خبر اللعبة الخطرة ومستر دولار.. علي عقلة عرسان

الساعة 09:02 م|10 يوليو 2015

برانسلاف نوشيتش كاتب مسرحي يوغسلافي، ولد في بلغراد عام 1864، واشتغل دبلوماسياً ومديراً لبعض المسارح، بعد أن حصل على إجازة الحقوق. وله عدة مسرحيات منها: نائب الشعب – الواسطة- المريب - حرم جناب الوزير- المرحوم- إنسان عادي- كلام الناس- مستر دولار – الهامسون- الشيطان داخل القرية- رجل من الشعب- اللعبة الخطر، في عرض البحرو، العائلة الحزينة، المتوفى، وغيرها كثير. وكانت آخر مسرحية كتبها هي « السلطة »، لكنه لم يستطع إكمالها، فقد عاجله الموت، وتوفي عام 1938.

ويعتبر نوشيتش من أشهر الأدباء اليوغسلاف الذين خدموا المسرح، وقد ناضل من أجل تطهير المجتمع، وبناء الحياة الحرة الكريمة فيه. وهو من كتاب الملهاة الساخرة التي تنتقد المجتمع من مختلف جوانبه، وقد برَّز في هذا المجال بصورة واضحة.

اللعبة الخطرة إحدى مسرحياته النفسية العميقة، التي استطاع فيها أن يبرِز شخصياته بأطر واضحة وبسيطة، رغم عمق التناقضات التي تعتمل في داخلها.

تدور حوادث المسرحية في منزل الدكتور مونيل، وهو طبيب هجر الطب بعد أن أثرى وتقدمت به السن، وهاهو يقيم في فيلا وثيرة، فيها مكتبة ضخمة، ويتابع فيها دراساته وبحوثه. وتعيش معه في المنزل نانيتا، ابنته بالتبني، كما يقول. يحاول الدكتور مونيل أن يطبق على نانيتا نظريةً، يدعي أنه يحاول إثباتها، ومفاد تلك النظرية، كما يشرحها:

« العلاقاتُ الاجتماعية ما تنفكُّ تزدادُ تعقيداً على مرِّ الأيامْ. فالمرأةُ يزدادُ دخولُها في دائرةِ الحياةِ العامةِ وتغلغلُها فيها، وممارستُها لأعمالِها، حتى أصبحت مساويةً للرجلِ تمامَ المساواة.. وعلى الرغم من هذه الظاهرةِ التي تنمو بسرعةٍ فائقةٍ، فإن علاقةَ الرجلِ والمرأةِ، لا تزالُ في وضعِها الذي كانت عليه في أولِ عصورِ البشرية. وأكثرُ من ذلك، فقد نمت هذه العلاقةُ، وأصبحَ لها أهميةٌ كبرى في مجتمعنا. ولا شك أن ذلك من شأنِه أن يقضيَ على الميولِ النبيلةِ متى تغش في مجتمع من المجتمعات. وإلى أن يُفلحَ الرجلُ والمرأةُ في الهبوطِ بأمرِ عبادةِ الذكرَ والأنثى إلى أدنى درجاتِ اهتمامِهما، لا يمكن لهما أن يتلاقِيا في عملٍ مشتركٍ، وأن تتحققَ بينهما المساواة ».

والدكتور مونيل يعمل منذ مدة على إقناع نانيتا بعدم وجود العاطفة والحب، وهو يحاول أن يميت فيها طبيعة المرأة.. ويسلك لذلك سبلاً منها الإقناع، والتأثير الشخصي. وقد أثر مونيل في نانيتا إلى حد بدأت تشعر معه بانعدام الفرق بين الرجل والمرأة، وبأن الرجل لا يثير فيها أية نزعة، وبدأت تمتنع على الزواج، وتنكر عواطفها ومشاعرها كامرأة، وتظهر عدم الاهتمام بأي شاب يتقدم لخطبتها.. بل ولا ترى في سلوك المرأة مع الرجل إلا نوعاً من الحيوانية، وهو سلوك تجب محاربته بنظرها. ويرجع كل ذلك إلى سيطرة مونيل عليها، فهو منذ صغرها لم يحدثها إلا عن قوة الطبيعة ونظريات العلم، ويحاول أن ينسج حولها قفصاً محكماً مسلحاً بالمنطق وانعدام الرغبة. ويصل مونيل إلى حد القناعة بأن ما وصل إليه مع نانيتا نظرية علمية ممكنة.. ويستدعي إلى بيته صديقه الدكتور أومسكي، أستاذ الجامعة ومساعده الدكتور ألن، ولكن الدكتور اومسكي يحضر صديقاً له يدعى أوفن، وهو رسام معروف وفنان فذ.

