حققت الموجة الانتفاضية الحاليّة إنجازات كبرى، أهمها أنها أعادت الروح للقضية الفلسطينية، ووحّدت الشعب، وسمحت له بامتلاك زمام المبادرة مجددًا، وفرضت قضيته على الأجندة الدولية، وأعادت الاعتبار للمقاومة، وبدأت بحفر قبر «اتفاق أوسلو» عمليًا، وليس من خلال تهديدات لفظية فارغة. كما أعطت رسالة قوية لإسرائيل بأن احتلالها لن يبقى مربحًا إلى الأبد، وإنما يمكن أن يصبح مكلفًا بدليل حالة الذعر وانعدام الأمن التي تعيشها حاليًا، وأن مخططاتها القاضية بكي الوعي الفلسطيني وضمّ القدس وفصل قطاع غزة لم تنجح. فها هو جيل «أوسلو» يرفع راية الكفاح الوطني مجددًا.
كما حققت المقاومة الفلسطينية خلال تاريخها الطويل إنجازات مهمة، أبرزها بقاء نصف الشعب الفلسطيني صامدًا على أرض وطنه، وإبقاء القضية الفلسطينية حية برغم كل المؤامرات والحروب والمجازر، إضافة إلى بلورة كيان وطني جامع يجسد الهوية الوطنية ويمثل الشعب الفلسطيني أينما كان، علماً أن هذا الإنجاز تراجع بعد تهميش «منظمة التحرير» وتغييبها منذ توقيع «اتفاق أوسلو»، إلا أن هذه الإنجازات أقل بكثير من مستوى الصمود والتضحيات التي جسدها الشعب الفلسطيني.
إن الاستنتاج من المقارنة بين نتائج الانتفاضتين مع الفرق النوعي بينهما ونتائج مجمل التجارب والثورات الفلسطينية، يُظهِر أن الخلل كان في القيادة التي لم تحسن التصرف، على الأقل منذ أن تصورت أن التسوية على الأبواب وأن الدولة على مرمى حجر، ولم تكن بمستوى طموحات الشعب ونضالاته، ولم تقدر على الاستفادة من الفرص المتاحة، برغم أنها قادت مرحلة النهوض العظيم.
لم يكن يتمثل الخلل، لا سابقًا ولا اليوم، بعسكرة الانتفاضة أو سلميّتها، برغم أن هذا الموضوع يحتمل الكثير من النقاش والخلاف، إنما في القيادة ووعيها وأدائها وإرادتها، وتغييب المؤسسة والشعب، وتغلغل التضخم والمحسوبية والشللية والجهوية والفساد في مختلف إداراتها، إضافة إلى أنها خلطت التكتيكي بالاستراتيجي والممكن بالمستحيل، ومحاولة طرف فيها قطف ثمار الانتفاضة قبل نضجها، بحجة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، في مقابل سعي الطرف الآخر للتعامل مع الانتفاضة وكأنها غاية بحد ذاتها، لا وسيلة لتحقيق غاية.
لا أبالغ في القول إن أهم الأسباب التي أدت إلى تأخير اندلاع الانتفاضة الثالثة يكمن في أن الجمهور الفلسطيني يخشى من أن يكون مصيرها شبيهاً بسابقتيها العظيمتين، (فوضى وفلتان أمني وإمعان في نهج المفاوضات والتنازلات)، وذلك جرّاء أخطاء القيادة وسعيها للاستثمار السريع، إضافة إلى تعدد الاستراتيجيات والقيادات ومصادر القرار في الانتفاضتين، وهو ما مهد الطريق لوقوع الانقسام المدمّر.
إن السعي لقطف ثمار الانتفاضة قبل نضجها أدى ـ حتى الآن - إلى ما انتهى إليه الحراك السياسي بعد جولة بان كي مون وجون كيري واجتماع «الرباعية» من نتائج وخيمة، فقد أعطى الشرعية للسيادة الإسرائيلية على حساب الأوقاف الأردنية والفلسطينية. وهذا طبيعي، لأن منطلقات هذا التحرك اعتمدت على المساواة بين الضحية والجلاد، وروّجت لما يُسمّى «حق إسرائيل» في الدفاع عن نفسها في وجه «الاٍرهاب» الفلسطيني، برغم أن إسرائيل وفق القانون الدولي والشرعية الدولية دولة محتلة ومعتدية.
