خبر هل ننجح في اختبار مراجعة السياسات؟.. فهمي هويدي

الساعة 07:07 م|04 أغسطس 2015

المراجعات مطلوبة في زمن رسم الخرائط الجديدة للمنطقة، والسؤال الآن هو: هل نحن جاهزون لذلك أم لا؟

(1)

في الثلاثين من تموز الماضي، نشرت جريدتا «الشروق» و«السفير» مقالة للأستاذ جميل مطر ـ المحلل السياسي ـ انتقد فيها غياب مصر عن الخرائط الجديدة التي تشكلت في المنطقة، خصوصا في علاقاتها بإيران، وقال صراحة انها التزمت بصداقات دولية وإقليمية جعلتها تصطف في الجانب المخاصم لإيران، مشيرا إلى الدور الذي لعبته واشنطن في ذلك. وكانت النتيجة ان مصر برغم وزنها الكبير، ابتعدت عن متابعة ما يحدث من تطورات داخلية في إيران على مختلف الأصعدة. ودعا الكاتب في ختام مقالته إلى مراجعة مصر لموقفها وتصوير الخطأ الذي وقعت فيه خلال العقود الثلاثة الماضية، بحيث يصبح في مقدورها ان تسهم في تشكيل بيئة إقليمية جديدة في الشرق الأوسط.

هذا الكلام الجديد نسبيا بين المحللين السياسيين المصريين كان له صداه السريع في الساحة السعودية. فقد نشرت صحيفة «الحياة» اللندنية مقالة مؤيدة له يوم 2 آب للكاتب السعودي البارز داود الشربان، قال فيها ما يلي: ما قاله جميل عن كسب مصر خصومات دول بسبب انحراف سياستها الخارجية وراء صداقات دول كبرى ينطبق على آخرين (لاحظ الإشارة).. ومن يقرأ تاريخ العلاقات العربية التركية والعلاقات العربية الإيرانية خلال العقود الخمسة الماضية سيجد أن تلك العلاقات تتذبذب صعودا وهبوطا استنادا إلى تأثر هذه العلاقة بمصالح ورغبات دول أخرى.. ولك أن تتخيل حال الوضع في الشرق الأوسط والخليج تحديدا، لو ان مصر والسعودية ظلتا على علاقة منفتحة مع إيران وتركيا خلال العقود الماضية. لكن الذي حدث ان البلدين فرطا بهذه الفرصة من أجل دول كبرى، وأحيانا دول شقيقة صغيرة تحرض على إيران في العلن، في حين تقيم معها علاقات تصل إلى حد الشراكة. وختم الكاتب مقالته بقوله ان انفتاح السعودية على مصر وإيران والتفاهم معهما بشكل مباشر يصب في مصلحة الأمن القومي للجميع والأمن الإقليمي في المنطقة، فضلا عن ان انفتاح القاهرة على طهران يجب ألا يثير حساسية سعودية، وانفتاح الرياض على أنقرة يجب ألا يغضب مصر، ما دام البلدان جناحين في جسد واحد.

(2)

هذه لغة جديدة في الإعلام المصري والسعودي تتجاوز الخطوط الحمر التي استقرت في وسائل الإعلام. صحيح انها لا تعني حدوث أي تغير سياسي في مواقف البلدين، وان الكاتبين يعبر كل منهما عن رأيه الخاص ولا يتحسب لدوائر صنع القرار في مصر أو السعودية، إلا أننا نعلم جيدا ان إطلاق دعوات من ذلك القبيل الذي عبر عنه الكاتبان لم يكن مرحبا به أو غير مسموح به بين السياسيين فضلا عن المثقفين. ناهيك عن ان مقاربة الملف من زاوية التقارب ومد الجسور ظلت بمثابة مغامرة تكلف صاحبها الكثير وتفتح عليه أبواب التشكيك والتنديد والاتهام، ولا ينبئك في ذلك مثل خبير. وحين تصدر الدعوة عن كاتبين مستقلين نجا كل منهما من لعنة التصنيف وأختام الاعتماد والتنميط، فإن ذلك له أهميته الخاصة التي لا تخفى دلالتها. في هذا الصدد، أزعم أن الدعوة التي تم إطلاقها تستدعي ملاحظات عدة منها ما يلي:

ــــ إن مفاجأة الاتفاق بين واشنطن ومعها الدول الكبرى من ناحية وطهران من ناحية ثانية، هزت بعض أعراف السياسة الخارجية في الدول العربية والخليجية منها بوجه أخص. وأحدثت الهزة حالة من الإفاقة لدى الجميع، نبهتهم إلى أن ثمة خرائط وتوازنات جديدة في المنطقة، الأمر الذي فتح الأبواب واسعة لمراجعات شملت ما بدا انه أعراف أو «ثوابت» في المرحلة السابقة. وما عبر عنه الكاتبان يدخل ضمن تلك المراجعات.