وفي فيلا الدكتور مونيل تحدث أمور غريبة. فبعد أن يتولى الدكتور مونيل شرح نظريته لأصدقائه، ويثبت لهم بالوقائع سلوك نانيتا ما وصل إليه من نتائج، تثور ثائرة الفنان أوفن على هذه الطريقة في النظر إلى الطبيعة وإلى الإنسان. إنه يعتبر الطبيعة أساساً ثابتاً، حتى الفن تقدمه الطبيعة للإنسان، ولذا يثور على نظرة العلماء للطبيعة: « الطبيعةُ هي التي تخلقُ الجمالَ وتقدمُه للفنِ وليس الفنُّ هو الذي يخلقْ الجمالَ، لكي يفرضَه على الطبيعة، الطبيعةُ هي التي تخلقُ قوانينَ الكونِ ثم يستمدُّ العلم منها مبادئه، وليس العلم هو الذي يشيدُ قوانين الكون ومبادئه ويفرضُها على الطبيعة. تنكرون يا سيدي الدكتور، أو على الأقل تحاولون أن تنكروا، أن اجتماعكم بأكمله الذي كان منذُ قليل، ليس إلا إنكاراً لهذه الحقيقة. حقاً إنني سمعتُ حديثكم هذا بأذنِ واحدة فقط، ولكني مع هذا فهمت أن مشكلتكم أو نظريتكم أو نزوتكم العلمية، هي بالذات هذا الكفاحُ ضد الطبيعةِ. وكما أوحيت لنفسك عن طريق ذوقِ البستاني إن تشذبَ تيجانَ الأشجارِ هناك في الحديقةِ، أوحيت لنفسكَ، عن طريقِ أوراقِ البردي المصرية والأساطيرِ البوذية وتلك الكتبِ الضخمةِ هناك، أن تسارع إلى قتلِ الطبيعةِ في فتاةٍ صغيرةٍ شابة.

مونل: ولكن التجارب مسموحٌ بها دائماً.

اوفن: على الضفادع، وعلى الفيرانِ البيضاءِ، ولكن ليس على مخلوقٍ له الحقُّ في الحياةِ، والحقُّ في الشبابِ. لا تنس شيئاً واحداً فقط يا دكتور أنها لعبةٌ خطرة أن تغالبَ الطبيعة. إن الطبيعة طيبةٌ، ووديعةٌ، ومانحةٌ، ولكنها تعرفُ كيف تنتقمُ انتقاماً شديداً.

مونيل: مني؟

اوفن: من ذلك الذي يريد أن يخضعها للنظريات ».

ويتحدى مونيل أياً من الموجودين أن يحاول إثبات فشل نظريته، بأن يتعرض للفتاة نانيتا. ويتصدى لهذه المهمة مساعد الدكتور أومسكي الشاب، ولكنه يفشل، ويحاول أوفن أن يرسمها ولكن دون جدوى. ويفكر أوفن فيرسل خلف شاب جميل، فيه طفولة وسذاجة، يعمل في مرسمه.. ويحضر الشاب، وتكون المفاجأة، فقد بدأت نانيتا تلعب لعباً بريئاً مع هذا الشاب الجديد دانيل. لقد شعرت بأنها تعود إلى طفولتها، وتذكرت أنها متعطشة لتلك المرحلة من حياتها، مرحلة اللعب، فقد حُرمت من اللعب كلية، إذ أن الدكتور مونيل لم يكن يسمح لها باللعب، وكان يرافقها في نزهات جادة، يحدثها خلالها أحاديث عالم وطبيب. وتنساق نانيتا خلف مشاعرها التي بدأت تستيقظ، فتلعب مع دانيل، وتضحك، وتعود إلى الاخضرار، إن صح التعبير. ويلاحظ الدكتور مونيل هذا التغير، ولكن صديقه الدكتور أومسكي يضطر إلى الذهاب مع مساعده، ويبقى أوفن ليتابع عملية تحول نانيتا مع الفتى دانيل، وهو واثق من أنها لا بد أن تستيقظ فيها مشاعر الحب.

