خبر عيد الفطر.. كل عام والأمة بخير..علي عقلة عرسان

الساعة 11:45 ص|18 يوليو 2015

 

 

 

كل عام وأنتم بخير.. طاعة مقبولة، وأجر عظيم بإذن الله. 

نحن في العيد.. ومنذ أن كان البشر كان العيد، والأعياد: فردية، وعائلية، وجماعية.. دينية وشعبية، وطنية وقومية؛ وقد تنوعت الأعياد وتعددت، تغيرت وتطورت.. لكنها بقيت منذورة للراحة والبهجة والفرح. إن لكل حي من بني البشر أكثر من عيد، ومن حقه الفرح في كل عيد يعنيه، ويجد أنه يدخل السرور إلى قلبه.. نعم من حقه أن يفرح في العيد،  حتى لو كان الحزن يكوي قلبه ويضنيه، ويغمره بمآسيه، فلروح طاقة وللقلب طاقة، وقد جاء في الأثر: « روحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا كلَّت عميت »، وهذا في بذل الجهد عامة، فكيف إذا كان الجهد عاماً؟!.. والعيد، فضلاً عن الراحة، هو نور، نور قلب يطفح على وجه، واستراحة نفس بعد تعب ورَهَق، وابتهاج روح بما قد يبعث أملاً أو يحييه، وبما ينجي من مغبة إثم: ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ﴿٣٤﴾ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴿٣٥﴾ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴿٣٦﴾ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴿٣٧﴾ ـ سورة عبس. ويوم ﴿ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ﴿١١﴾ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ﴿١٢﴾ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ﴿١٣﴾ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ﴿١٤﴾ ـ سورة المعارج. وغالباً ما يغزو النفسَ البشرية في الأعياد تسامح، وهي تُدعى إليه في كل عيد ديني على الخصوص، لأنه من مقومات صفاء النفس، ومن واجبات المسلم، ومن دلالات الإيمان، وحسن الخلق، وسلامة التصرف.. فالعفو، والصفح، ونبذ، الضغائن، و وأد الكراهية، وإشاعة السلم والأمن والطمأنينة في الأنفس وبين الناس.. هو العيد، وبيئته، وبهجته، ومعناه، ودِلالاته. والتعامل باحترام، والتواصل بمحبة، والتصافي بين الناس بنقاء.. عيد. وعيدنا اليوم عيدٌ جامع لأمم وجماعات في قارات الأرض كلها، فهو أحد أعياد دينية، إسلامية، ثلاثة: الجمعة، والفطر، والأضحى، فيها يجتمع المسلمون، وبها يبتهجون. ونحن في بهجة الفطر بعد صوم، هو في الجانب الأسهل منه: « امتناع عن تناول الطعام والشراب من الفجر الأول إلى غروب الشمس »، أما في الجانب الأصعب منه: فهو جهاد النفس، والارتفاع بها فوق كل ما يؤذيها ويشينها ويرديها، وردعها عن المعاصي والشهوات، وجعلها تقاوم المغريات، وترفض كل وسواس بما لا يستقيم معه عمل، ولا تقبل معه عبادة، وحثها على التسامي، ونبذ كل تفكير وتدبير وتعامل، يؤذي الآخر، ولا يليق بمؤمن بالله، وعامل على طاعته، وآخذ بما حثَّ عليه ونهى عنه، وراغب في عفوه ومغفرته ورحمته. على أن شهر الصوم، رياضة نفس وجسد وروح بين عام وعام، يتجدد بعدها الفعل، الوجاء « الصوم »، لتتجدد قدرة الإنسان على تحقيق ما رمت إليه هذه الفريضة الإلهية من غايات، وما حفلت به من دروس وعظات، وما انطوت عليه من خير ورحمة وبركات.

