خبر التقارب التركي ـــ «الإسرائيلي» بين الدوافع وإملاء الشروط ..د. محمد السعيد إدريس

الساعة 11:19 ص|03 يناير 2016

التوجه التركي الراهن نحو «إسرائيل» يأتي من نوع «افتعال الفرص»، ومحاولة فتح منافذ في الأبواب الإقليمية الموصدة، أو التي باتت موصدة أمام المشروع التركي الإقليمي بعد إفشاله في سوريا، سواء بسياسات تركية خاطئة وحسابات غير دقيقة لمصادر القوة، أو بسياسات عدائية من القوى الأخرى المنافسة أو بالتحديد من التحالف المنافس أو المناوئ «الروسي- الإيراني- النظام السوري»، أو من الحليف الدولي الأمريكي، بعد إدراكه لثقل العبء التركي على سياساته الشرق أوسطية، واستيائه من الأخطاء التركية، وبالذات عقب انكشاف التواطؤ أو التعاون التركي مع تنظيم «داعش» في مجال تهريب وتسويق النفط المسروق من العراق وسوريا، والذي كان دافعاً بدوره لفضح أدوار تركيا في تسريب المتطوعين من الإرهابيين، وإدخالهم إلى الأراضي السورية والعراقية عبر الحدود التركية، وأخيراً الاستياء الأوروبي الواسع من دور تركيا في تأزيم قضية اللاجئين السوريين، والدفع بهم إلى المجتمعات الغربية.

قبل أن تضطر تركيا للتوجه إلى الكيان الصهيوني لتجديد، أو لتفعيل علاقات الشراكة والتحالف المتأزمة منذ خمس سنوات بعد الاعتداء «الإسرائيلي» على السفينة التركية «مرمرة»، التي كانت تحمل متطوعين من منظمات حقوقية تركية ودولية، كانوا في طريقهم لفرض كسر معنوي للحصار «الإسرائيلي» الظالم المفروض على قطاع غزة، كان التوجه إلى العراق كمجال حيوي بديل للساحة السورية لفرض أمر واقع تركي في شمال العراق، وإجهاض نجاحات أكراد العراق وسوريا في حربهم وانتصاراتهم على تنظيم «داعش»، لكنها صدمت بحدة الموقف العراقي الرافض لهذا التدخل العسكري التركي.

لكن الصدمة الكبرى كانت من موقف الحليف الأمريكي الذي جاء متناسقاً مع الموقف الروسي الحازم ضد هذا التدخل. فإذا كانت روسيا قد عبرت بقوة عن عدم شرعية دخول قوة عسكرية تركية إلى شمال العراق، فإن الولايات المتحدة لم تؤيد الحليف التركي، تماماً كما فعلت بالنسبة لتهريب نفط «داعش»، وإذا كانت تركيا قد ترددت في الاستجابة لاتصال جون بايدن نائب الرئيس الأمريكي ودعوة وزير الدفاع آشتون كارتر إلى سحب قواتها من العراق، فإنها اضطرت للتجاوب جزئياً مع دعوة صريحة بذلك من الرئيس الأمريكي، لكنها ما زالت متلكئة في الانسحاب الكامل من الأراضي العراقية، وترهن ذلك بتحرير الموصل من احتلال «داعش».

أياً كان الأمر، فإن الوجود العسكري التركي في العراق لم يعد ناجحاً، يمكن التعويل عليه من جانب أنقرة، ناهيك عن عمق التحولات العسكرية والسياسية التي تحدث بالنسبة للأزمة السورية وانسداد فرص التمدد العسكري والسياسي التركي شمال سوريا، على العكس من تراكم الفرص المواتية للمنافس الإيراني، سواء في سوريا أو العراق، ومن ثمّ لم يعد أمام الرئيس التركي إلّا العودة إلى السياسة المعهودة: «التقارب مع «إسرائيل» عندما تتأزم علاقات تركيا مع إيران، والتقارب مع إيران عندما تتأزم علاقاتها مع «إسرائيل».

كذلك بادر أردوغان إلى تبني خطاب مذهبي امتد إلى حزبه الحاكم في أنقرة «العدالة والتنمية»، بدأ بتعمد أردوغان الإشارة علناً إلى الانتماء المذهبي العلوي لزعيم المعارضة التركية كمال كيليتشدار أوغلو زعيم «حزب الشعب الجمهوري»، وتعمد توجيه خطاب انتقادي غير معهود للشيعة على شاشات التليفزيون؛ واصفاً إياهم بأنهم «منافقون وكاذبون».

تعمد الحديث إلى محطة تليفزيونية عربية متسائلاً عن مصير بعض المجموعات في العراق، التي قال إن القوة العسكرية التركية الموجودة في العراق تهدف إلى ضمان أمنها. وقال بالحرف الواحد: «هنا يوجد عرب سنة، ويوجد تركمان سنة، ويوجد أكراد سنة، فمَنْ الذي سيحفظ أمن هؤلاء. هم بحاجة إلى حماية أنفسهم عبر برنامج التدريب الحالي، وكل الخطوات التي نقوم بها هي في هذا الاتجاه».

هذا الخطاب المذهبي، وهذا الدور الذي يتحدث عنه أردوغان لتركيا في العراق ينسجم أيضاً مع الفكر الاستراتيجي «الإسرائيلي» حامل لواء الدعوة إلى تأسيس حلف «للعرب السنة» تدعمه «إسرائيل» لمواجهة حلف «عرب الشيعة» المدعوم من إيران وروسيا.