وتعود نانيتا إلى طبيعتها الإنسانية، طبيعة المرأة.. وتشعر بالحب، ويستيقظ في أعماقها  الشعور بالحياة ومباهجها وأبعادها، وتكتشف أنها كانت بعيدة عن طبيعتها. وتصارح الدكتور مونيل بالتحول الذي طرأ عليها، وبالأحاسيس التي بدأت تنتابها. ولكن الدكتور مونيل يبدأ بالمعاناة من أحاسيس ومشاعر أخرى، وهو بهذا يكشف عن أهدافه الأساسية التي حاول أن يموهها، إذ تتجلى فيه الطبيعة الإنسانية التي حاول أن يطمسها، أو أن يغلفلها بالنظريات العلمية، ويخاطب نانيتا بطريقة أخرى وبمنطق آخر.

مونيل: أعتقد أننا معشر البشر من دمٍ ولحم، وأننا معشرَ المخلوقات الصغيرةِ التي يبلغُ طولُها متراً وسبعين ليست لدينا القدرةُ لأن نقفَ في وجه عملاقٍ كالطبيعةِ. ويقولون إنه من الأفضل أن تترك العملاقَ يستيقظَ، لا أن توقظَه فجأةً من النومِ، لأنه عندئذ سيكون ثائراً ومجنوناً ولا يمكنك مقاومتُه. ونحن نفعلُ ذلك، أنا لأنني في خُرافةٍ، وأنتِ لأنك تستسلمين لخرافتي.

أجل نحن في خُرافة. يمكن أن تُقطعَ الأصبعُ، وأن تقطعُ الذراعُ، وأن تقطعَ الساقُ أيضاً، ويبقى الجسمُ كلّه مع ذلك سليماً.. ولكن لا يمكن استئصالُ الرئتين اللتين تعنيانِ الحياة. ونحن قد أردنا ذلك، أردنا أن نخمدَ إحساساً هو منبع السرورِ والسعادةِ والحياة. ولم نقنعْ فقط بتقليلِ اهتمامِنا بهذا الإحساس، ذلك التقليلُ الذي مازلتُ أدافعُ عنه باعتباره نظريتي، بل خطونا إلى الأمام أكثرَ من المسموحِ لنا به. لقد حاولنا أن ننكرَ ما تطلبُه الطبيعةُ منا. أنا لا أفعلُ الآن شيئاً آخر سوى أن أعترفَ بوجود الإحساسِ بالحب، وأنه لا يمكن إخماده.« .

إن مونيل يتراجع، ومع تراجعه يتكشف عن حب يكنه نحو نانيتا، وعن غيرة تشعل روحه وتلهب جوانحه، وقد تحول كل ذلك بصورة عكسية.. أي عبر عن ذاته بأسلوب هو أقرب إلى تملك من نوع قتال، إذا أنه لم يحاول أن يواجه طبيعته بصراحة ويقتنع بأنه يحب نانيتا الابنة المتبناة، ولم يستطع أيضاً أن يتخلي عنها.. ولذلك بدأ يقنعها، ويقنع نفسه، بأن لا وجود للحب ولا للأحاسيس والمشاعر التي يكنها كل من الرجل والمرأة أحدهما للآخر. ولكن عندما رأى علاقة نانيتا بدانيل تنمو، وعندما بدأ شعر بتحولها، وباستيقاظ مشاعر المرأة الأنثى لديها، وبأنها بدأت ترغب بدانيل، كما ترغب المرأة بالرجل.. استيقظت في نفسه الغيرة، وبدت الطبيعة كما هي، واضحة جلية صارخة في تعبيرها.

وقد صارح أوفن بهذه الحقيقة، إنه يحب نانيتا، وقد سار هذا الإحساس بطريقة غير طبيعية. وعبر مونيل عن حبه وعن غيرته بطريقة غير طبيعية أيضاً. ولكن أول صدمة واقعية حقيقية، » لقاء نانيتا مع دانيل« ، أخرجت كلاً من مونيل ونانيتا من جو الخرافة، ووضعتهما أمام حقيقة الحياة وحقائق الطبيعة.

إن مسرحية اللعبة الخطرة مسرحية جيدة البناء، عالج فيها المؤلف موضوعه بدقة، وبأسلوب فني يمتاز بخفة الظل، وعمق الفكرة، وجودة المعالجة.

ولا بد من الإشارة هنا إلى تشابه واقع بين هذه الملهاة لبرانيسلاف نوشيتش وملهاة موليير المسماة مدرسة الزوجات. فبطل موليير رجل مسن، غيور، حجر فتاة في بيت من صغرها، وأبعدها عن الناس بدافع الغيرة ـ شبه التملك -  ليربِّيها تربية زوجية صالحة كما يرى، خوفاً من الشباب والخديعة. ووصل في النهاية إلى اكتشاف واضح أنه اتبع طريقاً غير صحيحة، وأن السِّنَّ والطبيعةَ البشرية لهما أحكامهما التي لا يمكن تناسيها أو تجاوزها. وربما تأثر برانيسلاف نوشيتش بالفكرة، ولكن معالجته لها تحمل خصوصية وجدة، وذات أبعاد نفسية أعمق.. وأسلوبه في الطرح يختلف عن أسلوب موليير، كما أن النتائج التي خرج بها، والأهداف التي قصد إليها، تختلف عن تلك التي في مسرحية موليير.