فإذا كان زاد المرء، تقوى، تثبت إيمانه، وتزيده إيماناً على إيمان، فهو في رمضان مبارك دائم، يرفع مقام روحه ونفسه درجات، ويرتقي بشهوات جسده ارتقاء يجعله مصاناً محمياً، وراضياً مرْضياً. وهذا صيام من نوع لا يتوقف على الامتناع عن تناول الطعام والشراب لوقت، ولا يبدأ برؤىة هلال الشهر الفضيل، ولا ينتهي بتمام أيامه.. بل يدوم، ويدوم، ويدوم.. وفرحه فرح المسلم، بكل ما في الإسلام والإيمان من فضل وهداية ونور، وهو رحمة تدرُّ رضى، وأملاً، وفرحاً متجدداً..﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ ـ سورة يونس ١٠.. وفي بعض معاني ذلك النوع من الصوم وغاياته، يندرج ما قاله الشريف الرضي، للخليفة الطائع لله « 320 هـ - 393 هـ » العباسي:

إذا ما المرء صامَ عن الدنايا     فكلُّ شهوره شهرُ الصيامِ

لكن سؤال اليوم، الذي نأمل ألا يفسد على معيِّدٍ بهجة، هو سؤال جراح، تجعل بهجة البعض منا في العيد، مشروخة حدَّ النزف.. وهي مشروخة بمآت آلاف الضحايا، وبأكثر من ضعفهم من الجرحى والمعوقين والمصابين بعاهات دائمات.. وبأضعاف أضعاف أضعاف أولئك مجتمعين، في عديد يتجاوز العشرة من الملايين.. بين مشردين، وجائعين، ومرضى، وخائفين، ومخطوفين، ومسجونين.. وثكالى، ويتامى، وأيامى، وأطفال بلا مدارس، وأجيال بلا أمل.. إلخ، في البلدان التي تكتسحها الفتنة العمياء، لا سيما في العراق وسورية واليمن.. فهل لنا في تلك الأرض العزيزة عيد، وهل يحق لنا فرح في هذا العيد، على الرغم من جسامة الفَقْد وعديد من فُقد وما فُقِد..؟! نعم من حق المرء أن يفرح، ومن حق الجسد والنفس والروح التجدد في عيد.. ولكن هل نحن، بذلك الذي كان منا وحل بنا، نملك ما يجعل من يومنا عيداً؟!.. أي بمعنى أننا صمنا طاعة لله، والتماساً لرحمة الله، وعملاً بأمر الله، ليكون لنا فرح بما « أنجزنا؟! »، مما وعد الله عباده بجائزته.. و« نا » هنا، الواردة في صيغة الجمع، فيما يلي، هي للمسؤولية الجماعية، وشبه الجماعية، عن أفعال مدانة ولا تُغتفر، يتحمل كلٌ من: مرتكبها، والمساهم فيها، والساكت عنها.. مسؤولية: أخلاقية، وتاريخية، ودينية، بدرجة من الدرجات، وبورك الناجون.. هل صمنا وأنجزنا ولنا جائزة وفرح وعيد؟! أم أننا جعنا جوع الكلاب، وارتكبنا من المعاصي والجرائم ما يوجب المساءلة، وأقسى العذاب.؟! لقد مارسنا القتل، وارتكبـنا أشنع