ذاكرة التاريخ الفلسطيني الحديث و المعاصر مليئة بتجارب الثورات و الانتفاضات في عهد الاحتلالين البريطاني و الصهيوني التي لم تحقق اهدافها وتم اجهاضها دون أن تبلغ غايتها بسبب عوامل ذاتية داخلية و أًخرى موضوعية خارجية , تكاملت فيما بينها وأدت إلى الفشل في تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية وفي مقدمتها التحرر من الاستعمار وإنجاز الاستقلال الفلسطيني. وكي لا تلقى انتفاضة القدس الحالية المصير نفسه من المفيد أن نسلّط الضوء على بعض المعيقات التي تحول بين الانتفاضة ونجاحها ، ونضع الخطوط العريضة لتجاوز هذه المعيقات أملاً في الوصول إلى أهدافنا الوطنية في التحرر والاستقلال والعودة .
أول هذه المعيقات هي استمرار هيمنة الفكر السياسي الذي قاد الشعب الفلسطيني إلى مرحلة أوسلو على القيادة السياسية الفلسطينية الرسمية . وهذا النمط من الفكر السياسي الذي استند إلى فرضيات خاطئة تفترض إمكانية زوال الاحتلال بالمفاوضات و الضغط الدولي و التدخل الأمريكي دون ضغط المقاومة لا زال مهيمناً على القيادة السياسية الفلسطينية و لم يتغير بطريقة جوهرية , وبالتالي فإنه يهدد انتفاضة القدس عن طريق امكانية الاستجابة للمبادرات و المشاريع السياسية التي تُعطي الفلسطينيين انجازات وهمية لا تحقق طموحات الشعب الفلسطيني و لا تتناسب مع تضحياته الكبيرة لنيل حريته و تحقيق استقلاله يكون هدفها إنقاذ الكيان الصهيوني من مأزق الانتفاضة و ليس تخليص الشعب الفلسطيني من الاحتلال . ولا مجال لتجاوز ذلك إلا بالتخلي عن هذا الفكر السياسي الذي أنتج لنا أوسلو واستبداله بفكر سياسي يركز على التمسك بالثوابت الوطنية و تحقيق الأهداف الوطنية وأولها انسحاب الاحتلال و تفكيك الاستيطان ، و يعتمد نهج المقاومة طريقاً للتحرير بدلاً من نهج المساومة.
وثاني هذه المعيقات هي استمرار الانقسام الفلسطيني مع استمرار الانتفاضة ، فتصبح الانتفاضة بلا رأس أي بلا قيادة موّحدة لها ، وبلا أُفق سياسي أي بدون هدف سياسي موّحد لها مع اختلاف الأهداف المرجوّة منها ، وربما تناقضها مما يؤثر سلبياً على مصداقيتها واستمراريتها ، و الأخطر من ذلك هو أن يظهر هذا الانقسام في فعاليات الانتفاضة الميدانية فيشتت الجهد و يضيع بدلاً من أن يتوحد و يستثمر لخدمة الأهداف الوطنية الجامعة. و لتجاوز ذلك لا بد من انهاء الانقسام و تحقيق الوحدة الوطنية بالالتفاف حول مشروع وطني فلسطيني يتمسك بالثوابت الوطنية ونهج المقاومة. وإن عجزنا عن ذلك فلنتوحّد حول أهداف الانتفاضة الحالية على الأقل في إطار مشروع وطني مقاوم لتحرير الضفة الغربية ، وإن عجزنا عن ذلك فلا خيار أمامنا سوى تكوين قيادة شبابية لكل محافظة تنسق فعاليات الانتفاضة على مستوى كل محافظة.
و ثالث هذه المعيقات هو استمرار الانتفاضة على نفس الوتيرة و المستوى دون تطوير لفعالياتها أو تصعيد لنضالها ، فتظل مقاومة شعبية على الحواجز بالحجارة والمولوتوف و عمليات فدائية فردية بالسكاكين والدهس ، قد يتأقلم معها العدو ويتحمل ثمنها على المدى البعيد ، و يحوّلها الى عملية استنزاف مضادة للشعب الفلسطيني اقتصادياً و بشرياً عن طريق تشديد عمليات القمع وحصار المدن والإعدامات الميدانية والحرب النفسية وغيرها . ولتجاوز ذلك من الضروري تطوير و تصعيد فعاليات الانتفاضة مع الزمن و بالتدريج و إيجاد استراتيجية لتعّظيم خسائر العدو البشرية والاقتصادية . و في هذه الاستراتيجية لا بد من تعدد وتنوّع وتكامل أساليب و أدوات النضال ليشترك فيها كل الشعب الفلسطيني و مؤسساته المختلفة ابتداءً من المنظمة و السلطة و انتهاءً بمؤسسات المجتمع المدني مروراً بالفصائل و الحركات الوطنية والإسلامية .
ورابع هذه المعيقات هو وجود السلطة كحاجز بين الاحتلال و المقاومة ، حيث أن وجود السلطة مرتبط باتفاقية أوسلو التي تفرض عليها كبح جماح الانتفاضة لإنهائها أو إبقائها منخفضة الموجة كي لا تصل إلى مرحلة تفقد فيها السيطرة على الوضع في الضفة الغربية نتيجة لما قد تفرزه الانتفاضة من فوضى و فلتان أمني –أسوة بالانتفاضتين السابقتين – وارتباط ذلك بالانقسام وسيطرة حركة حماس على مقاليد الأمور ، . ولتجاوز ذلك لا بد من فك الارتباط بين الانتفاضة و الفوضى بالحفاظ على مؤسسات الشعب الفلسطيني مادياً(الحفاظ على الممتلكات العامة) و معنوياً (الحرص على مواصلة عملها) ، وأن تصبح السلطة أحد أهم رافعات الانتفاضة و العمل الوطني عن طريق دعم صمود الشعب الفلسطيني بالمحافظة على استمرار حياته الطبيعية قدر الإمكان في ظل الانتفاضة.