المسألة ليست دينية تتعلّق بالسماح بالصلاة للمسلمين وزيارة غير المسلمين لـ «جبل الهيكل»، كما جاء في بيان نتنياهو، ما يعطي الشرعية للتقسيم الزماني وللاعتداءات اليومية ضد الأقصى، و «بموافقته» على تركيب كاميرات لمراقبة كل ما يجري، بل هي مسألة سيادة، إذ أصبح الأمر كله بعد الحراك السياسي الأخير في يد إسرائيل من دون رعاية أردنية للأوقاف وبلا دور فلسطيني.
وحتى ندرك خطورة ما سبق، لا بد أن نشير إلى أن الأمم المتحدة والإدارة الأميركية تستخدمان منذ فترة في بيانات رسمية عند الإشارة إلى المسجد الأقصى (المسجد الأقصى/جبل الهيكل) من دون احتجاج من أحد، علماً أنه مخالف لما هو وارد في القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية التي يفترض أن تكون ملزمة ـ على الأقل - للأمين العام للأمم المتحدة والمؤسسات الدولية.
إن الاستثمار الصحيح للنضال يمكن أن يتحقق إذا كانت هناك أولًا رؤية شاملة توضح أين نقف وماذا نريد أن نحقق، وخريطة طريق متكاملة توضح كيف يمكن تحقيق ما نريد وضمن أي مراحل. وثانيًا، تحديد هدف قابل للتحقيق في كل مرحلة من دون ثمن باهظ، وبشرط ألا يكون على حساب الهدف النهائي والحقوق الأساسية.
إذا كانت قيادة «الانتفاضة» الحالية مماثلة لتلك في النضالات السابقة، فإن النتيجة ستكون مشابهة لها. ومن عظمة هذه الانتفاضة أنها اندلعت من دون قرار من أحد، وأن الفصائل لم تسارع إلى قيادتها خشية منها، ولعدم الاستعداد لدفع الثمن إذا قادتها.
لا يستطيع أحد السيطرة على الانتفاضة، لأن أحد سماتها حتى الآن أنها انتفاضة أفراد استخدمت الوسائل المتاحة مثل الطعن بالسكاكين والدهس، كونها لا تملك غيرها، ولأنها ليست من فعل تنظيمات لديها إمكانيات تسمح لها باستخدام وسائل وأشكال عمل أكثر فاعلية وانتظامًا وأقل تضحية، بينما يشارك فيها أعضاء الفصائل، وفي بعض المواقع بفعالية، ولكن من دون رؤية وخطة وهدف.
هناك أمل أعادته هذه «الانتفاضة»، وهو أن الشعب لا يزال مصممًا على تحقيق أهدافه برغم الأثمان الغالية، ولم يعد قادرًا على الانتظار، وأن القيادة الجديدة للمرحلة المقبلة يمكن أن تنبثق من رحم هذه الموجة الانتفاضية وأخواتها الآتيات حتمًا عاجلًا أم آجلًا، لأن «الانتفاضة الثالثة» كما نلاحظ مما يجري، وكما نستقرئ، ستأخذ شكل الموجات، ما تكاد واحدة منها أن تنحسر إلا وتبدأ الأخرى بالصعود، وذلك لأن هناك انقسامًا حول جدوى الانتفاضة ومعارضة القيادة لها وعجز الفصائل عن قيادتها. ولن تتمكن القيادة التي قادت المرحلة السابقة وأوصلتنا إلى ما نحن فيه من قيادة المرحلة الجديدة، فمن الخلل العقلي كما قال آينشتاين «خوض التجارب واستخدام الأدوات والأفكار نفسها، وتوقع نتائج مغايرة».