الكبائر وأبشعها، وفعلنا ما يخرج بالفعل وبمن فعله، عن الدين والمنطق والقانون، وعما يمت للأخلاق والبشر بصلات.. وأننا افترينا، حين قلنا: إن ذلك في سبيل العدل والحرية والكرامة، أو في سبيل الوطن والشعب والسيادة والشهامة.. وأنه أصبح بعد وقت، باسم الله، وباسم ذوي الإيمان بالله، وذوي الحرص على الإنسان والأوطان.؟! وهل راعينا حق الله في الناس، وحق الناس على الناس، وحق البلاد والعباد، في من ظلمناهم حتى أخرجناهم، وفي من أفسدناهم وأفسدنا بهم، حتى أغرقناهم وأغرقَنا فسادُهم في الانحلال والاضمحلال، وفي المستنقعات الآسنة، ومناقع الدم.. وفي من عرَّضناهم، وتعرض بعضنا معهم وبسببهم، لألف موت، بين كل موت وموت..؟! وفي من تجرعوا من العذاب والذل والصاب، ما لا يُقدَّر ولا يُوصف، وعانوا وما زالوا يعانون الأمرين، وهم في جوع وخوف، وبؤس وانعدام أمن، وفي دوامة رعب دائم، وإرهاب داهم، وفتنة متّقدة.. لا يعرفون راحة حتى يأتيهم الموت؟!.. وهل راعينا حق العِباد في المعاملات، وحق الله، سبحانه وتعالى، في العبادات، كما أمر، في شهر الطاعة والعبادة والرحمة هذا، « رمضان »، وفي ما سبقه من أيام، وأسابيع، وأشهر، وسنوات، وفي ما كان قبله من رمضان بعد رمضان، ضمن ربيع المحنة الطاحنة، والفتنة الفاجرة، وجنون الحرب.. ذاك ربيع الفتك بكل ربيع في الأرض والأنفس والروح الذي عمَّ ديارنا، ونعيشه مرارات منذ خمس سنوات؟! أم أننا أَرَقنا الدم، وفعلنا المحرّم، وارتكبنا الجرم والإثم.. واستظل كل فريق من الذين يقتتلون، ويأتمرون، ويأمرون، ويتآمرون، ويشترون بنا ويبيعون.. استظل بظل شعبة من شعب ما يراه الوطنية أو الدين أو الإنسانية، يدّعي أنها كل الوطنية وكل الدين وكل الإنسانية.. وأنه بانيها وحاميها.. يقتل باسمها، ويستبد باسمها، ويبيع باسمها، ويقبض باسمها.. ويفجُر باسمها، ويقاتل بغيره تحت رايتها وباسمها؟!.. أليس ذلك الذي كان، والذي هو كائن، ومستمر في الكينونة.. أليس هو الولوغ في الدم البشري، وتجاوز لآبعد حدود الإجرام، وبلوغ لمنتهى الإزراء بالخُلق القويم، والقيم السليمة، ومفهوم الدين؟! أليس هو الاستقرار الثُّمالي المطلق، البالغ أدنى درك في الإثم والعدوان والقهر والظلم واللا يَقين.؟! ولقد تم هذا، ويتم، وينذر بأنه سوف يستمر.. فهل تبقى لنا في ظله حياة، حتى يبقى لنا فيها طعم فرح، وبهجة عيد.؟! 