وتبقى مسرحية اللعبة الخطرة من المسرحيات الجيدة فكراً، وإطاراً درامياً. وتعتبر من الملاهي العميقة والرشيقة في الوقت ذاته.

 

المستر دولار

السيد ماتكوفتش من الطبقة  الراقية، مطلع على خفاياها وعيوبها، يتردد مع أبناء طبقته على نادٍ خاص، يرتاده أصحاب الدنانير الكثيرة. وفي هذا النادي يمارسون القمار، والتزلف، والنفاق، ويتناقلون الفضائح، ويبدعونها. وقد وصل السيد ماتكوفتش إلى درجة من الضيق بهذا النفاق جعلته يضحي بالكثير في سبيل كشفه، ووضعه بروائحه الكريهة، أمام أفراد تلك الطبقة، لعلهم يقلعون عن شيء منه، أو ليريهم ما هم عليه، ثم ينسحب إلى الظل. ومن أجل ذلك يمارس لعبة بارعة ببرود أعصاب. إنه يتصرف على نحو يعاكس تصرف »ألسست Alceste« بطل مسرحية موليير »كاره البشر« ، أو العاشق السوداوي أو عنوان » Le Misanthrope ou lAtrabilaire amoureux

« ، لضيقه بالنفاق، وخروجه عليه خروجاً نزقاً متزمتاً.

لقد دبر ماتكوفتش خطته مع صحفي، أو بالأحرى أطلعَ صحفياً على خطته ليكون شاهداً من بعيد على ما سيجري. ويتلخص ما قام به في أنه قرأ »لجان Jane« خادم النادي رسالة جاءته من أميركا تحمل خبر إرث آل إليه من قريب له، مقداره مائة دولار أميركي، على أنه ورث ثلاثة ملايين دولار، ونشر الخبر بين أصحاب المال، ورواد النادي، وطلب هو إلى »جان« أن يوافق على كل ما يقوله هو له، وأنه سيغذي مشاريعه ونفقاته إلى أن يتلقى إرثه.

وهكذا أصبح الخادم مليونيراً، وتحول من الخدمة إلى ارتياد النادي، وحضور الحفلات، والإحسان.. وترامت عليه نساء أعضاء النادي وبناتهم، ليكون الزوج أو العشيق الذي يدفع.  وتولى ماتكوفتش إدارة أعمال »جان« والرقابة على تصرفاته، وبدأ يرصد ذلك التحول الخطير في مجتمع الطبقة الراقية (مالياً).

فها هو الصراع يحتدم بين ابنة رئيس النادي، وابنة أحد أعضائه من الكبار والعائلات المحترمة الممتلئة.. إنه تنافس على الزواج من »جان« . إحدى البنات تريده لأن ماله كثير، ويستطيع أن يوفر لها قصراً، وسيارات، ونزهات، وجولات حول العالم، وثياباً لا تنتهي.. والأخرى يريد لها أهلها أن تتزوج من »جان« ، لأن ذلك سيقيلهم من عثراتهم، وينقذهم من الضائقات المالية التي هم فيها.

أما الزوجات، فبعضهن ركضن ليغازلن الخادم السابق، ويحصلن منه على /26/ألف دينار ثمن معطف من الفراء، لم يوفره لهن أزواجهن. وقدمت إحداهن نفسها لقاء ذلك، لخادم ناديها السابق، وعندما عرف الزوج، وكان في طريقه لأن يريق ماء وجهه على عتبة »جان« ، ليحصل منه على المبلغ، عندما علم بذلك، طلب من السيد ماتكوفتش أن يحفظ السر.

