلسطينية »