خبر استراتيجية إسرائيلية لحقبة ما بعد سايكس - بيكو

الساعة 10:02 ص|12 أغسطس 2015

أطلس للدراسات

يشرح المقال - الذي كتبه الباحث رون تيرا من مركز دراسات الأمن القومي - الساحة في الواقع الذي تذوب فيه منظومة « سايكس - بيكو » المنطق الدولي وتحديد الحدود التي تمخضت عن اتفاق سايكس - بيكو، ويقترح استراتيجية إسرائيلية لمحيطها الجديد مع تداعي بعضًا من الدول العربية، المنظومة الجديدة المكونة من أربعة دول قومية (إسرائيل ومصر وإيران وتركيا)، الممالك الجنوبية التي تصارع من أجل البقاء، ومن عدد كبير من اللاعبين غير الحكوميين الذين يملؤون الفراغ الذي خلفته الدول المتداعية، الصراع العربي الإسرائيلي تلاشى هو أيضًا (ما عدا الصراع مع الفلسطينيين)، وخط الصدع الجديد هو بين « لاعبي الوضع الراهن » الذين يريدون إبقاء الحال على ما هو عليه وبين أولئك الذين يريدون فرض التغيير غير التوافقي على الواقع (إيران والى حد ما تركيا وقطر والجهاديين وجزء من الفلسطينيين)، إسرائيل كلاعبة ذات قدرات خفيضة في هندسة الجوانب السياسية والأحزاب والموارد المحدودة يجب ان تركز على « استراتيجية القلعة » الدفاعية؛ غير ان الواقع الجديد يسمح لها أيضًا بالقيام بتعاون غير مسبوق مع لاعبين إقليميين، بما في ذلك كبح إيران، في ذات الوقت على إسرائيل ان تبني قوتها للمواجهة المباشرة مع إيران نفسها.

 

صعود وسقوط منظومة سايكس - بيكو

في المائة عام الأخيرة، انتظم معظم الشرق الأوسط بما يتوافق مع المنطق السياسي الذي خطه السيدان مارك سايكس البريطاني وفرانسوا بيكو الفرنسي، لما كان حينها الأطراف العربية للإمبراطورية العثمانية المنهارة، في أعقاب هذا الاتفاق 1916 رسمت حدود تعسفية ضمت في داخلها مجموعات عرقية متناحرة وأديان متنافسة في إطار هوية هشة، هذا الشكل من النظام كان جديدًا على منطقة اديرت لفترات طويلة على يد سلطات محلية من العائلات والقبائل العرقية والدينية تتبع سلطة امبراطورية أجنبية.

منظومة الدول والحدود وفق سايكس - بيكو تم المحافظة عليها سنوات طويلة بفضل أنظمة صارمة عملت من أجل نفسها، الدولة لم تكن وسيلة لتقرير مصير أمة ما، وإنما في الأساس إطار يخلق فرصة لشرعية استخدام القوة لخدمة مصالح الحكام. في الموجة الأولى تأسست المنظومة على أساس ملكي في مقدمتهم العائلة الهاشمية ذات الأصل السعودي، والتي حظيت بملك سوريا والعراق والأردن، الموجة الثانية التي حكمت الشرق الأوسط هي مجموعة من الأنظمة العسكرية، علمانيين وللوهلة الأولى اشتراكيين، الملوك والجنرالات جاءوا بفكرة الهوية الوطنية الفريدة من نوعها، وذلك بهدف تقوية شرعية الدولة ومن يرأسها؛ الامر الذي برز خصوصًا في الدول التي فيها تم تعيين الجنرالات من أقلية دينية أو عرقية (مثل ما حدث في سوريا والعراق).

الموجة الثالثة التي قادت المنطقة هي الموجة الإسلامية، منطق المنظومة الدينية ليس بالضرورة قومي – وطني وقد يتنصل من الحدود أو يرسمها من جديد، رغم ذلك فمصطلح « موجة إسلامية » مضلل ويحتوي على مفهوم استقطابي، الحد الفاصل بين ما هو مشترك بين الحركات السنية والشيعية؛ وبين « الاخوان المسلمين » التقليديين وبين الحركات الجهادية الجديدة مثل « داعش »؛ وبين الانتماء الوطني والجغرافي مثل حماس والكونية مثل القاعدة ؛ وبين المؤسسين المحافظين الذين يريدون الإبقاء على الوضع الراهن مثل (الوهابية السعودية) وبين من يريدون تدمير المنظومة القائمة.