ــــ إن المراجعات لا تعني بالضرورة اتفاقا في السياسات، لكنها تعني أمرين بالدرجة الأولى، هما إعلاء المصالح الاستراتيجية العليا من ناحية، وترشيد اسلوب إدارة الاختلاف من ناحية ثانية، كما انها تحتمل من ناحية ثالثة القبول بالاتفاق في ما هو مرحلي مع استمرار الاختلاف حول ما هو نهائي. وهو الحاصل الآن مثلا في علاقة واشنطن مع طهران التي ينطبق عليها ذلك التوصيف؛ إذ برغم اتفاقهما في الوقت الراهن، إلا أن كل طرف له أهدافه المغايرة في نهاية المطاف.

ــــ إن الكاتبين اتفقا على ان مخاصمة الدول العربية لإيران لم تتم بناء على تقدير وحسابات للمصالح العليا لدول المنطقة بقدر ما كان ذلك تجاوبا وانصياعا ــ بالدرجة الأولى ـ لسياسة واشنطن وحساباتها.

ــــ في الحالة المصرية على الأقل، فإن المؤسسة الأمنية التي كانت لها الكلمة العليا في التعامل مع الملف الإيراني ضمن ملفات أخرى حساسة، اخطأت في الحساب والتقدير، وقدمت المصالح الأمنية الضيقة على اعتبارات الأمن القومي الأمر الذي أدى إلى تهميش دور مصر واتاح الفرصة لبناء الأمن الإقليمي في المنطقة بعيدا عنها.

(3)

لا استطيع أن أفصل بين رياح المراجعات التي تلوح في الأفق وبين الزيارة التي قام بها لمصر هذا الأسبوع (الأحد 2/8) وزير الخارجية الأميركي جون كيري، وبرغم انها قدمت في الإعلام المصري على أنها استئناف للحوار الاستراتيجي الذي انطلق العام 1988، إلا أن إشارات عدة دلت على ان الشأن الإقليمي في الزيارة كان نصيبه أوفر من الشأن المحلي. بكلام آخر، فإن زيارة الوزير الأميركي التي استغرقت يوما واحدا ركزت على علاقات مصر بدول الإقليم بأكثر مما تناولت الأوضاع الداخلية في مصر. وهو الجانب الذي أبرزته بعض الصحف المصرية. صحيح ان الرئيس المصري أصدر قانوني مباشرة الحقوق السياسية ومجلس النواب قبل 24 ساعة من وصول السيد كيري (يوم السبت 1/7)، وهو ما قد يكون مجرد مصادفة، إلا أنه يمكن ان يقرأ بحسبانه إشارة ايجابية إلى اعتزام مصر الالتزام بالنهج الديموقراطي، وهو الأمر الذي يثير لغطا من جانب بعض النواب الديموقراطيين في الكونغرس الأميركي، إلى جانب ملفات أخرى تتعلق بأوضاع حقوق الإنسان وسقف الحريات المتاح في مصر. وهو ما تحدث عنه كيري في مؤتمره الصحافي.

التقرير الذي نشرته جريدة «الشروق» للزميلة دينا عزت في اليوم الأول من آب ربما كان الأكثر دقة في تغطية زيارة وزير الخارجية الأميركي، إذ وصفتها بأنها بمثابة «عودة محدودة» للحوار الاستراتيجي بين البلدين الذي بلغ ذروته في تسعينيات القرن الماضي. وأشار التقرير إلى أن كيري سيبحث في القاهرة دور مصر في مواجهة الجماعات الإسلامية المسلحة بالتعاون مع حلفاء أميركا الإقليميين الآخرين بما في ذلك تركيا وإسرائيل. أضاف أن كيري سيطرح على القاهرة بخاصة خلال لقائه مع الرئيس السيسي آفاقا لتعاون إقليمي يكون للقاهرة وطهران دور واضح فيه، خاصة في ما يتعلق بمحاربة تنظيم «داعش». ونقل التقرير عن دبلوماسي أميركي قوله إن الوضع الآن أكثر ملاءمة لترتيب ذلك التعاون، بعدما أخذت إيران على نفسها تعهدات واضحة في إطار التفاوض مع الدول الست بشأن عدم استهداف الأمن القومي لحلفاء واشنطن في الشرق الأوسط، بما في ذلك إسرائيل ومصر والسعودية.