إن الموكلين بذلك والموكل إليهم ذلك.. لم يبقوا بهجة على وجه الأرض في وطننا الذي تفيض فيه الدماء، ويتجدد فيضانها صباح مساء.. أي في سورية والعراق واليمن على الخصوص.. فكيف يكون للناس في تلك الأرض عيد، وكيف يكون قوامه، ولونه، ونكهته، وطعمه؟! وكيف تكون أصلاً: بهجة لعيد، أو راحة من أي نوعٍ، ولأي سببٍ، وتحت أي عنوان.. في قلوب منهكة ومنتهكة، وأنفس محكومة بالظلم والعذاب والإرهاب، وبأفظع أشكال الموت.. حتى وهي في أقدس أقداس أي محراب.؟! وكيف يمكنها أن تتجنب ذلك المصير أو تحد من تأثيره ونيران تنوره، وهي يُفعل بها ما يُفعَل، من دون ذنب اقترفته، أو جرم ارتكبته، محكومة بالضر، والحر، والقر، والقهر.. من دون أمل بفرج قريب، تخرج به من ظلمات الظلم، ومن جحور هي القبور، إلى الهواء والأمن والأمل والنور.. الحياة.؟!

لا بهجة في العيد، وعذراً من كل من له ألف حق وحق بالبهجة والفرح بالعيد.. لا فرح في عيدنا نحن، ولا رجاء، ولا أمل، للكثيرين منا في بلادنا.. وكثرة من الكل، تنكر للضعفاء البسطاء الأبرياء، وصدَّ عنهم، وعما في العقل والنقل من: حكمة، وفهم، وعلم، وإيمان، وخُلق، ويقين.. وصد من صد من أبنائهم، وإخوانهم، ومسؤوليهم، ومثقفيهم، ومؤمنيهم.. إلخ، عن سبل الله سبحانه، وعن الدين، وعن الوجدان والحق والعدل، وعن التبصر والتدبر والاتعاظ والاعتبار بكل ما صار ويصير.. حين أسلموهم للمجهول واليأس، ولجهات معادية لا يهمها إلا أن يتم تدمير العروبة والإسلام، ويقبضوا على عنق العباد والبلاد بأدنى التكاليف وبأبخس الأثمان؟! ويا أسفاً، فيض الصديد في أرضنا، وفي بعض أنفس مَن هم من جلدنا ولحمنا ودمنا و.. يغمر ويزيد.. فكيف السبيل يا ترى إلى عيد، وبهجة، وأمل، وفرح في العيد.. وإلى تطلع مشروع بقطف ثمار عمل طيّب، وكلِم طيب، لبشر طيّب، صام وصلى وقام، ودعا الله مخلصاً له الدين.. كي تنار الدروب إلى القلوب، وتنار بصائر القلوب لتبصر العيون، وليرى الناس الحق في الناس، وتُنار إلى العدل والسلم والأمن والحرية الدروب..؟! ولكي يكون لنا، في مثل هذا الشهر الفضيل، ذي العيد، ما هو حق لنا، مثل غيرنا، في عيد.. هو هدى ونوروراحة ورحمة، حيث يهدي الله من يشاء، وينقذ من الضلال من يشاء.؟!

وبعد، فإنني إذ أكرر تهنئتي بعيد الفطر لكل المسلمين؛ ألتمس من الفرحين، والمبتهجين، والمستمتعين منهم بحقهم، في العيد.. لا سيما من القراء الكرام.. ألتمس منهم ألف عذر وعذر، لأنني ربما أكون، ببعض هذا الحديث عما يخالجني ويستولي عليّ، بسبب ما يجري للإنسان في بلدان عربية ذكرتها، ولمسلمين يشاركون في ما يجري فيها.. ربما أكون أثرت لدى بعضهم شجناً، أو أشجيت قلوباً بما ذكرته وذكَّرت به. لكن من تراه يستطيع تجاوز الواقع المر، أو ينسى المرارة في الحلق، أو لا يشعر بالجراح النازفة..؟! ومن تراه لا يشاطر بعض الناس ما أصابهم من مصاب أليم، ومن تراه لا يتحسر على أوطان هي: العمران، والحضارة، وتاريخ الكتابة، والثقافة، والمعرفة، ومهبط الرسالات، ومنطلق الأديان لدى بني الإنسان..؟! ومن لا يثور ويتألم ويغضب.. حيث يدمرها الجهل، والحقد، والعَته، والبَله.. ويستفحل في مغانيها الشر، ويتحكّم بها نوع فريد من الادعاء والفجور والغباء، وتسيل في قراها ومدنها وطرقاتها سيول الدماء.؟! على أنني أقول، كما سبق وقلت، وأوكد ما سبق وأكدت، مراراً وتكراراً.. إن هذه الأمة العربية ستنهض من كبوتها، ولن يكون هذا الشر المحدق بها، ولا العدوان والتآمر المتضافران عليها، ولا الجهل والظلم والاستبداد والإرهاب المستفحل فيها.. لن يكون في ذلك كله نهاية لها، ولن يكون حائلاً دون استعادتها لوعيها وعافيتها وسيادتها. وحين نستعيد من وقائع التاريخ، ومن شريط الذاكرة، ما مر بها، وما تجاوزته من فتن ومحن، وما خاضته من معارك، وما واجهته وتصدت له من تحديات.. ندرك أنها أمة باقية، وأنها غير قابلة للإفناء، وأنها عائدة إلى دور إنساني مهم في العلم، والثقافة، والحضارة. وفي هذا تحدٍ يعلن لها عن ذاته، ويواجهها بقدراته.. وفيها وفي تاريخها وقدراتها عزاء يعزز إمكان تجاوز ما جرى لها، ويشكل ما يمكن أن يطمئن إليه المرء من عزاء.. بمعنى أنها القادرة على البقاء بكل معنى من المعاني.

إن هذا لا يلغي المرارة، ولكنه يَجُبّ اليأس، ويذكّر بأن الأرض والسماء كلها فجاج ومعارج، يسلكها الإنسان ويهتدي بها، ويسلكها ليبلغ ما يبقيه وينقذه ويجدده، و ما يجعله مبدعاً في تحقيق ذاته وما يريد.

 

دمشق في الخميس، ١٦ تموز، ٢٠١٥

 

علي عقلة عرسان