ضعف فكرة القومية العربية الخاصة أدى الى دخول العراق وسوريا ولبنان والسودان وليبيا في مراحل مختلفة من الاهتزازات، وقد تتبعها دول أخرى، وخلقت أيضًا الظروف لصعود قوات أخرى مثل الحركات السنية الجهادية والحركات الشيعية ومجموعات عرقية انفصالية مثل الأكراد والدروز، وكذلك مجموعات ذات هوية محلية أو قبلية. على نقيض الأنظمة العسكرية من الموجة الثانية الذين حافظوا على الأطر السياسية التي قادها الملوك في الموجة الأولى، فإن الموجة الثالثة تتميز بازدواجية النظرة في علاقتها مع الدول العربية القومية المختلفة وأحيانًا معادية لها.

يمكن القول ان صعود الحركات الجهادية نتج عن الفراغ الذي خلفته الأطر السياسية المنهارة، وليست الحركات الجهادية هي التي تسببت بسقوط الدول، الأطر السياسية « الحكومية » ولدت بطريقة دستورية رسمية ولم تحقق أي مضمون حقيقي، وقوفها في مواجهة التحديات كان ضعيفًا ومتوقعا منذ البداية، وأولًا عن آخر ستنشأ العوامل التي ستؤدي الى انهيارها؛ لذلك ليس واضحا بان اللاعبين غير الحكوميين الذين يبرزون حاليًا على الساحة (مثل « داعش » وجبهة النصرة) سيفعلون ذلك أيضًا في السنوات القادمة، ولكن هناك بالفعل أساس للافتراض ان اللاعبين غير الرسميين (الموجودين أو الجدد) سيواصلون تحدي المنطق الذي أسسته منظومة سايكس – بيكو.

 

الدول الوطنية الأربعة والممالك الجنوبية والعداء الذي بينهم

في الشرق الأوسط أربع دول وطنية ذات هوية متماسكة ومستوى من الأداء والحكم اللازم (إسرائيل ومصر وتركيا وإيران) وهناك إمكانية كبرى ان تواصل القيام بدور مركزي في المستقبل أيضًا، كل واحدة من هذه الدول الأربع تواجه تحديات حقيقية، ولكن للدول الأربعة مستوى جيد من التضامن القومي والأدوات الحكومية التي تمنحهم فرصة لمواجهة هذه التحديات، عندما تحدث اهتزازات سلطوية أيضًا (إيران 1979، ومصر 2011 و2013، وثورة أردوغان الزاحفة) ظل البناء الحكومي صامدًا، كل من هذه الدول الأربع تحدها دولة وطنية واحدة فقط من الثلاث الاخريات، بمعنى انه يمكن تحديد طريقة تعامل كل من هذه الدول مع الدول التي ليست على حدودها ، إسرائيل ومصر هما اليوم « لاعبتا الوضع الراهن » وتريدان منع الاهتزازات، بينما إيران والى حد ما تركيا تريدان أن تجددا ترتيب المنظومة الإقليمية لصالحها، وعلى وجه الخصوص تبرز إيران بتفعيل منظومة من المبعوثين والقوات السرية، الذين يعتبرون لاعبين مهيمنين في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي اليمن، ولها أذرع تصل الى الشرق الافريقي والى وسط آسيا، و تلتف حول الدول الوطنية الثلاث الأخرى.

في ضوء الخصومة بين بعض من الدول الوطنية الأربع، فان تحليلا هادئًا لمصالح اللاعبين لا يملي مسبقًا منظومة علاقات حتمية معينة بينها.

