كتب : صالح النعامي
بغض النظر عن الاسم الذي يمكن إطلاقه على موجة عمليات المقاومة الفلسطينية المتواصلة التي تستهدف العمق الصهيوني، فمن المؤكد أن هذه الموجة أفضت إلى تقويض استراتيجية إدارة الصراع التي اتبعها بنيامين نتنياهو، وقامت على معادلة بسيطة: بقاء السلطة الفلسطينية في مقابل تسليم الفلسطينيين بالاستيطان والتهويد ومواصلة التعاون الأمني، فقد ضمنت هذه المعادلة، حتى الآن، تمتع الكيان الصهيوني بمزايا الاحتلال المرفّه (deluxe occupation)، حيث يحظى بالهيمنة المطلقة على الأرض، ويحتكر السلطات الحقيقية عليها، في حين يعفي نفسه من التبعات التي تترتب على سلطات الاحتلال، كما ينص القانون الدولي. ويعني تفجر عمليات المقاومة، على هذا النحو، أن الفلسطينيين لم يعودوا يسلّمون بهذه المعادلة، وأن إسرائيل مطالبة ببلورة استراتيجية أخرى للتعاطي مع الواقع الجديد.
عرّت عمليات المقاومة الأساطير المؤسسة لأيديولوجية اليمين الصهيوني، بشقَّيه الديني العلماني، وتهاوت ركائز خطابه بوضوح. ولقد فضحت ردود فعل الجمهور الصهيوني على عمليات المقاومة التي حوّلت العمق الصهيوني إلى ساحة مواجهة واسعة، خطاب اليمين، ودللت ليس فقط على عدم واقعيته وعقمه، بل عكست استعداد قطاعات واسعة من هذا الجمهور لقبول صيغ حلول للصراع، مناقضة تماماً لمنطلقات اليمين. وإن كان اليمين الصهيوني ظل يؤكد أن أية تسوية سياسية للصراع يجب أن تضمن بقاء القدس « الموحدة »، بشقيها الشرقي والغربي، عاصمة « أبدية » لإسرائيل، فإن ثلاثة أسابيع من عمليات المقاومة أقنعت الجمهور الإسرائيلي بضرورة الانسحاب من الأحياء الفلسطينية في القدس، على اعتبار أن مثل هذه الخطوة فقط تضمن وقف التدهور الأمني.
وحسب استطلاع واسع للرأي العام، أجري الأسبوع الماضي، وعرضت نتائجه صحيفة معاريف في 16 أكتوبر/تشرين أول الجاري، فإن حوالى 70% من اليهود في إسرائيل يؤيدون الانسحاب من الأحياء الفلسطينية؛ وهذا يعني أن قطاعاً واسعاً من مصوتي اليمين الإسرائيلي يتبنون هذا الموقف. ومن نافلة القول إن نتائج الاستطلاع لا تعكس تحولاً على منظومة القيم التي يحتكم إليها المجتمع الصهيوني العنصري، بل تمثل نسقاً من أنماط التعاطي
العملي مع الواقع الجديد، فعند المفاضلة بين ضمان الأمن والاحتفاظ بالأرض، تبدي قطاعات واسعة من الجمهور الإسرائيلي استعداداً للتخلي عن هذه الأرض، إن كانت ضمن الأراضي التي احتلت عام 1967، حتى لو مثلت جزءاً من « العاصمة الموحدة والأبدية ».
لكن التآكل في مصداقية خطاب اليمين لم يقف عند هذا الحد، بل تمثل، أيضاً، في تراجع بنيامين نتنياهو نفسه عن مواقف تمثل ركائز صلبة من أيديولوجية اليمين في إسرائيل. فنتنياهو الذي ظل يستخف بكل من يطالبه بوقف الاستيطان والتهويد، بادر، شخصياً، للتصدي لوزرائه ونخب اليمين التي طالبت بتكثيف الاستيطان والتهويد، رداً على عمليات المقاومة، ولم يسمح حتى بطرح هذا الاقتراح في اجتماعات اجتماعات الحكومة؛ خوفاً من أن تؤدي مثل هذه القرارات إلى تعاظم ردة الفعل الفلسطينية، والتحاق مزيد من القطاعات الجماهيرية الفلسطينية بموجة المقاومة المتواصلة. ليس هذا فحسب، بل إن نتنياهو الذي لم يأخذ مناشدات العاهل الأردني، عبدالله الثاني، بجدية كبيرة، وسمح لوزرائه، ولاسيما وزير الاستيطان الهاذي، أوري أرئيل، وسوائب المستوطنين بتدنيس الحرم القدسي الشريف، أصدر تعليماته، وفي خطوة استثنائية، بعدم السماح للوزراء والنواب بتدنيس الحرم، وعدم منح أي اعتبار للحصانة التي يتمتعون بها. ومن الواضح أن الفعل المقاوم هو الذي استثار محفزات « التعقل والحكمة » لدى نتنياهو، وليس أي شيء آخر.
ومما زاد من حرج نتنياهو ونخب اليمين حقيقة أن الإجراءات الأمنية التي اتبعت، تحديداً في القدس المحتلة، أفضت عملياً إلى تقسيم المدينة بشكل واقعي. وفي غضون أيام، غصت الصحف الإسرائيلية بمقالات كثيرة، كان عنوانها « نتنياهو يقسم القدس ». وقد وصلت نخب إسرائيلية كثيرة إلى قناعة مفادها بأن سياسات اليمين قد أفضت إلى ولادة « الدولة الثنائية القومية » التي تنسف ركائز الفكرة الصهيونية نفسها.
ومن الواضح أن عمليات المقاومة واتساع نطاقها الجغرافي وضعت حداً لحالة اللامبالاة التي ظل يظهرها اليهود الذين يقطنون داخل إسرائيل، إزاء ما يحدث شرق الخط الأخضر. فمنذ توقفت انتفاضة الأقصى، تولد انطباع لدى قطاعات واسعة من الجمهور الإسرائيلي، مفاده أن السلوك الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية لا يؤثر، بالضرورة، على نمط الحياة داخل الخط الأخضر، وهذا ما وفّر بيئة لرواج الخطاب اليميني، وأضفى عليه صدقية زائفة. أفضت عمليات المقاومة إلى تقليص مستويات الشعور بالأمن الشخصي والجماعي داخل المدن والتجمعات السكانية في إسرائيل جذرياً، وأثارت حالة من الذعر والهلع، لم تقلص من مستوياتها الإجراءات الأمنية، ولا سيما وأن الحديث يدور عن عمليات مقاومة ينفذها شباب وفتية، لا ينتمون لتنظيمات قائمة، ما يحدّ من قدرة الاستخبارات الصهيونية على إحباط هذه العمليات قبل وقوعها، وضرب البنى التنظيمية التي تقف خلفها، كما كان دارجاً.
في الوقت نفسه، إن انضمام فلسطينيي الداخل إلى ركب المقاومة، كما دللت على ذلك عملية إطلاق النار في المحطة المركزية في بئر السبع يمثل تحدياً أمنياً واجتماعياً كبيراً لإسرائيل، حيث إنه يؤذن باحتكاكات ومواجهات صعبة، ولا سيما في المدن المختلطة، وهو ما سيفاقم من صعوبة المهمة التي تواجه حكومة اليمين، في سعيها إلى استعادة الأمن.
قصارى القول، ما لم تنجح في تحقيقه 22 عاماً من المفاوضات نجحت في تحقيقه عمليات المقاومة التي نُفذت بوسائل بدائية.