خبر الفعل الانتفاضي في شهره الرابع ..علي جرادات

الساعة 11:24 ص|27 يناير 2016

لو شئنا مقاربة الفعل الانتفاضي في شهره الرابع، لقلنا: أخفق الاحتلال في إخماده كفعل ميداني، لكنه لم يتحول، فلسطينياً، إلى خيار سياسي، ذلك ليس لأنه لا يحمل القابلية، بل ارتباطاً باستمرار رهانات «أوسلو» الخائبة، واستمراء «لعبة» الانقسام المدمرة. وكي لا يجهلنَّ أحد على أحد، فإن هذا وذاك، (وبمعزل عن توزيع النسبة)، يتحملان، معاً، مسؤولية عدم اغتنام فرصة الموجة الانتفاضية المستمرة  لتوحيد الصف الوطني، بل، ومسؤولية تحويلها من فرصة لاستعادة ثقة الشعب الفلسطيني بالفصائل، إلى محطة لتعميق الشروخ، وارتفاع حدة النقد الشعبي للتنظيم السياسي الفلسطيني، لدرجة غسل اليد منه، ومن إمكانية تصويب ما أصابه من خلل بنيوي، بل واعتباره من مخلفات الماضي الذي ينبغي ركْنه في متحف للعاديات، بكل ما ينطوي عليه ذلك من جنوح نحو تقديس العفوية و»شيطنة» التنظيم بأشكاله، بما فيها السياسي، أداة التغيير الأساس للثورات، الوطنية منها والاجتماعية، في التاريخ الحديث والمعاصر. إن هذا المستوى غير المسبوق من عدم ثقة الحالة الشعبية الفلسطينية بفصائل العمل الوطني، أمر يستدعي القلق بحد ذاته، فما بالك بما يوفره للاحتلال وأجهزته الأمنية من مداخل، لم يحلم بها، لتأجيج الخلافات، ولزعزعة الثقة، سواء بين الفصائل نفسها، أو بينها وبين شعبها، كشعب دأبه الإقبال على الانتظام، وعلى الانخراط في التنظيم بأشكاله كافة، بصورة لم يعرفها، (مثلاً)، شعب عربي آخر، على الأقل منذ انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، ذلك من دون أن ننسى ما أحدثته انتفاضة 87 الكبرى، من تطوير وإبداع، كمي ونوعي، على أشكال ومحتوى التنظيم الفلسطيني.   

لكن، لا شك أن ترك الفعل الانتفاضي الميداني بلا قيادة وأهداف سياسية وطنية موحدة، وبالتالي، بلا ركائز فكرية واجتماعية واقتصادية ومعنوية وطنية موحدة، هو المسؤول عما نشهده من نكوص نحو تقديس العفوية لدرجة رجم التنظيم والانتظام كمبدأ. وفي هذا، بلا أدنى شك أو ريب، ما يشجع حكومة الاحتلال، (المتغطرسة الفاشية بطبيعتها)، على تصعيد هجومها السياسي، والإيغال في هجومها الميداني لردع و/ أو «كي وعي»، الصناع الميدانيين للفعل الانتفاضي المستمر للشهر الرابع على التوالي، عبر ارتكاب فظاعات الإعدامات الميدانية، واحتجاز جثامين الشهداء، وهدم بيوت عائلاتهم، وترك الجرحى ينزفون حتى الموت، وتكثيف حملات الاعتقال وتشديد التنكيل بالأسرى، والأطفال منهم خصوصاً. هذا علماً أن قادة جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية، (وفقاً لوسائل الإعلام الإسرائيلية)، حذروا، منذ البداية، وما زالوا يحذرون، حكومتهم من أن تصعيد البطش لا يساعد على إخماد الفعل الانتفاضي، بل يؤججه، ويوسع المشاركة الشعبية فيه. وقد جاءت مجريات الأحداث لتثبت صوابية هذا التقدير. فسقوط الشهداء لم يردع غيرهم، بل زاد عددهم، ووسَّع المشاركة الشعبية في جنازاتهم وبيوت عزائهم. واحتجاز جثامينهم أطلق المسيرات الجماهيرية الحاشدة المطالبة باستعادتها. أما هدم بيوت عائلاتهم، ففتح باب المبادرات الشعبية لإعادة بنائها. فمن مبادرة جمع التبرعات لإعادة بناء بيت عائلة الشهيد إبراهيم العكَّاري في مخيم شعفاط، إلى مبادرة إعادة بناء بيوت الشهداء في نابلس، إلى مبادرة إعادة بناء بيت عائلة الشهيد مهند الحلبي في رام الله، إلى قرار نقابة موظفي السلطة، (المُنحلة)، بدفع كل موظف 1% من راتبه، ومطالبة النقابات الأخرى أن تحذو حذوها، لكن السلطة، من أسف، لم تعلن موافقتها على قرار نقابة موظفيها، فيما الأصل أن تضطلع هي، (السلطة)، بمسؤوليتها الوطنية تجاه كل العائلات المتضررة من إجراءات الاحتلال، وليس عائلات الشهداء، فحسب.                 

وفي هذا الرد الشعبي على بطش الاحتلال ما يفسر استخدام الجيش الإسرائيلي لصلاحياته وتسليم جثامين شهداء الضفة، خلافاً لحكومته التي تستخدم صلاحياتها لمواصلة احتجاز جثامين شهداء القدس، ما يؤكد أن ثمة تبايناً نسبياً بين المستوى السياسي والمستوى العسكري الأمني للاحتلال حول سبل مواجهة التحديات الإستراتيجية التي تواجهها إسرائيل، ومنها تحدي الموجة الانتفاضية المستمرة. فمعرفة قادة جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية لحدود قوة إسرائيل، بالمعنى الشامل للكلمة، هي ما يدفعهم لفرملة «جنون» حكومتهم وعنجهية ظنها بأن ما لا يتحقق بالقوة يتحقق بالمزيد من القوة، كمقاربة ثبت فشلها وعقمها، وباتت محط نقد من جهات سياسية وحزبية وإعلامية صهيونية، وأخرى أوروبية وأميركية حليفة لإسرائيل.