اليوم يمكن ملاحظة مثلث ثلاثي الاقطاب مثل اسرائيل، مصر، العربية السعودية، بينهم تناغم في منافسة كل من  إيران وتركيا، غير ان قوس احتمالات الديناميكا المستقبلية يبدو واسعًا؛ من الممكن ان ينشأ سباق متعدد الأطراف لشراء النفوذ والمواقع أشبه بـ Great Game شرق أوسطي (لعبة النفوذ على وسط آسيا في بداية القرن التاسع عشر) أو ربما يعود اتحاد الأطراف الذي كان في الخمسينات، حيث شكل غير العرب جبهة ضد العرب، وربما يبقى التحالف السني الإسرائيلي الحالي أو ربما بالفعل اتحاد إيراني – إسرائيلي (يشبه التحالف الإسرائيلي مع سلالة بهلوي)، إسرائيل وتركيا قد أقامتا بينهما تحالفًا استراتيجيًا في سنوات ما بين 1992-2002، وفي الواقع فإن نظرة الى المستقبل تظهر ان جميع منظومة التحالفات تبدو ممكنة بالتوافق مع التفسير المتغير لمصالح كل واحد من الدول الوطنية الأربع.

في الجنوب؛ المنظومة الإقليمية توجد منظومة لاعبين آخرين « الملكية » الأردن والعربية السعودية والامارات، لقد نجوا حتى الآن رغم اهتزازات الربيع العربي، غير ان مواقف بعض منها في مواجهة التحديات ضعيفة أكثر، في الأردن تملك عائلة من أصل سعودي على أغلبية فلسطينية، وهي غارقة باللاجئين من سوريا والعراق، والحركة الإسلامية في هذه الدولة تزداد قوتها، وهناك خشية على بقاء البيت الهاشمي، في العربية السعودية جاليات أجنبية كبيرة وأقلية شيعية تشكل تحديًا، الإطار الحكومي رفراف أكثر، ورغم ان بقاء سلالة آل سعود يشكل مصدرًا للقلق، فإن الممالك أيضًا - عدا قطر- هن « لاعبات الوضع الراهن » .

في المسافة التي بين الدول الوطنية الأربع والممالك الجنوبية تهب العاصفة، التحدي في تقديم تشريح ديناميكي لهذه المساحة، وسيما بشأن القسم السني الذي يعاني من التشرذم ومن تقلقل البناء السياسي والاجتماعي والانقلابات، ولهؤلاء الذين يسمون « تنظيمات » لا يوجد بالضرورة بنية واضحة وعملية اتخاذ القرارات منظمة، الولاءات والهويات تمتد ما بين محلية وبين الجهاد العالمي وهي متغيرة، بعض من النشطاء في تنظيمات الجهاد غير متجانسين من الناحية العرقية مع التجمعات السكانية التي يتحركون في أوساطها، ومن غير المؤكد ان اللاعبين الحاليين سيستمرون بإملاء الدينامية المستقبلية، ولكن يُتوقع ان تواصل إعطاب الأطر الحكومية وقوة السلاح أمام ضعف الرأي العام والجماهيري وانعدام الاستقرار سيواصل رسم معالم القسم السني من المنطقة.

من يرسخ بالفعل بنية تنظيمية وسياسية هم مجموعات عرقية ودينية منفصلة مثل الأكراد (وبمستوى أقل الدروز وغيرهم) وبالطبع الشيعة وحلفائهم (مثل العلويين)، في القسم الشيعي من المنطقة هناك أهداف سياسية محددة واستراتيجية عقلانية وبنية هرمية منظمة ويد إيرانية موجهة، التحديات الماثلة أمام الشيعة ثقيلة الوزن، وسيما في الأماكن التي يمثلون فيها أقلية؛ غير ان إيران تزودهم بدعم استراتيجي وامكانيات صناعية وعلمية، وعندما يكون الأمر عمليًا فإن المنظومة الشيعية تطمح الى تواصل جغرافي لمناطق نفوذها في الإقليم، وهكذا أصبحت القصير - التي تربط المنطقة الشيعية في لبنان مع المنطقة العلوية في سوريا - مركز ثقل في الحرب الحالية، الدينامية المستقبلية للمنظومات الشيعية في مناطق سايكس - بيكو نتوقع ان تجد نفسها في التوتر الذي بين مزاياها النوعية وبين امكانية ان تصل إيران حد الإرهاق الزائد (overstretching) طالما كسبت مواقع وحلفاء، مما يوجب التزامات باهظة.

الارهاق الشديد - من هذه الناحية - يعني تراكم مزيد من الالتزامات، تستدعي دفع ثمن اقتصادي وعسكري ودبلوماسي وسياسي داخلي، شرعية والتي تكون نتائجها هي الضعف والتنازل عن جزء من الجهود أو تأخير التزامات معينة؛ مما يحد من حرية الحركة أو الانتباه الذي يجب ان يوجه الى قضايا أخرى.