يبدو أن أردوغان كان في معرض تجهيز أوراق اعتماد الشراكة الجديدة مع «إسرائيل»، لذلك لم يكتفِ بالتناغم مع الفكر الاستراتيجي «الإسرائيلي» خاصة دعوة «الحلف السُني» و«الحلف الشيعي»، كاستقطاب إقليمي جديد تراه «إسرائيل» الأنسب لإدارة الصراع الإقليمي لتحييد القضية الفلسطينية وإنهاء موقعها المركزي ضمن هذا الصراع، لذلك اتجه إلى توجيه اتهامات مباشرة لإيران بأنها «من يتبنى سياسات طائفية في سوريا».

ففي كلمة متلفزة له في إسطنبول (27/12/2015) قال «لو لم تقف إيران خلف الأسد لأسباب طائفية، لما كنا نناقش اليوم ربما قضية مثل سوريا». لكنه تجاوز إيران ليمتد في هجومه إلى روسيا أيضاً باتهامها باستهداف الإسلام. ففي كلمة له (19/12/2015) ألمح إلى استهداف روسيا للإسلام بحجة محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش)، معتبراً أن «صراع القوى في سوريا تحول بذريعة الحرب على تنظيم الدولة إلى مأساة».

وإذا كان أردوغان قد قرر العودة إلى ««إسرائيل»» باعتبارها القاعدة الثابتة التي يجدها عند الضرورة، والمفتوحة له دائماً بدافع من الفشل السياسي التركي في سوريا والعراق، فإنه يتجه أيضاً نحو هذا الحليف «الإسرائيلي» الدائم بدافع من الهروب من الحصار والتضييق الروسي على تركيا في قاعدتها الخلفية، في إقليم قزوين وخاصة مع أرمينيا، حيث تتجه روسيا إلى إنشاء نظام إقليمي موحد للدفاع الجوي بين البلدين في منطقة القوقاز.

لكن التوجه التركي نحو «إسرائيل» يجيء أيضاً بدوافع اضطرارية خاصة بالحرص على تنويع مصادر الطاقة، وتحسباً لتضييق روسي على تركيا في اتفاقيات بيع الغاز، حيث إن تركيا تعتمد على استيراد الغاز الروسي لتلبية ثلث، إن لم يكن نصف، احتياجاتها من الغاز.

أردوغان يتجه إلى «إسرائيل» للحصول على الغاز «الإسرائيلي» كي يتحرر من الضغوط الروسية، لكن لسوء حظه أنه لن يستطيع أن يحصل من «إسرائيل» على ما يأمله، فالإنتاج «الإسرائيلي» من الغاز لن يستطيع أن يوفر لتركيا ما تحصل عليه من كميات الغاز الروسي الضخمة، كما أن أردوغان يربط توقيع اتفاقية شراء الغاز بتوقيع اتفاقية أخرى مع «إسرائيل»، تنص على أن تمر كل صادرات الغاز ««الإسرائيلي»» إلى أوروبا أو قسمها الأكبر عبر الأراضي التركية، أي إنشاء أنبوب من منصات الغاز «الإسرائيلية» إلى تركيا، ومنها إلى دول البلقان، وهو ما ترفضه «إسرائيل» لسببين: أولهما الخوف من أن تصبح «إسرائيل» تحت رحمة المزاج المتقلب للرئيس التركي، وثانيهما التحسب من ردود الفعل اليونانية والقبرصية التي سترفض حتماً مثل هذا الأمر على ضوء اتفاقيات «إسرائيلية» مسبقة حول الغاز مع البلدين، وأيضاً على ضوء التوترات الحادة في العلاقات بين هاتين البلدين مع تركيا.

هذا يعني أن فرص القبول «الإسرائيلي» بمطالب أردوغان تبدو ضئيلة، وليس هذا فحسب، بل إن فرص تطبيع العلاقات ستبقى مرهونة بإصرار حكومة أردوغان على ضرورة موافقة «إسرائيل» على الطلب التركي، برفع الحصار عن قطاع غزة، وهو ما ترفضه «إسرائيل»، بل وتزيد أيضاً بأنها «لن تغير سياسة الإغلاق»، وأيضاً لن تسمح بنقل المعدات إلى غزة، وتصر على أن تقوم تركيا بطرد صالح عاروري القيادي البارز في حركة «حماس» من تركيا.

وترى المصادر الأمنية «الإسرائيلية» أنه لن يكون بالإمكان التوصل إلى اتفاق سياسي مع تركيا «إذا لم تلتزم أيضاً تركيا بترحيل قادة «حماس» من أراضيها، وإذا لم تلتزم أيضاً بممارسة ضغوط على «حماس» لتليين مواقفها».

الأمر الذي يعني أن فرص التقارب التركي مع «إسرائيل» ستبقى مشروطة بأن تعدل تركيا من رؤيتها للصراع الإقليمي، وتتخلى عن سياستها الداعمة لحركة «حماس»، وتتبنى خطاباً سياسياً يتوافق مع المنظور «الإسرائيلي» الجديد للصراع الإقليمي، القائم على «الاستقطاب الطائفي»، وليس قضية فلسطين.