لكن، منعاً للمبالغة والتقديرات الخاطئة، فلنقل: إن الزمن ليس زمن تحقيق انتصارات فلسطينية حاسمة. فلا الحالة العربية القائمة، ولا اختلال ميزان القوى، بالمعنى الشامل للكلمة، يتيح هكذا انتصارات. هذا صحيح. لكن الصحيح، (بل الأصح)، أيضاً، هو أن لا هذا ولا ذاك يترك متسعاً لتسوية تفاوضية للصراع. يعني؟ ليس ثمة أمام النخب القيادية الفلسطينية، بمشاربها المختلفة، من خيار سوى خيار الصمود والعمل على تعديل ميزان القوى، وأولاً عبر توحيد الطاقات والجهود والإمكانات الوطنية، وتبني ودعم وقيادة الفعل الانتفاضي وتطويره إلى خيار سياسي لإفشال مساعي إخماد يقظة الشعب الفلسطيني، واختزال خارطة وطنه وحقوقه، وصولاً إلى تصفية قضيته.

أما التلكؤ القيادي في تبني ودعم خيار الشعب المستعد للعطاء والتضحية بلا حدود، فيعني أن الحالة الشعبية باتت متقدمة، في وعيها الوطني واستعدادها الكفاحي ومبادراتها الشجاعة، على قياداتها التي يكبلها إرث المنظومة الفكرية والسياسية والأمنية والأخلاقية والنفسية لـ»أوسلو» والانقسام. بل، ويعني أن الخلل البنيوي للحالة القيادية الفلسطينية قد بلغ، أو يكاد، حدود المس ببديهيات مرحلة التحرر الوطني ومقتضياتها، وأهمها: ضبط التناقضات الداخلية للتناقض الأساس مع الاحتلال، وممارسة جميع أشكال المقاومة، وتوحيد أدواتها ومرجعيتها وهدفها السياسي، لا شرذمتها، واختزالها في الشكل السياسي الدبلوماسي لمواجهة احتلال استيطاني عنصري إقصائي إحلالي، دأبه التوسع والعدوان وشن الحروب ورفض التسويات السياسية، ولو في حدود الموافقة على دولة فلسطينية مستقلة على «حدود 67». ولا جديد في هذا الاستخلاص. فحتى عندما اختلف الفلسطينيون، عام 1993، على «أوسلو» كما لم يختلفوا منذ انطلاق ثورتهم المعاصرة، صارح الرئيس أبو مازن، (أمين سر «اللجنة التنفيذية» للمنظمة، آنذاك)، أعضاء «المجلس المركزي» المجتمعين للمصادقة على «اتفاق إعلان المبادئ» بالقول: «أوسلو إما أن يقودنا إلى الدولة أو إلى الكارثة». أما بعد انتهاء «العمر الزمني» لـ»أوسلو»، في أيار 1999، من دون أن تنفذ حكومات الاحتلال حتى الأساسي من بنود «المرحلة الانتقالية»، فلم يعد اتخاذ قادة الاحتلال المفاوضات غطاء لاستكمال مخططاتهم التوسعية العدوانية خافياً على أحد. ولم يعد إجماعهم على رفض إقامة دولة فلسطينية بحاجة إلى برهان. ولم تعد سياساتهم الهجومية بحاجة إلى إعلان، شعارهم في ذلك شعار من قطع رأس رسول أعدائه للسلام، وأرسله لهم مع عبارة: «جوابنا فيما ترون لا فيما تسمعون». وكأنهم، (قادة الاحتلال)، يقولون للفلسطينيين: في السياسة لن نتراجع قيد أنملة. وفي الميدان  نقتلكم، نسجنكم، نحاصركم، نهدم بيوتكم، ونصادر أرضكم، ونهودها، ونمزق أوصالها....الخ مع تعهد بمواصلة التفاوض معكم ووعد بتحويل «سلطتكم» إلى دولة!!

من حينه، على الأقل، باتت «السلطة الفلسطينية»، (فما بالك بعد انقسامهما، عام 2007)، «سلطة بلا سلطة»، وأصبح مسعى تحويلها، بالتفاوض، إلى دولة محض خيال، حيث تأكد، بما لا يقبل مجالاً للشك، أن قادة إسرائيل لم يتخلوا عن مسعى تحويل فلسطين إلى «دولة يهودية كما هي انجلترا انجليزية، وكما هي هولندا هولندية»، حسبما دعا، في ثلاثينيات القرن الماضي، ثاني رؤساء الحركة الصهيونية، حاييم وايزمان. وقد جاء فشل مفاوضات «كامب ديفيد»، 2000، حول «قضايا الوضع النهائي»، ليقطع الشك باليقين، وليزيد احتقان الفلسطينيين احتقاناً، حتى صارت شرارة واحدة كافية لاشعال حريق في «السهل كله». وقد كانت زيارة شارون الاستفزازية لباحات الأقصى، عام 2000، هي الشرارة القابلة للتجدد، في أي لحظة، طالما أن استباحة الاحتلال الشاملة لفلسطين، أرضاً وشعباً وحقوقاً ومقدسات وموارد وكرامة، قائمة، فما بالك بعدما أصبحت فاشية صريحة على يد حكومات نتنياهو الاستيطانية منذ نهاية العام 2008؟!