خلص التقرير المنشور إلى ان «داعش وإيران وكذلك سوريا واليمن وتطورات الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة ستكون المحور الأساسي لما تصفه المصادر المصرية والأميركية بالنقاشات الموسعة التي ستدور بين الوفدين المصري والأميركي في جولة الحوار الاستراتيجي».

* ملحوظة هامشية: في كل ما نشر عن الزيارة، فإن الإعلام المصري تجاهل تماما ولم يشر بكلمة إلى دعاوى تآمر الولايات المتحدة على النظام المصري وتعاون المخابرات المركزية الأميركية في ذلك مع التنظيم الدولي لـ «الإخوان» ودعم واشنطن للجماعة، إلى غير ذلك من الدعاوى التي جرى تسويقها في وسائل الإعلام طوال العام الماضي.

(4)

هي مصادفة لا ريب، ان ترتفع بعض الأصوات في العالم العربي داعية إلى إعادة النظر في المواقف وتغليب الرؤية الاستراتيجية في التعامل مع إيران وتركيا باعتبارهما دولا كبرى محورية في المنطقة، وان يتزامن ذلك مع جولة وزير الخارجية الأميركي التي أثارت الموضوع نفسه. وهو ما يسوغ لي أن أقول بأن ثمة استشعارا بضرورة فض الاشتباك وانهاء العداوات والاحتراب الداخلي بين الدول المهمة في المنطقة، لان ثمة خطرا متناميا يهدد الجميع يمثله «داعش» والجماعات الإرهابية المماثلة.

لا تفوتنا هنا ملاحظة أمرين من الموقف الأميركي: الأول ان الرئيس باراك أوباما يقترب من انتهاء ولايته الثانية، وهو يسعى جاهدا لتعزيز انجازاته السياسية التي سيدخل بها إلى تاريخ الولايات المتحدة، وهو ما تمثل حتى الآن في إعادة العلاقات المقطوعة مع كوبا منذ خمسين عاما، وتوقيع الاتفاق النووي مع إيران. وهو يريد أيضا ترتيب أوضاع الشرق الأوسط بحيث تتولى دوله أمرها، لكي ينصرف للتعامل مع التحدي الأكبر الذي باتت تمثله الصين، إذ بالمقارنة، فإن صراعات الشرق الأوسط باتت هَمًّا هامشيا وفرعيا إذا قورن بالهم الأساسي الذي تلوح به الصين الصاعدة بقوتها الاقتصادية وتطلعاتها السياسية في شرق آسيا.

الأمر الثاني ان الإدارة الأميركية أدركت أن مؤشرات الصراع العربي الإسرائيلي تراجعت بشكل ملحوظ في المنطقة، وان تفاهمات إسرائيل المعلنة وغير المعلنة مع بعض الدول العربية المهمة وصلت إلى درجة غير مسبوقة في التنسيق وتبادل المصالح، خصوصا مع مصر، حتى أصبحت إسرائيل تصنف ضمن محور الاعتدال في المنطقة. وهو ما دفع واشنطن إلى تأييد انهاء عمل القوات المتعددة الجنسيات الموجودة في سيناء لضبط الحدود المصرية الإسرائيلية (طبقا لاتفاقية السلام الموقعة العام 1979). إذ اعتبرت انه لم يعد هناك مبرر لاستمرار وجود تلك القوات في ظل التفاهمات الحاصلة بين مصر وإسرائيل (مصر عارضت الاقتراح).

لسنا نتحدث عن أقدار مكتوبة ولا عن أوضاع مفروضة، ولكن الأكيد اننا بصدد رياح تهب وتفاعلات تلوح في الأفق وسيناريوهات تعد لمستقبل المنطقة التي نحن جزء منها، وعلاقتنا بذلك كله ــ سلبا أو ايجابا ــ محكومة بالإرادة السياسية أولا وبمقدار عافيتنا وحصاناتنا على أرض الواقع ثانيا. كما انها محكومة أيضا بقدرتنا على تحري المصالح الاستراتيجية العليا وعزوفنا عن الاستدراج إلى التورط في الحسابات الآنية والضيقة. إلا أن السؤال الذي أكرره دائما ولا يمكن تجاهله في هذا السياق هو: هل تستطيع ان تتصالح الحكومات مع محيطها قبل ان تتصالح مع شعوبها؟