أصبح »جان« حامل أوسمة، ومحسناً كبيراً، وشخصية اجتماعية مرموقة، وعضواً في إدارة أحد المصارف، وعضو شرف في عدد كبير من الأندية، والفرق، والتجمعات الفنية والثقافية.. وهو ما زال يروي قصة عن كلب سيدة داس على ذنبه سهواً، فنبحه الكلب حتى أخجله وأحرجه، وسبّب غضب السيدة عليه. إن »جان« لم يتغير لا فكرياً، ولا أخلاقياً، ولا سلوكياً.. إنه ذلك الخادم الذي لا يملك شيئاً، ويحب عاملة تدعى »مارشيكا« ، ويطمح هو وإيّاها إلى شراء مقهى صغير، والعمل فيه باستقلال وحرية. وهو يكره وضعه كغني. وبعد أن تعرّض لما يعاني منه رجل غني، بأخلاقه ونظرته هو نادل المقهى جان، لم يعد يصدق متى ينتهي من الوضع الذي هو فيه.

وصل ماتكوفتش إلى ما يريد، وكادت اللعبة تشارف على نهايتها، فها هي الفتاة المترفعة نينا، التي كانت تصرخ بجان »يا حمار« ، حين كان خادماً في المقهى، توافق على أن يكون خطيبها، ويقدم أهلها عمولة لتحقيق هذه الصفقة، وتصبح خطيبته فعلاً، وتغلب تماماً »يللا« ، الفتاة التي رغبت في الحصول على »جان الغني« . أما ماريشكا العاملة التي تريد »جان« فقيراً، ويريدها »جان« فقيرة أيضاً، فقد مزقتها الغيرة، ولكنها وافقت في النهاية، على أن تأخذ النقود التي قدمها ماتكوفتش على أنها من »جان« ، لتشتري المقهى الذي كانا يطمحان إلى شرائه، وقد كتبته باسم »جان« ، وعملت فيه بانتظار أن يفلس »جان« ، وينفَضَّ عنه الناس، ويعود إليها لترفعه وتحتضنه، وتمنحه ذاتها وما يحتاج إليه. إنه الحب والتضحية بين ماريشكا وجان.

عندما تصل الأمور إلى نضجها يدعو ماتكوفتش مجموعة أفراد الطبقة الراقية، رواد النادي، إلى المقهى الذي اشترته وأدارته ماريشكا. ويكون »جان« بين المدعويين، وقد أصبح خطيب نينا.. وهناك يقرر ماتكوفتش أن يدوي الرعد، وأن تقع العاصفة، فيكشف الأوراق: لقد وقع خطأ في القراءة، وتبين في ضوء رسالة ثانية أكثر وضوحاً ودقة، أن »جان« ليس من أصحاب الملايين، وإنما هو وريث له فقط مائة دولار أميركي.

وهنا ينفَضّ الجمع المتكوم على »جان« ، ويعيده ماتكوفتش إلى ماريشكا زوجاً، ورفيق حياة، وصاحب مقهى شهير، يحمل اسم »دولار« . ويجلس ماتكوفتش في مقهى »دولار« ، بينما يخدم جان وماريشكا بهمة ونشاط، ويقول لهما بوضوح: »نعم يا عزيزي انتهت الكوميديا، لقد اختفى المستر دولار، وانهار كل ما كان وجوده قائماً عليه. الصداقة الرخيصة، والحب، والشرف، والتكريم، كل شيء... كل شيء دفن تحت حطام المعبد الذي قوضت الحياة نفسها دعائمه، ها أنت ترى لقد انفض الجميع، ولم يبق سوى هذين السعيدين، السعيدين لأنهما لم يكونا عبدين « للمستر دولار ». وبعد ذلك يذهب جان وماريشكا للعمل بجد ونشاط ورغبة، ليقول ماتكوفتش الذي جلس يدخن في المقهى: « أيها  المؤمنون هيا إلى التعبد، ولكن لا تعبدوا الذهب، بل اعبدوا أنبل ما في الدنيا، اعبدوا العمل ». وهكذا تنتهي مسرحية برانيسلاف نوشيتس التي كرسها لفضح الطبقة الغنية، ولإعلاء قيمة العمل في الحياة.

المسرحية بسيطة التركيب، تميل إلى التطويل والتحذلق الساذج في بعض مشاهدها، وتترجّح على حافة « المهزلة Farce » في لقطات، لكن فكرتها جيدة. أما معظم نواقصها فتكمن في المعالجة الفنية/الدرامية. ويبدو أن المؤلف حرص على أن يقدم مسرحية يستطيبها الجمهور البسيط، ولا تتعمق في معالجة إنسانية ومواقف دقيقة، بعيدة الغور.

الحوار فيها عادي، والنتيجة واضحة، ومفهومة، ومنسجمة مع توجهات المؤلف في نقده الساخر للمجتمع، ومحاولاته الدائبة للإصلاح.

 

دمشق في الخميس، ٩ تموز، ٢٠١٥

 

علي عقلة عرسان