الاقتصاد الإيراني يشبه في موارده الاقتصاد الارجنتيني أو اقتصاد ولاية ميريلاند في الولايات المتحدة، غير ان إيران تعمل في الوقت ذاته في عدد آخذ في التنامي من الساحات شديدة الاحتكاك، على النقيض أسلوب العمل الإيراني (الذي يرتكز على السكان المحليين والوكلاء) يقلل من التكلفة الاقتصادية لنشاطاتها في مختلف الساحات، ومن جوانب معينة من المنظور الإيراني الاحتكاك لا يرافقه ازعاج او عبء، وإنما طريقة عمل منتقاة أو على الاقل مُطاقة، ورغم هذا كله يصعب القول انه لا يوجد تكلفة حقيقية (من أي نوع) لكون إيران تتدخل بمستويات كبيرة مختلفة في عدد كبير من الساحات وتدعم وكلاء وسكان محليين وتحتك بالعربية السعودية ومع مصر ومع إسرائيل ومع تركيا ومع غيرهم من اللاعبين، وينبغي ان تحيك نسيجًا معقدًا من المصالح والاستراتيجيات.

عامل آخر يؤثر على ديناميكا الإقليم المستقبلية، وهو بالطبع القوى الكبرى، خلال الـ 15 عامًا التي بدايتها حرب الخليج الأولى كانت الولايات المتحدة هي المهيمنة في الشرق الأوسط، ويمكن ان نصفها بـ « سنوات السلام الأمريكي » غير ان حروب أفغانستان والعراق أدت بحكم بوش الثاني في نهايات توليه، وأكثر من ذلك حكومة أوباما، الى النقطة التي عندها الثابت الامريكي هو تراجع  استعداد أمريكا لتحمل التكاليف والمخاطر وان المتغير الامريكي  هو الغاية من السياسات ( بحيث اصبح محددات السياسة والمصالح ترتكز على تخفيض التكاليف والمخاطر) ، النووي الإيراني يعتبر نموذجًا على ان الولايات المتحدة موصومة بعدم الاستعداد للمخاطرة، ولذلك فإنها ليست موصوفة بالأهداف السياسية والأهداف اصبحت في مرحلة التقلص الدائم، الولايات المتحدة تجد صعوبة في قراءة الخارطة (الربيع العربي كمثال) تجد صعوبة في تحديد سياسة (تجاه الأسد مثلًا) وتجد صعوبة في تحويل سياساتها الى واقع، من غير الواضح فيما إذا كانت الولايات المتحدة في ظل حكومة أوباما ما زالت ترى العالم من زاوية جبهة الحلفاء الذين يجب التمسك بهم في مواجهة محور الخصوم الذين يجب إضعافهم؛ فمن ناحية أوباما انتقادي، بل وأكثر من ذلك تجاه حلفائه (مبارك مثلًا) ومن الناحية الأخرى فهو يعمل على إرضاء خصومه وخصوم حلفائه (إيران مثلًا)؛ الأمر الذي يقلل من قيمة الرعاية الأمريكية، يحتمل ان يجدي أسلوب أوباما أكثر في التوصل الى التوازن مع الخصوم، أكثر من تعزيز قوة كفاح حلفائه.

واشنطن وإسرائيل مختلفتان في رؤيتهما لمواضيع مركزية كثيرة مثل النووي الإيراني وعملية « الجرف الصامد » وأزمة السلاح الكيماوي في سوريا أو دعم الرئيس السيسي، ومن غير المعروف ما سوف تكون سياسة الولايات المتحدة في حقبة الرئيس القادم، غير ان الواقع الامريكي يتغير بطريقة تجعل من الخطورة بمكان الافتراض ان ما كان قبل أوباما قد يعود من بعده؛ الولايات المتحدة تمر بثورة جيو استراتيجية بتحولها الى الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة والى منتجة رائدة لها، والديموغرافية الامريكية تتغير ومعها تتغير أيضًا رؤية العالم، على إسرائيل ان تتجهز لواقع فيه الاهتمام الأمريكي بها وبالشرق الأوسط أقل.